القدس والأقصى / حقائق مقدسية

رؤية مستقبلية للأحداث القادمة في فلسطين

مبتسم الاحمد

في البداية لا يسعني إلا أن أتوجه بالتهنئة لأهلنا في غزة وللمجاهدين في سبيل الله تعالى بهذا النصر الذي تحقق وهذا الصمود الكبير الذي ظهر منهم والثبات منقطع النظير والاحتساب والصبر. والذي ذكر الله تعالى وصفه وصورته في غزوة الأحزاب، فقال عز من قائل: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}(الأحزاب:10)، فهدا الثبات والاحتساب بحد ذاته نصر عظيم على ضوء الواقع

والمعطيات وحال الأمة، وإن قيل ما قيل!

فقد أوصى سبحانه بمثله، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ{(الروم:60)،{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{(آل عمرن:173) و{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ  وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رّبنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافنَا فِي أَمْرِنَا وَثبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ   فَآتَاهُمُ اللّهُ ثوَابَ الدُّنيَا وَحُسْنَ ثوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { (آل عمران: ١٤6 -١48)؛ هذه الدعوة للثبات والصبر هي التي تجر إلى حسن العاقبة والمغفرة والثواب العظيم.

وفي هذا المقام أحب أن أشير إلى أهم ما يجب علينا معرفته خلال المرحلة القادمة لمواجهة الأحداث في فلسطين، لتكون لنا قائدا ودليلا ومحركا على مستوى الحدث الذي يقع:

أولا: هذه المعركة معركة عقيدة، معركة بين الإيمان والكفر، بين حزب الله وحزب الشيطان، قال تعالى في وصف الكفار:{وَلاَ يزَالُونَ يقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ{(البقرة: 217)، هذه حقيقة مهمة وأساس ومنطلق في معركتنا مع اليهود يجب أن لا تغيب عنا ولو للحظة {وَلَن ترْضَى عَنكَ الْيهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تتَّبِعَ مِلَّتهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتبعْتَ أَهْوَاءهُم بعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ{(البقرة:120).

وهنا لفتة مهمة أيضا في معركة العقيدة وهي موجهة لكل من أخل بتحقيق مبدا الولاء والبراء في الأحداث السابقة من بني جلدتنا، وممن لم يحسنوا دراسة العقيدة على صورتها الصحيحة، ولم يفرقوا بين إخوانهم في الدين وبين الكافر الأصلي، ومن عقدوا أمر الحب في الله والبغض في الله على اجتهادات معينة، وفي أطر حزبية ورؤى ضيقة بأن يتقوا الله ويعودوا لرشدهم، ويصححوا ما هم فيه من البلاء ولا يكونوا عونا للشيطان على إخوانهم، فإن كان محرك العقيدة وجذوة الإيمان لا تظهر في مثل هذه الأحداث الجسام في الأمة، فكبر على القلوب أربعا.

إن هناك فرقا بين تناول التوحيد كعلم مجرد وبين أخذه علما وحالا وسلوكا، إن المواقف المتخاذلة اليوم أمام أمريكا الكافرة وربيبتها دولة اليهود في كل الأحداث التي تقع، وعدم الصدع والجهر بعداوتها والبراءة منها ومن يتولاها من المنافقين من بني جلدتنا لهو أكبر

دليل على أن التوحيد عند الكثير منا بقي في حدود العلم المجرد، أما أخذه علما وحالا وعملا فانه - ويا للأسف - أصبح مغيبا عن الأمة، ومغيبا عن المواقف والممارسات.

ولما كانت عقيدة الولاء والبراء هي صلب كلمة التوحيد، وأنها تستلزم أقوالا وأعمالا ومواقف وبذلا وتضحيات اهتم بها السلف اهتماما عظيما، وعلموها لأولادهم، وتواصوا بها، وهاجروا، وجاهدوا من أجلها، وعادوا، ووالوا على أساسها. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى-: "فالله الله إخواني: تمسكوا بأصل دينكم أوله وآخره أسه ورأسه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، واعرفوا معناها وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت، عادوهم، وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم أو لم يكفرهم، أو قال: ما علي منهم، أو قال ما كلفني الله بهم، فقد كذب على الله وافترى، بل كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه وأولاده، فالله الله تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئا" ( الدرر السنية  2/١١٩).

وقال في موطن آخر: "إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة فيه قبل تعليم الوضوء والصلاة؛ لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة صلاته ولا صحة لإسلامه - أيضا - إلا بصحة الموالاة والمعاداة في الله" (الرسائل الشخصية ص 323).

وجاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من امرئ يخذل امرءاً مسلما في وطن ينتقص فيه عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته" (رواه احمد وأبو داوود وهو صحيح).

قال صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله عز وجل" (صحيح الجامع /2539 عن ابن عباس).

ثانيا: تمايز الصفوف، وهو مما تحقق كثير منه في هذه الأحداث،{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تؤْمِنُواْ وَتتقُواْ فلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ{(آل عمران: 179).

وفعل المنافقين ومن دار دائرتهم من العلمانيين، وضعاف الإيمان وأهل الركون للأرض لا يضرنا فيشيء، فهذا حالهم وديدنهم منذ قيام دولة الإسلام، والقرآن مليء بسرد مواقفهم وأقوالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم التاريخ يفضحهم ويبين مكائدهم وعملهم الدؤوب لهدم صرح الإسلام،{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يقَاتِلُوكُمْ يوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ{(آل عمران:١١١).

ثالثا: لم تنته المعركة بانتهاء معركة غزة مهما كانت نتائجها، بل هي حلقة في الصراع الطويل بين الحق والباطل حتى يأتي وعد الله {بَلْ نقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ َيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ{(الأنبياء:18)،{وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا{(الإسراء: ٨١)، بل إن معركة غزة هي لبنة في الاتجاه الصحيح، وهي بداية المسار وليست نهايته، ولا ينخدع الناس ويظنون أننا أوشكنا على قطف الثمر، بل ما زال الدرب طويلا ولكن بدا مساره يسير في الاتجاه الصحيح بعد أن فقدت بوصلة الأمة لسنين عديدة وضاعت من أيدي من انحرفوا عن الطريق.

رابعا: لا نشك ف تحقق النصر في المعركة عاجلا أو آجلا، سواء تحقق في غزة أو غيرها، تحقيقا لوعد الله الذي لا يتخلف{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثرَ النَّاسِ لَا يعْلَمُونَ{(الروم:6)، وموعود الله لازم حتمي الوقوع لا نشك بذلك ولو للحظة.

وقد قضى الله عز وجل وحكم في سننه التي لا تتبدل: إن محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أيها أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى، كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله عز وجل أن قال: (لا يمكن حتى يبتلى)، ولعله فهم ذلك من قوله تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ{(آل عمران:141).

وفي الوقوف مع سنة الاملاء للكافرين فوائد منها: عدم الخوف والاغترار بقوة العدو لأنهم في قبضة الله عز وجل ونواصيهم بيده وتركهم يظلمون ويقتلون هو إملاء من الله عز وجل ليسارعوا إلى ساعة محقهم لا ليدوم ظلمهم ولو شاء الله عز وجل لقصمهم في لمح البصر ولكن له سبحانه الحكمة في تأجيل القصم.. وهذا الإيمان يذهب اليأس عن النفوس ويزيل الإحباط والخوف ويحل محله العزة والثبات على الحق والتضحية في سبيله.

خامسا: وقوع هزيمة في معركة لا يعني أن الأمة قد انهزمت،} إِن يَمْسَسْكُمْ قرْحٌ فقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {(آل عمران:140)، بل من حكمة الله تعالى أن يقع نصر وهزيمة من حين لأخر لحكم عظيمة، بل قد يحدث تحقق بعض النصر للكفار } وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنهُمْ وَلَكِن لِّيبلُوَ بعْضَكُم بِبعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفهَا لَهُمْ {(محمد:4-6)، إذن هناك حكم عديدة يحب أن نقف معها ونحن ندرس قضايا المعارك، وأن لا نستغرق ف زاوية ضيقة في مفهوم النصر. ونجعل جل همنا مبنيا على الربح والخسارة المادية الآنية.

يعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على قوله سبحانه إن ربي لطيف لما يشاء ويقول: (أخبر أنه يلطف بما يريده فيأتي به بطرق خفية لا يعلمها الناس. واسمه (اللطيف) يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية... فكان ظاهر ما امتحن به يوسف بمفارقة أبيه وإلقائه في الجب وبيعه رقيقا ثم مراودة التي هو في بيتها عن نفسه وكذبها عليه وسجنه محنا ومصائب، وباطنها نعما وفتحا جعلها الله سبا لسعادته ف الدنيا والأخرة.

ومن هذا الباب ما يبتلي به عباده من المصائب ويأمرهم به من المكاره وينهاهم عنه من

الشهوات هي طرق توصلهم إلى سعادتهم في العاجل والأجل) (شفاء العليل ص34).

سادسا: ولذا نقول إن المكاسب والبشائر التي تحققت في معركة غزة يصعب حصرها في مثل هذه الكلمة، ولكن المهم أن تكون هذه المكاسب والبشائر منطلقا لنا نحو المستقبل، ولا شك أن هناك إثخان ودماء سالت وهناك أيتام وهناك جراح وهدم للبيوت وغيرها... كل ذلك يؤلمنا، ولكن هؤلاء هم اليهود كما أخبرنا الله جل جلاله عنهم{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{(المائدة:64)، فطبيعة اليهود "أنهم يسعون في الأرض فسادا" أي أن الفساد ملازم لسعيهم في كل حركاتهم وسكناتهم، وهذه قضية مهمة عندما ندرس طبيعة المعركة وطبيعة التعامل مع اليهود، وهل يمكن أن يقام معهم عهود{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنهُم بَلْ أَكْثرُهُمْ لاَ يؤْمِنُونَ{( البقرة:100)، نعم من طبيعتهم نقض العهود والغدر... ومع هذا نقول عن المكاسب عظيمة رغم ما رأيناه من آلام وجراح.

ويكفي أن نشير إلى بعضها:

- الثبات العظيم الذي رأيناه في غزة، والذي لم نره في أي معركة سابقة مع اليهود في التاريخ الحديث... تصوروا (سيناء، الجولان، الضفة) تذهب في ساعات، وهذه الجيوش العربية مع الإعداد المسبق بإمكاناتها وتجهيزاتها لا تستطيع الصمود لساعات، وهذه المساحات الشاسعة التي سقطت بهذه السهولة فيما يعرف بحرب حزيران!!

نعم قارنوا بين هذه الحرب وما فيها من مساحات وشعوب وجيوش وأنظمة وبين معركة غزة التي لا تتعدى بضع عشرات من الكيلومترات وصمودها وضراوة المعركة فيها وهذه المقاومة التي أذهلت العدو!

وحتى حرب ما يعرف بـ ٦ أكتوبر (١٠ رمضان) وما تحقق فيها من النصر بسبب تمسك بعض الجنود بالإسلام، ومع ذلك إذا بهذا النصر يحول إلى استسلام ومعاهدات وخيانات، ليشكل سلسلة من حلقات الاستسلام الذليل منذ ذلك الحين.

إذن لم تقع معركة مع اليهود في العصر الحديث كما وقعت في غزة وهذا بحد ذاته انتصار مهما كانت النتائج.

- ومن النتائج كذلك تمايز الصفوف تمايزا عجيبا لكل صاحب بصيرة، وهو ما يجب أن يكون قائدنا في أي معركة قادمة، وانظر كيف انطلق المخذلون والمستسلمون بكل ما أتوا من أجل دفع إخواننا في غزة للاستسلام، ومع ذلك صبروا وثبتوا وتحملوا الشيء الكبير.

- تمايز الصفوف اتضح لنا من قبل (المنافقين والليبراليين وبعض ضعاف النفوس ومن بعض قليلي الإيمان... الخ){ما كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ{(آل عمران:179)، وهذا آمر جدير آن نقف عليه كثيرا ونتدبره.

قال صلى الله عليه وسلم: ".... ثم فتنة الدهماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة فاذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا حتى يصير الناس إلى فسطاطين فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو غده "صحيح الجامع/٤١٩٤ عن ابن عمر.

- كذلك تعرف المجاهدين أنفسهم على بعض الآفات والهنات الكامنة في نفوسهم، وعلى قوة صبرهم وثباتهم وكل هذا لم يكن ليعرف وينقدح زناده لولا هذه الابتلاءات والتمحيصات.

وفي هذا خير إذا أدى إلى العلاج والتخلص مما يكدر القلوب ويؤخر النصر. كما قال سبحانه{إِنَّ اللّهَ لاَ يغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ{(الرعد:١١).

- ومنها قطع الطريق على الحلول الاستسلامية ومبادرات التطبيع مع اليهود والذي لو حصل لكانت الذلة والعار على الفلسطينيين ومن وراءهم من المسلمين حيث يرضون ببيع فلسطين والإقرار للعدو باحتلالها كما أن في ذلك إخماد لجذوة الجهاد والمقاومة.

ولكن هذه الأحداث قد قلبت الموازين ولم يبق لأحد عذر في الانخداع بالحلول الاستسلامية. والخوف آن تعود نغمة الحلول الاستسلامية والمفاوضات بعد أن تخمد نار المحرقة!!

سابعا: ليست العبرة بالقلة والكثرة، نعم هناك عقلية لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، والمبدأ الصحيح في نظرتنا للمعركة{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{(البقرة:249).

وانظر سياق إلى القرآن كله في استعراض هذا المبدأ (القلة المحمودة والكثرة المذمومة).

ولنتدبر قوله صلى الله عليه وسلم: "... ولا تهزم اثنا عشر ألفا من قلة" صحيح الجامع / ٣٢٧٨ عن ابن عباس، وقوله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قيل يا رسول الله: فمن قلة يومئذ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن ف قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت" صحيح الجامع8183 عن ثوبان.

ثامنا: أن الانتصار ليس محصورا بالانتصار في المعركة فقط، بل هو انتصار المبادئ، وهو الانتصار الحقيقي المجلجل على مدى التاريخ، ولذلك يجب أن يكون تركيزنا في المستقبل على غرس المبادئ الصحيحة، على غرس الدين الصحيح في الأمة، على غرس المنهج القويم فيها منهج سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم لتثبت في لقائها مع الأعداء، وهذا الانتصار تحقق لأنبياء الله ورسله،{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا وَيوْمَ يقُومُ الْأَشْهَادُ{(غافر: 51)، انظروا هذا النصر مع أن بعض الأنبياء قد قتل وبعضهم لم يؤمن به أحد، ومع ذلك سماه الله انتصارا في الدنيا، وكذلك انظر في قصة أصحاب الأخدود فسورة البروج لم يبق أحد من المؤمنين صغيرهم وكبيرهم، ومع ذلك هو من أكبر الانتصارات في التاريخ، وهذا منهج القرآن يقول "ذلك هو الفوز المبين أو العظيم" في كل القرآن إلا في سورة البروج{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ{(البروج:11).

تاسعا: الجهاد.... لا بد أن يكون أولى ما ننظر إليه في المرحلة القادمة، لأننا نخشى أن تحدث تجاوزات في حب الجهاد والرغبة فيه، فيخرج حب روح الجهاد عن السيطرة هنا أو هناك إفراطا أو تفريطا، وتتحول المنطقة إلى بؤر غليان، ومألات لم يحسب لها حساب من قبل، ولا تحمد عقباها، وهو مما يسعى له أعداء الله "نقل المعركة إلى داخل بلاد المسلمين" ولذا لزم علينا أن نسدده ونقومه، ونبدأ بإعداد الأمة إعدادا صحيحا (عقديا وإيمانيا وتربويا) على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم.

وكذلك علينا إشاعة فقه الجهاد في الأمة علما وتعلما وتدريسا، ليصبح منهج تعيش معه الأجيال، وكذلك تفعيل فقه النوازل بين علماء الأمة لتصبح كل نوازل فلسطين تنطلق منهم ابتداء تقعيدا وتأصيلا. وفق منهج للفتوى يحمل الصبغة الجماعية ويدرك الواقع ويتعامل ويتفاعل معه بسرعة الحدث، بل يسبقه.

عاشرا: البشائر كثيرة بتحقق نصر هذه الأمة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" صحيح الجامع /7289 عن ثوبان، وفي رواية: "لعدوهم قاهرين" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو ذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر" السلسلة الصحيحة/ حديث رقم٣، وقوله صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فانه من شجر اليهود" صحيح الجامع/ ٧٤٢٧ عن أبي هريرة، والبشائر كثيرة... كثيرة. وهذا فقه يجب نشره في الأمة لرفع معنوياتها ونزع فتيل اليأس منها.

الحادي عشر: يجب ألا تتعلق قلوبنا لا بأشخاص ولا بدول ولا بهيئات لم تجلب لنا سوى البلاء والمؤامرات، لم نجن منها إلا التكالب على أمتنا، يختلفون على كل شيء إلا على محاربة الإسلام فيتفقون، على محاربة عقيدتها والعلماء والمخلصين فيها، وفي بث العملاء والمنافقين فيها.. وإحداث المؤامرات تلو المؤامرات... ولذلك يجب على الجميع أن يتحمل المسؤولية من العلماء والدعاة والقادة والجماعات والأفراد كل في موقعه، ويضعوا البرامج البعيدة المدى والسياسات طويلة المدى التي لا تستعجل سنن الله ولا تخالف طريقه.. ونأخذ بكل الوسائل والأسباب وبالجهد الذي نستطيعه على الحقيقة وندع الدعة والراحة والخلود إلى الأرض بلا كلل ولا تعب{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ{(الروم:60)، فالمعركة طويلة، وإن تحقق النصر ف مراحل أو كانت الهزيمة أحيانا فهذه ليست النهاية، فموعود الله لابد أن يتحقق؛ والنصر آت لا محالة، والمطلوب منا العمل المتواصل والجاد بكل عزيمة وصدق.

وبذلك تكون رؤيتنا رؤية إيمان وثبات ونصر وتفاؤل ويقين،{حَتَّى إِذَا اسْتيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ{(يوسف: ١١٠)، ولنتذكر أن النفوس المهزومة لن تستطيع أن تحقق النصر أبدا، فلا بد من الثقة بوعد الله } الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{( آل عمران:173)،{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا{(الأحزاب:22)؛ فيجب الثقة بنصر الله وموعوده الحق والاطمئنان لذلك، ونحن لنا إما النصر وإما الشهادة، هذا سبيلنا إحدى الحسنيين لنلقى الله تعالى وهو راض عنا، ولنلقاه وقد أدينا الواجب الملقى على عواتقنا.

الثاني عشر: استثمار هذا الحماس الذي وقع في هذه الأمة وهذه الفرص التي جاءت، ولنستثمر هذا التوجه عند صغارنا لكي نعدهم للمعارك الفاصلة مع أعداء الأمة. ولنستثمر هذا الإجماع الذي وقع من هذه الأمة لنقودها للرجوع إلى دينها الحق، إلى وحدتها وتماسكها.

وليكن عملنا عملا ايجابيا بناء مبنيا على إستراتيجية وخطط بعيدة المدى، ولنتجه نحو العمل المؤسساتي المثمر والجاد لنحول فيه كل جهود الأمة نحو ما ينفعها، والبعد عن الفردية والحزبية، فمعركتنا ليست معركة حزب وليست معركة جماعة ولا فرد، بل هي معركة الأمة التي يتحقق فيها قوله تعالى:{فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ{(المائدة:56) وهو الحزب الذي يقابل حزب الشيطان وأعوانه، ولذا يجب على الأمة أن تجتمع وتكون كلمتها سواء...{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تنَازَعُواْ فتفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{(الانفال:46).

الثالث عشر: إن المعركة قبل أن تكون معركة فاصلة في الميدان هي معركة إيمان وكفر، هي معركة منهج، هي معركة على المنهج الحق والسبيل القويم، وتربية هذه الأمة على هذا المنهج منهج محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين رضوان الله عليهم، منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، بعيدا عن الرايات المشبوهة والمناهج المخلوطة المشوبة الموبوءة، ولذا وجب علينا أن نركز على تصحيح عقيدتنا.

والحذر من أن نكون سببا في إدخال الطوائف الباطنية إلى صفنا، والسماح لها بلعب دور بيننا أو بالنيابة عنا، فتكون الكارثة عندما يجد الحد فنصاب بخنجر الغدر المسموم في وقت لا ينفع فيه الندم أو التراجع.

الرابع عشر: المعرفة بأنه إذا أصابتنا هزيمة أو وقعت لنا مصيبة فما ذلك إلا بسبب ذنوبنا وأخطائنا،{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ{(الشورى: ٣٠)، علينا أن نخلص صفنا من أشكال الذنوب والخطايا الظاهرة والباطنة ومن كل الدخلاء والمشبوهين، ومن كل الرايات الدخيلة والمشبوهة.

الخامس عشر: إن زماننا اليوم زمن متسارع لا يصلح للتجارب، وبخاصة في القضايا المصيرية، وبالذات في القضية الفلسطينية في الأرض المباركة، والتي هي قضية المسلمين بعامة وليست قضية الفلسطينيين أو العرب وحدهم، كما يريد الأعداء لها أن تكون. ولذا فانا نقول إنه يجب استشارة أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وإشراك أصحاب العلم والعقل والدعوة والجهاد في مشارق الأرض ومغاربها في كل القضايا التي تعترض هذه القضية ومراحلها التي تمر بها، ولأن نوازلها كثيرة وعديدة ولا بد فيها من قدم راسخة واضحة المعالم حين نخوض فيها ونوغل، ولأن قضية فلسطين هي أم القضايا عند المسلمين وفيها سالت دماء الشهداء في القديم والحديث، ومنها وفيها الملاحم الكبرى المنتظرة التي ينصر الله فيها أولياءه على أعدائه ويمكن لهم في الأرض.

نسأل الله تعالى أن يحقق النصر لإخواننا في فلسطين وفي كل مكان يرفع به علم الجهاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد الثامن

.