دراسات وتوثيقات / ترجمات وقراءات
أثر جهود صلاح الدين التربوية في تغير واقع المجتمع المصري.
مقدمة: صلاح الدين الأيوبي, شخصية فريدة أحبها المسلمون جيلاً بعد جيل لسيرته العطرة وجهاده في سبيل الله ومسارعته في نصرة المسلمين وتحرير بلادهم من الأخطار الخارجة, لا سيّما وهو محرر القدس سنة 1187م حيث ارتبط اسمه بتحرير هذه البقعة التي تعتبر من أكثر الأماكن قدسية عند المسلمين, ولعلّ الاحتلال الصهيوني الحالي الذي يقبع تحته الأقصى والقدس جعل المسلمين دائمي الحنين إلى صلاح الدين وجهاد صلاح الدين ودائمي الدراسة لسيرته وجهاده وتجربته.
ونحن اليوم في دراسة لتجربة أخرى ثرية لهذا القائد الكبير, هذه التجربة ليست في فلسطين ولا مع الصليبيين, ولا على الجبهات الخارجية, إنّما تجربة ومشروع مفصلي خاضه صلاح الدين في مصر وضد دولة تسترت بالإسلام وهي الدولة العبيدية الفاطمية التي تنتسب إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي, وحكمت هذا البلد المسلم حيناً من الزمن سعت خلاله إلى نشر العقائد الإسماعيلة, وكان لها الكثير من الدعاة العلنيين والسريين لنشر عقائدهم وأفكارهم في المجتمع المصري السني.
هذا المشروع الكبير الذي قام به صلاح الدين في مصر كان هو المنطلق إلى رص صفوف المسلمين وتوحيد جهودهم وبالتالي انطلاقه بعد 18 سنة من العمل الدؤوب على الساحة الداخلية, ليتمكن بعد هذه الفترة من تحرير القدس ودحر الصليبيين الغزاة.
المشروع الذي نحن بصدد تناوله ليس مشروعاً عسكرياً أو قتالياً, إنما هو مشروع تربوي تمكن خلاله صلاح الدين من تحقيق انتصارات قد لا تتحقق بالمعارك والقتال, وهذا المشروع يتناوله كتابنا لهذا الشهر, وهو في الأصل رسالة ماجستير أعدها الأستاذ محمد حمدان القيسي سنة 1992م بعنوان (أثر جهود صلاح الدين التربوية في تغير واقع المجتمع المصري) وحصل بموجبها على درجة الماجستير من جامعة اليرموك الأردنية.
ويتلخص المشروع في الجهود التربوية والثقافية والفكرية التي قام بها صلاح الدين الأيوبي عند استلامه الحكم في مصر والقضاء على الدولة العبيدية الفاطمية الشيعية التي حكمت مصر أكثر من 200 سنة, وتمكن صلاح الدين من مواجهة الفكر بالفكر والتربية بالتربية, بحيث استطاع القضاء على ما خلفه العبيديون من آثار فكرية وتربوية وأن يعيد مصر كما كانت إلى مذهب أهل السنة.
وتحاول دراسة الأستاذ القيسي استعراض ملامح هذه التجربة, ومعرفة الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية التي كانت عليها مصر قبل تولي صلاح الدين الحكم فيها ثم المؤسسات التي أنشأها: أنواعها وتمويلها, ثم المناهج التربوية التي اعتمدها والمضامين التربوية التي احتوتها توجهاته.
ويجدر بنا قبل البدء بعرض هذا الكتاب استعراض مسيرة الدولة الفاطمية العبيدية, وأما فيما يتعلق بعقائد فرقة الإسماعيلية التي ينتسب إليها الفاطميون, فيمكن الرجوع إلى باب "فرق" من العدد الخامس من الراصد.
الإسماعيلية فرقة باطنية انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق, ظاهرها التشيع لآل البيت, وحقيقتها هدم عقائد الإسلام.
وتعتبر الدولة الفاطمية الحركة الإسماعيلية الأصلية وقد مرت بعدة أدوار:
1- دور الستر: من موت إسماعيل سنة 143هـ إلى ظهور عبيد الله المهدي, وقد اختلف في أسماء أئمة هذه الفترة بسبب السرية.
2- بداية الظهور: يبدأ الظهور بالداعية الحسن بن حوشيب الذي أسس دولة الإسماعيلية في اليمن سنة 266هـ وامتد نشاطه إلى شمال أفريقيا واكتسب شيوخ كتامة, يلي ذلك ظهور رفيقه علي بن فضل الذي ادّعى النبوة وأعفى أنصاره من الصوم والصّلاة.
3- دور الظهور: يبدأ بظهور عبيد الله المهدي الذي كان مقيماً في سلمية بسوريا ثم هرب إلى شمال أفريقيا واعتمد على أنصاره هناك من الكتاميين.
- قتل عبيد الله داعيته أبا عبد الله الشيعي الصنعاني وأخاه أبا العباس لشكهما في شخصيته وأنه غير الذي رأياه في سلمية.
- أسس عبيد الله أول دولة إسماعيلية فاطمية في المهدية بإفريقيا (تونس) واستولى على رقادة سنة 297هـ وتتابع بعده الفاطميون وهم:
• المنصور بالله (أبو طاهر إسماعيل) 334-341هـ.
• المعز لدين الله (أبو تميم معد) 341-365هـ.
وفي عهده فتحت مصر سنة 358هـ وانتقل إليها المعز في رمضان سنة 362هـ.
• العزيز بالله (أبو منصور نزار) 365-386هـ.
• الحاكم بأمر الله (أبو علي المنصور) 386-411هـ.
• الظاهر (أبو الحسن علي) 411-427هـ.
• المستنصر بالله (أبو تميم) وتوفي سنة 487هـ.
وبوفاته انقسمت الإسماعيلية الفاطمية إلى نزارية شرقية ومستعلية غربية والسبب في هذا الانقسام أن الإمام المستنصر قد نص على أن يليه ابنه نزار لأنه الابن الأكبر. لكن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي نحى نزاراً وأعلن إمامة المستعلي وهو الابن الأصغر كما أنه في نفس الوقت ابن أخت الوزير, وقام بإلقاء القبض على نزار ووضعه في سجن وسد عليه الجدران حتى مات.
استمرت الإسماعيلية الفاطمية المستعلية تحكم مصر والحجاز واليمن بمساعدة الصليحيين, والأئمة هم:
• المستعلي (أبو القاسم أحمد) 487-495هـ.
• الآمر (أبو علي المنصور) 495-525هـ.
• الحافظ (أبو الميمون عبد المجيد) 525-544هـ.
• الظافر (أبو المنصور إسماعيل) 544-549هـ.
• الفائز (أبو القاسم عيسى) 549-555هـ.
• العاضد (أبو محمد عبد الله) من 555هـ حتى زوال دولتهم على يدي السلطان صلاح الدين الأيوبي([1]).
ترجمة صلاح الدين:
يتحدث المؤلف في مقدمته عن أهمية هذا الموضوع, وكيف أن معظم الدراسات التي تحدثت عن هذا القائد اقتصرت على الجانب العسكري والإداري, دون التطرق أو الخوض في الجانب التربوي.
ثم يحدثنا قليلاً عن حياة صلاح الدين وشخصيته, فهو يوسف بن أيوب المعروف بالسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي, وهو كردي([2]) .
ولد بقلعة تكريت سنة 532هـ, ثم رحل به والده وعمه أسد الدين شيركوه إلى نور الدين زنكي بالشام, وكانوا في خدمته جميعاً.
وقد دخل صلاح الدين مصر سنة 559هـ, وتسلم زمام السلطة سنة 564هـ, وآل إليه الحكم وأنهى الدولة الفاطمية سنة 567هـ.
كان صلاح الدين رحمه الله كثير الذكر لله محافظاً على الفرائض والسنن, كثير التعظيم لشعائر الدين, كثير القراءة للحديث, وكان يحب العلم وأهله, شجاعاً قوي النفس شديد البأس, رحيماً, ناصراً للضعيف على القوي.
وكان لا يريد الدنيا فجاءته صاغرة, وتوفي رحمه الله سنة 589هـ.
الفصل الأول:
الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر أثناء حكم الفاطميين
سبق القول أن العبيديين الفاطميين حكموا مصر أكثر من قرنين من الزمان, وعملوا بجد لنشر مذهبهم الشيعي الإسماعيلي, وحاولوا صبغ الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية به, وفيما يلي بيان لأهم ملامحها:
أولاً: الحياة السياسية:
تذبذبت الأوضاع السياسية في مصر في عهد الفاطميين بين قوة وضعف حسب طبيعة الحاكم الفاطمي ووزيره.
1- كان للوزير اليهودي ابن كلس([3]) دور بارز في المسيرة السياسية للدولة الفاطمية, وهو الذي وضع لها كثيراً من الأسس التي سارت عليها الدولة في سياستها الداخلية خصوصاً في النواحي الاقتصادية والسياسية والتي كان خبيراً بها منذ أن دخل في خدمة كافور الإخشيدي.
وعهد الخيلفة المعز لدين الله الفاطمي إلى ابن كلس بالخراج وجميع وجوه الأموال والحسبة والسواحل, وما يطرأ في مصر من أعمال... وفي عهد العزيز بالله زاد نفوذ ابن كلس – رغم تعرضه لفترة من المصاعب والإهانة – حتى استولى على حكومة وشؤون العزيز, وبذلك أرسى ابن كلس قواعد الدولة وأساس أمرها([4]) .
2- وبعد وفاة ابن كلس, عيّن العزيز محله النصراني عيسى بن نسطورس الذي ضبط الأمور وجمع الأموال وأثقل الأمة بالضرائب, وفي عهده تفشى الغلاء واضطرب الأمن حتى أنه لم يحج أحد في هذه الحقبة من مصر, وفي عهد الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله, ووزيره اليازوري دخلت البلاد في مرحلة خطيرة من الفوضى والمجاعات.
3- وكانت الأمور في الغالب تخرج من يد الخليفة إلى يد الوزراء الذين كانوا يتصرفون كيفما يشاءون, ويستغلون ذلك للصراعات الداخلية, حيث قام الوزير البابلي –الذي جاء بعد اليازوري- بالإيقاع بين الأتراك والعبيد بناءً على طلب أم المستنصر, ثم حدث النزاع بين الأتراك والمغاربة, وسبّب ذلك كله اضطراب البلاد وكثرة القتل والسرقات والفواحش وخاصة في عصورها المتأخرة, وتحديداً في زمن العاضد, آخر الحكام الفاطميين في مصر, حيث ثار وزير العاضد شاور على الوزير العادل, واستولى شاور على الوزارة, وسار فيها سيرة سيئة, ثم استطاع ضرغام, وهو أحد وزراء العاضد, من طرد شاور, لكن شاور تمكن من الرجوع بمساعدة جيوش نور الدين زنكي, ثم انتزع أسد الدين شيركوه –عم صلاح الدين- الحكم من شاور, وتولى الحكم من بعده ابن أخيه صلاح الدين ثم كانت نهاية الدولة الفاطمية, وتعتبر الفترة التي ولي فيها شاور وضرغام أسوأ ما مرّ بمصر من أحداث كانت نتيجتها نهاية الدولة الفاطمية.
ثانياً: الحياة الاجتماعية:
بلغت الحضارة في هذا العصر شأناً عظيماً وخاصة في مجال البناء, وبرزت ظاهرة البذخ بشكل فاق كل تصور, حيث كان في قصر الخلافة ثلاثون ألف نفس منهم اثنا عشر ألف خادم, وألف فارس وحارس...
وكانت كثرة الأعياد السمة البارزة لهذه الدولة, وكان العبيديون الفاطميون يحاولون من خلال ذلك كسب ود المصريين وتمرير مخططاتهم, ومن هذه الأعياد: عيد رأس السنة, أول العام, عاشوراء, مولد النبي صلى الله عليه وسلم, مولد علي رضي الله عنه, مولد الحسن رضي الله عنه, مولد الحسين رضي الله عنه, مولد فاطمة رضي الله عنها, مولد الخليفة القائم بالأمر, عيد أول رجب ومنتصفه, عيد أول شعبان والنصف منه, عيد موسم شهر رمضان وغرة رمضان, وعيد جبر الخليج والنيروز والغطاس والميلاد والنصر والشهيد وخميس العهد ووفاء النيل والغدير وسجن يوسف وعيد الأحد والفطر والأضحى.
وكانت الأموال الباهظة تنفق في هذه الأعياد, ومن جهة أخرى كان الحكام الفاطميون يعيشون في ترف وبذخ, وكان لهم قاعة من الذهب الخالص, فضلاً عن مجالس الغناء واللهو وشرب الخمور, ومجالس الطعام والشراب.
إن حياة البذخ التي كان الفاطميون يعيشون فيها وامتلاء قصورهم بالأموال والذهب أدّت إلى زيادة الضرائب والتضييق على الناس وكثرة الأنظمة والقوانين لتسوء بذلك حياة المصريين.
ثالثاً: الحياة الفكرية:
قامت الدولة الفاطمية ومن أهدافها القضاء على الخلافة السنيّة, ونشر المذهب الشيعي, وكان الصراع بين الخلافتين عنيفاً استعمل فيه كل سلاح ممكن.
ومن الأساليب التي استعان بها العبيديون الفاطميون وبرعوا فيها سلاح العلم والثقافة والأدب, إذ أن مذهبهم الشيعي الذي يخالف المذهب السني الذي يتبعه أهل مصر كان في حاجة إلى الدعوة وكسب المؤيدين في العالم الإسلامي ومصر خاصة, والوقوف في وجه علماء السنة الذين كانوا يبينون عقائد الفاطميين ومخططاتهم.
وكانت المعركة الفكرية هي الأساس, واستعملت فيها الأموال الكثيرة لتنفيذ هذه المآرب, فأصبحت القاهرة في عصرهم مركز إشعاع للعلوم والفنون المختلفة.
وكان الاهتمام بالعلوم على مستوى الدولة, فقد كان للوزير ابن كلس الكثير من المؤلفات في القراءات وعلم الأبدان والفقه الإسماعيلي وآداب الرسول صلى الله عليه وسلم, وأشهر كتبه مختصر الفقه المعروف بالرسالة الوزارية ضمّنه ما سمعه من الخليفة المعز وولده العزيز.
وألّف أبو شجاع الذي تولى الوزارة سنة 457هـ في خلافة المستنصر كتاب موارد البيان في ترتيب الكتاب.
وكان الحكام الفاطميون والوزراء والقضاة يهتمون بشكل كبير بنشر مذهبهم بين مختلف طبقات الشعب, وذلك بتشجيع نسخ الكتب وجمع النادر منها وإنشاء المكتبات وإلقاء الدروس في المساجد وإنشاء المدارس, وتقديم مكافأة للذين يحفظون بعض الكتب, وكان القضاة يفتون ويعملون بما في هذه الكتب.
مؤسسات:
1- ومن المؤسسات الكبيرة التي سخرها الفاطميون لنشر مذهبهم الأزهر, إذ كان يعتبر جامعة, الدراسة فيه منتظمة, وتمّ تخصيص بعض الأوقاف له.
2- ومسجد عمرو بن العاص, الذي صليت فيه الجمعة, وخطب فيه للمعز سنة 358هـ, وتم نقل الخطبة التي دعت للمعز بعد ذلك إلى باقي المساجد في مصر.
3- ولم يكن اهتمامهم مقصوراً على المساجد, إذ أنشأ الحاكم بأمر الله سنة 395هـ دار الحكمة لتكون جامعة تضم عدة كليات وحلقات, وعيّن فيها كبار المعلمين, وجمع لها من خزائن القصر مجموعات عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون, ورصدت لها الأموال الكثيرة للإنفاق عليها وعلى الأساتذة الموظفين والخدم, وأفردت للنساء مجالس خاصة للتعليم.
وألحق الحاكم بدار الحكمة المحفل الأكبر الذي كان يلتقي فيه المدعوون سر المذهب الإسماعيلي, وكان المحفل يعقد يومي الإثنين والأربعاء برئاسة داعي الدعاة, وظهر أن الدعوة الإسماعيلية تدار على نسق الجمعيات السريّة في مراتب متدرجة وبلقاءات سرية.
4- وأنشأ الفاطميون مكتبة القصر, التي احتوت على مائتي ألف مجلد.
5- وأنشأ العزيز والحاكم دور الكتب والمطالعة.
6- وفي عصر الظاهر سنة 411هـ أخرج من كان بمصر من الفقهاء المالكية, وتم تشديد الأمر على الناس أن يحفظوا الكتب الإسماعيلية مثل دعائم الإسلام ومختصر الوزير, وجعلوا لمن يحفظها مالاً.
وهكذا كانت الحياة الفكرية زمن الفاطميين نشطة لنشر المذهب الشيعي الإسماعيلي من خلال المساجد والمدارس والمكتبات والجامعات والحلقات المنظمة.
الفصل الثاني:
المؤسسات التربوية بمصر في عصر صلاح الدين
سبق القول أن الفاطميين اهتموا خلال حكمهم لمصر اهتماماً كبيراً بالعلم والثقافة وإقامة المؤسسات التعليمية من أجل نشر المذهب الشيعي الإسماعيلي, الأمر الذي جعل صلاح الدين عند استلامه لحكم مصر يواجه العلم بالعلم والفكر بالفكر والمؤسسات بالمؤسسات.
وكان صلاح الدين يهدف من إقامة المؤسسات إلى ما يلي:
1- القضاء على المذهب الشيعي الذي أدخله الفاطميون على مصر.
2- نشر المذهب السني بمذاهبه المختلفة, وخاصة الشافعي.
3- حب صلاح الدين وتقديره للعلم وأهله.
ويحتوي هذا الفصل على مبحثين: الأول خصصه المؤلف للمؤسسات التربوية التي أقامها صلاح الدين أو استفاد منها أو طوّرها, والمبحث الآخر تحدث فيه حول تمويلها.
المبحث الأول: أنواع المؤسسات التربوية:
1-المساجد, حيث كان يشكل المحور الهام في حياة المسلم, وقد اتخذ صلاح الدين المساجد مراكز للعلم بعد إغلاق الأزهر مباشرة لأنه كان يشكل رمزاً للدعوة الفاطمية, واهتم صلاح الدين بدور المسجد التربوي اهتماماً كبيراً.
وقد قال ابن جبير في الرحلة ص27: ((وما من جامع من الجوامع ولا مسجد من المساجد ولا مدرسة من المدارس إلا وفضل السلطان يعم جميع من يأوي إليها ويلزم السكن فيها)).
2-الكتاتيب, وذلك يعكس اهتمامه بالصغار, وقال ابن جبير أيضاً: ((كان كل تلميذ بمصر يلقى سكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وأجراً يقوم به في جميع أحواله)).
3-المدارس, وكانت تتميز عن غيرها من المؤسسات باستقلال البناء وتخصيص الوقف اللازم لها والنظام الداخلي من حيث الأقسام الملحقة بها وإدارتها, ورواتب المدرسين والطلبة ومعايير القبول.
وقد اهتم صلاح الدين ووزراؤه والأمراء والتجار والقضاة والعلماء بالمدارس وقدموا لها المال اللازم للبناء والتأثيث وتخصيص الوقت اللازم لها.
ومن أبرز المدارس التي تم إنشاؤها:
-المدرسة الناصرية: أنشأها صلاح الدين على المذهب الشافعي بالقرافة سنة 572هـ.
-المدرسة القمحية: أنشأها قرب مسجد عمرو بن العاص, وقد أوقفها لفقهاء المالكية.
-مدرسة يازكوج: أنشأها سيف الدين يازكوج أحد أمراء صلاح الدين بسوق الغزل.
-مدرسة العادل: أنشأها العادل شقيق صلاح الدين, وأوقفها على فقهاء المالكية.
-ومن المدارس الأخرى: الفائزية وابن رشيق والقطبية والسيوفية والفاضلية والأزكشية والفخرية والسيفية والعاشورية والصيرمية والصالحية ومنازل العز والشريفية والصاحبية وابن الأرسوفي, وعادة ما كانت تسمى المدرسة على اسم بانيها.
4-الزوايا, وكانت تقوم على إيواء الفقراء, وجاء اعتبارها مؤسسة تربوية لأن صلاح الدين أراد استقطاب جميع شرائح المجتمع نحو عملية الإصلاح والتغيير.
5-الخوانك, أو الخوانق جمع خانكاه وهي كلمة فارسية معناها البيت أو الموضع الذي يأكل فيه الملك, وهي دور جعلت لفقراء الصوفية القادمين من البلاد الشاسعة, وكان صلاح الدين يحرص على السيطرة على جميع الأماكن التي تجمع عدداً كبيراً من الناس.
6-المشاهد, وهي الأماكن التي دفن بها بعض الأنبياء والصالحين, حيث عقد بها صلاح الدين حلقات تعليمية مستغلاً تعلق العوام بهذه المشاهد.
7-المراكز التعليمية الخاصة (البيمارستانات), حيث خصص السلطان صلاح الدين جزءاً من القصر الفاطمي لإنشاء بيمارستان (مستشفى) وعين فيه أهل المعرفة ووضع لديهم خزائن العقاقير ومكنهم من استعمالها, كما عيّن أطباء مشرفين ومدرسين يقومون بتعليم الأطباء فيه.
المبحث الثاني: تمويل المؤسسات التربوية:
اهتم صلاح الدين خير اهتمام بتمويل المؤسسات التربوية وضمان بقائها واستمرارها في أداء دورها, خاصة وأن الشعب المصري أرهق من كثرة الضرائب إضافة إلى أن جزءاً من الشعب كان من المغاربة والسودانيين الغرباء والفقراء, الأمر الذي يوجب توفير قدر من الاستقرار المادي من أجل تفرغ المعلم والطالب للعلم والتعلم.
وقد جاء تمويل هذه المؤسسات من المصادر التالية:
1-التمويل من قبل الدولة (بيت مال المسلمين), حيث يقول ابن جبير عمّا انفقه السلطان صلاح الدين: "وألحق بالمسجد النظام الداخلي حيث كان مأوى للغرباء وأجرى عليهم الأرزاق في كل شيء".
2-التمويل من قبل الأمراء والوزراء والقضاة, الذين اقتدوا بصلاح الدين ومن هؤلاء القاضي الفاضل الذي أنفق علىالمدرسة الفاضلية, والأمير يازكوج والأمير العادل شقيق صلاح الدين, وكانت المدرسة في العادة تسمى على اسم من أنشأها أو أوقف عليها الأوقاف.
3-التمويل من قبل التجار وعامة الناس مثل مدرسة ابن الأرسوفي وهو من التجار, ومثل مسرور الصفدي الذي بنى المدرسة المسرورية, وهو من عامة الشعب.
الفصل الثالث:
المناهج التربوية
يتضمن هذا الفصل وهو الأخير من الكتاب قضية المناهج التربوية, تلك التي كانت في عصر الفاطميين, وفي عصر صلاح الدين, والأساليب التي اتبعها لتغيير مناهج الفاطميين, والمضامين التربوية والأخلاقية التي كانت تحتويها توجهات صلاح الدين رحمه الله.
المبحث الأول: طبيعة المناهج في عصر الفاطميين:
سبق القول أن العبيديين الفاطميين اهتموا بنشر مذهبهم الإسماعيلي اهتماماً بالغاً, وكانت تعتمد في ذلك على منهجين: الأول علني والآخر سري.
فالمنهج العلني كان يقوم به الوزراء والولاة بحيث يرضي العامة جميعها, وأما المنهج السري فكان يشرف عليه الخليفة الفاطمي بنفسه.
وكان قادة الدولة يتميزون بغزارة نشاطهم الفكري وكثرة تآليفهم كابن حوشب وابن كلس والنعمان بن حيون التميمي, وأصبحت مؤلفاتهم من المناهج المعتمدة للدولة الفاطمية.
نماذج من المناهج التي اعتمدها الفاطميون:
1-المجالس المؤيدية, لداعي الدعاة هبة الله الشيرازي.
2-ديوان ابن هانيء الأندلسي شاعر الدولة الفاطمية, وفي بعض الأبيات يخاطب الشاعر الخليفة الفاطمي قائلاً:
مــا شــئت لا ما شاءت الأقدار فــاحــكم فأنــت الـواحد القهار
وكــأنـمـا أنـت الـنـبـي محمد وكـأنـمـا أنصـارك الأنصـــار
هــذا الذي تــرجى النجاة بحبــه وبــه يـحـط الإصــر والأوزار
3-السيرة المؤيدية لهبة الله الشيرازي, وذكر فيه مناقب أهل البيت ولزوم طاعة الإمام.
4-المجالس والمسايرات للقاضي أبي حنيفة النعمان الإسماعيلي, وهذا المؤلف يقع في ثلاثة مجلدات عن حياة الخلفاء الفاطميين, وفيه أحكام في القضاء والفقه.
5-الفترات والقرانات, وهو المسمى "الجفر الأسود" المنسوب لعلي بن أبي طالب وفيه يدّعون أن لكل آية من القرآن ظاهراً وباطناً, وأن من يؤمن بالظاهر دون الباطن فهو كافر.
6-دعائم الإسلام للقاضي أبي حنيفة النعمان الإسماعيلي, وقد اتخذه الفاطميون مرجعاً في أحكامهم, كما فعل الحاكم بأمر الله الفاطمي حينما أمر هارون بن محمد داعية اليمن بقوله: ((ولتكن فتواك للمستفتين في الحلال والحرام من كتاب دعائم الإسلام دون سواه)).
7-أسرار النطقاء لجعفر بن منصور, ويعد هذا المنهاج من كتب المناظرات الإسماعيلية الكبيرة, واتخذ أساساً في الرد على من يخالفهم في أسرار النطقاء.
8-رسائل إخوان الصفا, وهي رسائل ألّفها المستورون والدعاة الأربعة في شتى العلوم والفنون.
تأليف: محمد حمدان القيسي..