دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

"قبل أن يخدعنا جيمي كارتر"

أحمد فايق دلول

 

ثمَّة اهتمامٌ دوليٌ كبيرٌ بدراسة الظاهرة الإسلامية أو الحركات الإسلامية أو الإسلام السياسي لدى الغرب عامة والإدارة الأمريكية ومؤسسات الفكر ومراكز الأبحاث الأمريكية خاصة، وهو ما دفع بهم إلى إنشاء مراكز متخصصة بدراسة الحركات الإسلامية ويعمل فيها باحثون ذوو كفاءةٍ عاليةٍ جداً، وغالبيتهم يتكلمون اللغة العربية بطلاقة بسبب دراستهم أو إقامتهم في المنطقة العربية.

ومع مجيء حركة حماس إلى سدة الحكم في الأراضي الفلسطينية مطلع العام 2006م؛ ازدادت المحاولات الغربية إلى الانفتاح عليها والتعرف عليها عن قرب، وكان الرئيس الأسبق جيمي كارتر واحداً من أكبر الشخصيات التي زارت قطاع غزة وجلست مع قيادات في حركة حماس.

وفي ضوء اشتعال العدوان الصهيوني الغاشم على قطاع غزة؛ دعا كارتر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاعتراف بحركة حماس، هذا بجانب إدانة العدوان الصهيوني الدموي على غزة، واعتبار أن المجازر التي ترتكبها “إسرائيل” في حق الشعب الفلسطيني في غزة بمثابة “كارثة إنسانية”.

وفي قراءة سطحية لمبادرات وتصريحات كارتر يتبيَّن أنه محب للسلام والديمقراطية والحوار مع الآخر أو الانفتاح عليه، ولكن من يعرفه على حقيقته ومن درس تاريخه؛ يدرك أن الأمر مختلف تماماً.

تاريخ كارتر: خدمة إسرائيل أم فرض السلام؟!

يُعتبر كارتر واحداً من رؤساء أمريكا البروتستانت. والبروتستانتية هي خليطٌ من العهدين المحرَّفين: القديم والجديد. ويلخص عرَّاب البروتستانتية "مارتن لوثر" موقف مذهبه من اليهود بالقول: (اليهود هم أبناء الرب ونحن الضيوف الغرباء، علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها) (انظر: مارتن لوثر، المسيح ولد يهودياً).

وهناك عرفٌ أمريكيٌ متوارثٌ يلخصه الكاتب الأمريكي اليهودي بالقول: (الرؤساء الأمريكيون ومعاونوهم ينحنون أمام الصهيونية كما ينحني المؤمن أمام قبرٍ مقدسٍ).

أمَّا كارتر على وجه الخصوص فهو الرئيس الأكثر إيماناً في تاريخ بلاده بــ"عقيدة الولادة الثانية" كمسيحي، ومضمون هذه العقيدة أن المسيح المنتظر لن يتركهم ولو للحظة واحدة يعانون من هولوكوست معركة مجدون، وسيلتقي بهم في السماء.

لقد قام كارتر بجودٍ كبيرة لصالح الاحتلال الإسرائيلي منذ قدومه إلى مؤسسة الرئاسة الأمريكية، ولم يكن آخرها اتفاقية كامب ديفيد 1978م، واتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية 1979م، وهو ما أدَّى إلى تحييد مصر عن الصراع العربي-الصهيوني بدعاوى ضرورة الانشغال بالتنمية الداخلية، ثمَّ استفراد الاحتلال الإسرائيلي بضرب أهداف في سوريا واجتياح بيروت وضرب المقاومة الفلسطينية في الضفة وغزة وبلاد الطوق.

ويصف وزير الخارجية "سايروس فانس" سلوك رئيسه كارتر تجاه المنطقة بأن "حجر الأساس في سياسته الخارجية تجاه الشرق الأوسط كانت إسرائيل"، وهو المبدأ نفسه الذي وضعه الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون فيما أُطلق عليه بـ"مبدأ نيكسون" القائم على أسس دينية.

أمَّا كارتر نفسه فيصف علاقته بإسرائيل بأنَّها: علاقة فـــريــــدة من نوعها، لأنَّها جاءت متأصِّلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي، وبالتالي فإنه ينفذ أمر المشيئة الإلهية بحذافيرها عندما يدعم إسرائيل (انظر: كارتر، لماذا ننشد الأفضل، ص 218-219)، كما أن: الحفاظ على بقاء إسرائيل حسبما يصرِّح كارتر ليس في نطاق السياسة، بل هو واجب أخلاقي وديني (جارودي، الأساطير ...، ص 264).

وبجانب ما سبق من تفاصيل عنه، يُعتبر كارتر واحداً من أكثر القادة الأمريكان فهماً لدور الحركات الإسلامية في تحريك عجلة الصراع العربي الصهيوني.

ويبدو من المشروع التساؤل: هل سمح الرب لكارتر بالانفتاح على حركة حماس والتعاطف معها؟ وهل يسمح الرب بذلك أصلاً طالما أن إسرائيل أولاً وقبل كل شيء؟

واضحٌ أن مبادرات كارتر وخطاباته حقاً قد جاءت لتنفيذ أمر الرب، ليس فيما يتعلق بالتعاطف مع حماس، بل في الانفتاح عليها والاتصال بها من أجل خدمة المشروع الصهيوني -الذي هو ملك لأمريكا بالكامل- بشكل مباشرٍ أو غير مباشر، حيث أن الانفتاح الأمريكي عليها يرمي إلى إحداث نوعٍ من التقارب بين الطرفين، ويؤدي إلى مرونة أكبر من حماس تجاه بعض مطالب وإملاءات الولايات المتحدة في ضوء المتغيرات الدولية الجارية.

وتأتي مبادرات كارتر في ضوء جملة من التغيرات، فعلى الساحة الدولية؛ لم يعد النظام الدولي يقتصر على الدول بل تضمَّن فاعلين جُدداً كالشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الإقليمية والدولية والشخصيات الاعتبارية وكبار رجال الأعمال وحركات التحرير الوطني وغيرها.

وعلى المستوى الإقليمي فقد تمكنت الحركات الإسلامية من اعتلاء سدة الحكم في تركيا وتونس ومصر والمغرب وفلسطين وغيرها. أمَّا على الساحة المحلية فقد صمدت المقاومة الفلسطينية في ثلاثة عدوانات صهيونية دموية، وما أن تخرج من عدوان حتى تزداد قوة عسكرية وسياسية وشعبيةً.

أصبحت الإدارة الأمريكية ودولة الاحتلال الصهيوني على قناعة كبيرة باستحالة اقتلاع المقاومة الفلسطينية بقوة الحديد والنار، فغضَّت الطرف عن دخول حماس الانتخابات التشريعية عام 2006م، وها هي تُمعن في استخدام الأداة الدبلوماسية من أجل استدراجها وانتزاع موقفٍ منه.

ولا يتمُّ التقارب جملةً واحدةً، بل يأتي على مراحل أو دفعات متتالية، وذلك حتى لا تشعر حماس أنها في موضع استدراج، وهذا هو السلوك الأمريكي في استدراج الآخرين والتعامل معهم أو انتزاع المواقف منهم.

وتُدرك أمريكا أهمية هذا الأمر، لأن الانفتاح على حركة حماس يمكِّن الإدارة الأمريكية من وضع حماس وبجانبها الحركات الإسلامية الأخرى على الساحة الفلسطينية تحت المجهر الأمريكي، ويسهم إلى حدٍ ما في توجيه أو إعادة توجيه بوصلة هذه الحركات.

وحينها ستجد حماس نفسها جالسة مع قادة الاحتلال الصهيوني تحت مسميات مختلفة سواء إعلاميين أم نشطاء سلام أم قادة مجتمع مدني أم غيرهم كما حدث مع قادة عرب من قبل، أو متورطة في اتفاقيةٍ ما أو مشروع تسوية على غرار ما فعلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد مؤتمر مدريد للسلام أواخر 1991م، وبالتالي تتحول حماس إلى فتح 2، وحينها لن تبقَ لحماس قوة على الساحة الفلسطينية لأنها ليست كحركة فتح التي تمرَّست وخبرت العمل السياسي أو إدارة العلاقات الخارجية.

ولكن؛ من غير المعقول أن تقبل حماس بهكذا أمرٍ، لأنَّها عايشت تجربة حركة فتح التي وصلت إلى حد قمع المقاومة والزج بعناصرها في السجون، أو الاشتراك مع قوات الاحتلال الصهيوني في التنسيق الأمني وملاحقة المقاومين الفلسطينيين.

قليلٌ من الماضي: عبرة وعظة

بعد نجاح الثورة في إيران واختطافها الأمريكيين كرهائن في عام 1979م؛ وجد كارتر نفسه في حرجٍ شديدٍ أمام الرأي العام الأمريكي، وحينها وقع اختياره على جماعة الإخوان المسلمين بمصر كي تساعده في الاتصال بطهران، بما يترتب على ذلك من إنقاذٍ لحملة إعادة انتخابه مرة أخرى.

اتصل "كارتر" بمرشد الجماعة "عمر التلمساني" بواسطة سفير بلاده وبإذنٍ مسبقٍ من الحكومة المصرية ليطلب تدخُّل قيادة الجماعة لدى "الخميني" قائد الثورة الإيرانية، ولكن باءت المحاولة بالفشل بعد رفض إيران إجراء أي حديث حول الرهائن.

دون الخوض في تفاصيل الاتصالات بين الجانبين، يمكن القول إنَّ اختيار كارتر للإخوان المسلمين في مصر، ليس لمجرد محاولة فك قيد الرهائن الأمريكية في طهران فحسب، بل حاول بأدواته وحنكته السياسية ودهائه اختراق صفوف الإخوان المسلمين أو على الأقل فتح خطوط اتصال معهم في سبيل التعرُّف عليهم بشكلٍ أكثر، ومن ثم تسهيل عمليات التغلغل فيها.

وبعدها طلب كارتر من المخابرات الأمريكية إعداد دراسة حول نشاطات الحركات الإسلامية في العالم كله، ولذلك ليسهل على الإدارة الأمريكية وأصدقائها في المنطقة مراقبة تلك الحركات عن كثب، حتى لا تفاجئ باندلاع ثورة إسلامية جديدة في أي مكان في العالم، ولمَّا كانت جماعة الإخوان المسلمين في مصر هي الحركة الأُم فإنَّه من الأهمية بمكان فتح قنوات الاتصال الحوار معها، وذلك لطمأنة الحركات الإسلامية الأخرى حيال الإدارة الأمريكية (أنظر رسالة ماجستير الباحث: ص159).

وأخيراً؛ لعله من المفيد القول إن المرحلة المقبلة ستشهد انفتاحاً غربياً كبيراً على حركة حماس وغيرها من الحركات الإسلامية، وهذا يتطلب من الحركة إدراك حقيقة المساعي الأمريكية وفهم أبعادها وأهدافها وما ورائها، والتنبؤ بمآلاتها المستقبلية.

 
.