القدس والأقصى / حقائق مقدسية

الطرق العملية لاستعادة المسجد الأقصى

محمد صالح السيلاوي

 

إن من استوفى أسباب النصر من كثرة العسكر وقوة عدته، وحسن التخطيط للمعركة، وقام بإعداد ما يستطيعه من قوة؛ فانه ينتصر على من ليس كذلك، وما وقع للصحابة - رضي الله عنهم - من نصر لهم على المشركين بالرغم من قلة عددهم وعددهم؛ فذلك لأنهم كانوا قد قاموا بكل ما قدروا عليه، مع ما حققوه من الإيمان بالله تعالى، فلم يبق إلا ما لا يقدرون عليه من أسباب النصر، فأتوا بها، ثم سألوا الله تعالى النصر مستغيثين به، فاستجاب لهم ونصرهم.

ولكنك تجد ألوف المسلمين والمتدينين يظنون آن الأمة يمكنها آن تنتصر على أعدائها بمجرد إيمانها بالله تعالى، وبمجرد سؤالها دعائها الله بالنصر على أعدائها، ولو لم تأخذ بما تستطيعه من أسباب النصر والغلبة، فلا حاجة في الحرب والجهاد - عند هؤلاء - إلى معرفة البلاد، ولا غيرها من الفنون العسكرية، لأن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء!، وهي كلمة حق لم تجعل في موضعها؛ فالله هو الناصر والممكن، ولكنه جعل لكل شيء سببا وسنة تعرف بالاختبار: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تبْدِيلًا{ (1)

ولا شك أن مثل هذا الاعتقاد هو السبب في كثير من الفشل الذي يقع في الأمة، فإن الأخذ بالأسباب العملية والعسكرية أمر ضروري لتحقيق النصر، ولذلك ما وقع للأمة من استنصارها الله على عدوها بقراءة صحيح البخاري(2)!، والدعاء المجرد عن الأخذ بأسباب وعوامل النصر العملية: فانه سبب للفشل والهزيمة، وهو مخالفة لأمر الله وسننه الكونية والدينية، وإن كانت هذه السنن الكونية مقيدة بمشيئة الله، وهي قد تتخلف بحسب إرادته سبحانه وتعالى وحكمته، إلا أنه لم يتعبدنا بالركون إلى هذه الاستثناءات المغايرة لسنته، وإنما تعبدنا سبحانه وتعالى بما سنه ي الكون من السنن، فالنصر يكون لمن أعد للحرب عدتها، وجهز لها جهازها، من القوة العسكرية وكثرة الرجال، وإحكام التخطيط، وهو ذاته ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ومواجهاته مع المخالفين له من مشركين ونصارى ويهود، كما صنع في بدر من جعل الماء وراء ظهر المسلمين ليمنع وصول المشركين إليه، ومن أمر الرماة في أحد بملازمة الجبل ورمي المشركين منه وحماية ظهر المسلمين، وفي غزوة الأحزاب عندما كان عدد المشركين يفوق المسلمين بكثير فقرر التحصن بالمدينة وحفر الخندق حولها ليمنع دخول الأحزاب إليها، وما صنعه من تخطيط ف فتح مكة ابتداء؛ بإيقاد النيران، إلى توزيع الجيش الإسلامي، ثم دخوله إلى مكة وهو على أهبة الاستعداد لأي طارئ، فجعل المغفر (3) على رأسه، كل هذا وغيره أكثر يدل دلالة أكيدة على أن المعركة التي يخوضها المسلمون ليست فقط بقوة الإيمان فحسب وأن الأمة ستنتصر بإيمانها دون الأخذ بعوامل النصر الأخرى، بل الإيمان عامل لا يستهان به إذا كان معه الأخذ بما يستطاع من أسباب النصر الكونية.

قال تعالى:  وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ترْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يعْلَمُهُمْ{ (4)، وقال: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5).

يقول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - : تضمنت هاتان الآيتان جميع ما يلزم المسلمين في مدافعة الأعداء ومقاومتهم، وذلك بالاستعداد بالمستطاع من قوة عقلية وسياسية ومعنوية ومادية، فدخل في ذلك تعلم أنواع الفنون الحربية، والنظام السياسي والعسكري، والاستعداد بالقواد المحنكين والمدربين، وصناعة الأسلحة، وتعلم الرمي والركوب بما يناسب الزمان، وبأخذ الحذر من الأعداء بالتحرز والتحصن، وأخذ الوقاية من شرهم، ومعرفة مداخلهم ومخارجهم، ومقاصدهم وسياساتهم، وعمل الأسباب والاحتياطات الوقائية من شرهم وضررهم وأن نكون منهم دائما على حذر في وقت السلم فضلا عن وقت الحرب، فإن جهل المسلمين بشيء من المذكورات نقص كبير فيهم، وقوة لعدوهم، وإغراء له بهم (6).

ولأهمية القوة العسكرية قرنها الله تعالى في دعوة الرسل لأقوامهم بالمعجزات والآيات القاهرة، مع ما أنزله من البيان والبراهين العقلية الدامغة، لتقوم الحجة على جميع بني آدم، ولتستقيم الحياة البشرية بالعدل والقسط، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ { (7).

يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله: «فذكر تعالى أنه انزل الكتاب والميزان وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم الله من ينصره ورسله، ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر، وكفى بربك هاديا ونصيرا » (8)، وقال: «فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد؛ ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف » (9)، ففي خلق آلات الحرب ومادتها حكمة الابتلاء، ليعلم الله من يستعملها ف نصر دينه وأوليائه، ومن يستعملها في حرب دينه وأوليائه.

ولنذكر الآن أهم الأسباب والطرق العملية التي تقود الأمة إلى النصر والتمكين، واستعادة المسجد الأقصى - بإذن الله -.

اجتماع الكلمة ووحدة الصف

إذا كنا مهددين في كل أرض لأن ديننا الإسلام؛ وإذا كنا - كما نعلم - على خطر لا ينجي منه إلا الاتحاد والالتئام، والأخوة التي دعانا إليها القرآن؟ فإن من أهم طرق النصر العملية اجتماع الكلمة، ولا سيما بالاعتصام بالله، والتكاتف، والتعاون وعدم النزاع والافتراق، قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{(10)، وقال عز وجل: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا{(11).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا{(12).

والإسلام دين التوحيد ودين الوحدة، فهو الذي أخرج العرب من متاهات الحروب الطاحنة، والعداوة والاختلاف بين القبائل على أتفه الأسباب، وجعل منهم قوة ضاربة من الشرق إلى الغرب في أقل مدة من الزمن في عمر الدول.

فمن أعظم الطرق التي مكنت المسلمين من فتح البلاد هو ما كانوا عليه من اجتماع الكلمة ووحدة الصف، مع ما كانت عليه الدول العظمى الأخرى من الضعف، والفتن الداخلية، والحروب الطاحنة، والضرائب الجائرة التي كانت عبئا كبيرا على ساكنيها، وظلم الحكام،

فكانت الدولة الإسلامية آنذاك هي المخرج والخلاص لهذه الشعوب من الواقع الصعب الذي تعيشه.

وكما كانت الدولة الاسلامية كلما ضعفت بالتفرق والاختلاف تسلط عليها الأعداء، فمثلا عندما انتشرت الخلافات وساد التفرق في الدولتين الأموية والعباسية تسلط عليهما التتار من الشرق والصليبيون من الغرب، فكانت النتيجة أن ضاعت الأندلس، وكادت فلسطين أن تضيع - آنذاك - بعد أن احتلها الصليبيون أكثر من تسعين عاما.

وللمثال؛ فقد أراد أحد ملوك المسلمين والذي كان حاكما للموصل (13) بعد سقوط بيت المقدس أن يجمع الجيوش لمحاربة النصارى، لكن التنازع والخلافات بين المسلمين كانت قد بلغت مبلغها، فقتل هذا الملك المسلم في يوم العيد بعد الصلاة في المسجد غيلة، فكتب ملك الفرنجة إلى الملك المسلم (14) الذي جاء بعده كتابا فيه كلمات بليغة، تنبؤ عن أن  القوم كانوا ينظرون إلى هزيمة المسلمين لائحة أمام أعينهم، فقال كلاما ذكره ابن كثير رحمه الله - يقول فيه: «إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله آن يبيدها » (15).

كيف تنتصر الأمة وبينها مثل هذه الخلافات، والأحقاد تتسلط عليها؟ كيف تنتصر وهي ليست موجهة نحو إعلاء كلمة الله، ورعاية مصلحة المسلمين.

وكذلك إذا كان العدو متفرقا تسوده الخلافات كانت الفرصة أقوى للمسلمين أن ينتصروا عليه، فعندما كانت حملة ملك إنجلترا (ريتشارد قلب الأسد) في عام ٥٨٥ه  متجهة إلى عكا، حيث اتجهت إليها القوات الصليبية التي سعت لاسترداد القدس من المسلمين، وذلك بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي لها عام ٣٨٥ه؛ وقد ضلت بعض سفن الملك (ريتشارد) في البحر فهجم عليها حاكم صقلية النصراني وأخذها، فعاد (ريتشارد) فهاجم صقلية فاحتلها، فكان سببا ف تأخير وصوله إلى عكا، ثم في أثناء قيام هذا الملك الصليبي بحصاره للقدس وفيها القائد صلاح الدين متحصنا بالقدس كانت الخلافات قد دبت بين أمراء الحملات الصليبية، ف حين أن كلمة المسلمين كانت مجتمعة على الجهاد في سبيل الله مع القائد صلاح الدين، ثم زاد موقف الصليبيين تأزما أن قام (يوحنا جون) وهو أخو الملك (ريتشارد) بأخذ البلاد الإنجليزية، وأعلن نفسه ملكا عليها، فقرر حينها (ريتشارد) العودة فورا إلى إنجلترا ليسترد ملكه، فهو أولى عنده من استرداد القدس (16).

وكذا عندما جاءت الدولة العثمانية، وقد تفرقت الكلمة وكثر التنازع والاختلاف في الروم؛ استطاعت أن تحقق الانتصارات والفتوحات، بل وحققت التقدم الإنساني العلمي في كثير من المجالات، والروم لم يكونوا أقل من العثمانيين عددا ولا علما بالحروب؛ وإنما كان ينقصهم ما كان عند العثمانيين من الفضيلة والوحدة؛ فإن فساد الأخلاق والتنازع في الدين لا يبقي للأمم بقية (17).

وعلى المسلمين في هذا الوقت الذي استطاع فيه الاستعمار بعد سقوط دولة الخلافة أن يفكك ترابطهم ووحدتهم أن يعودوا إلى الوحدة الاسلامية، وبكل الطرق السرية والعلنية على حد السواء، بحيث لا يتمكن العدو من القضاء على محاولات الوحدة الاسلامية وهي في مهدها، كما وقع في أوقات كثيرة وفي تجمعات إسلامية أو عربية، فإن المصلحة في وحدة المسلمين بعضهم مع بعض تفوق بكثير جدا - وعلى المدى البعيد - المصلحة التي قد تكون للمسلم مع أعداء الله في وقت من الأوقات، وعلى المفكرين (18) والعلماء والرؤساء والأمراء في بلاد الإسلام أن يخصصوا لهذه الغاية جل جهودهم ولا يجعلوا الاختلاف في المذاهب أو الأنساب أو الأوطان أو الغنى والفقر سببا للتفرق والاختلاف، فالدين واحد والرب واحد والرسول واحد والكتاب واحد والقبلة واحدة، وهكذا يجب أن تكون الأمة الاسلامية أمة واحدة، لا تفرقها الحدود السياسية التي فرضها الاستعمار، أو المذاهب الدينية التي كانت اجتهادا من العلماء والمصلحين في فترة من تاريخ الأمة .

ولتحقيق هذه الغاية ينبغي أن تخصص الدراسات وتؤسس لأجلها المراكز البحثية والعلمية التي تعمل على إيجاد الوسائل الحديثة والعملية التي تعزز من الوحدة الاسلامية مع ما هو متوفر من العوامل الدينية والجغرافية والتاريخية والحضارية، وإزالة الموانع التي تحول دون وحدة الأمة.

كما ينبغي إعادة النظر في المناهج التعليمية، وبالأخص كتب التاريخ المعاصر في الجامعات والمعاهد، التي تغرس أحيانا بذور التفرق والحقد بين أبناء الأمة، وهي في الحقيقة من جهالة بعض المنظرين من المسلمين، الذين يحسنون الظن بعدوهم المستعمر أكثر مما يحسنونه بإخوانهم من المسلمين، أو هي من دسائس المحتلين والمستعمرين أو المستشرقين على الأمة، ليبقى لهم الجو مناسبا في استعمال بعض أبناء الأمة ضد البعض الأخر، كما هو حاصل ومعلوم في السياسة البريطانية الأمة على مبدا: (فرق تسد)، وهو مبدا طالما عملت به بريطانيا بين العرب والمسلمين، حتى تصل إلى أهدافها من إحكام السيطرة والنفوذ على الجميع.

وإن من المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية رفض تلك الأصوات الشاذة التي تطالب بالتخلي عن الشعب الفلسطيني، فإن المسلم لا يبني وحدته وانتماءه لأمته بمواقف بعض الأشخاص، منهم الجاهل، ومنهم صاحب الهوى، ومنهم المنافق، وإنما يبني أخوته وانتماءه لأمته من خلال العقيدة التي لا تتغير، ويواجه الخلل القائم فيها أو في بعض أطيافها بإصلاحه لا بالتفريق بين الأمة.

وليس من وحدة الكلمة والمحافظة على الجماعة منع المخالف من التعبير عن رأيه، ومحاربة كل من يدلي برأي آخر فيه مصلحة المجتمع، أو ينتقد سلوكا للحاكم يراه منحرفا، بل ينبغي أن يكون الحوار وتبادل وجهات النظر، دون أن يكون هناك إرهاب فكري على المخالفين للرأي الحاكم.

وإن من البيعة التي كان يأخذها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه مع السمع والطاعة الذي هو أساس الجماعة والاتحاد، ما كان يأخذه عليهم من قول الحق، وأن لا نخاف في الله لومة لائم، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الامر اهله، وأن نقوم - أو نقول - بالحق حيثما كنا لا نخاف ي الله لومة لائم» (19).

إن الإسلام جاء ليجمع الناس، ويؤلف بين القلوب، ويوحد الصفوف والجهود في سبيل خير الانسانية عموما والمسلمين خصوصا؛ ومن أجل ذلك شرعت العبادات الجماعية، من جمعة وجماعة وعيدين، وشرعت العبادات المالية، من زكوات وصدقات وكفارات ونفقات، وشرعت الأحكام الأسرية والاجتماعية من بر وصلة وإحسان ومعروف وتسامح وعفو، وحرمت الكثير من الأعمال التي قد تفسد صفو العلاقات الأخوية من غيبة ونميمة وكذب وغش وخيانة.

وفي الحديث المتفق على صحته عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» (20).

كما مثل صلى الله عليه وسلم وحدة المسلمين مرة بالبناء المتماسك ومرة بالجسد الواحد، فإذا تألم منه عضو بمرض سرى الألم إلى باقي الأعضاء، فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين ف توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (21)، وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (22).

إسناد القيادة للأهل العلم والإيمان

من طرق النصر واستعادة المسجد الأقصى تولية قيادة الجيوش، والسرايا، والأفواج، والجبهات لمن عرفوا بالإيمان الكامل والعمل الصالح، ثم الأمثل فالأمثل؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{(23).

والله عز وجل يحب أهل التقوى، ومحبته سبحانه للعبد من أعظم الأسباب في توفيق عبده وتسديده ونصره على أعدائه، قال الله تعالى: {بلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ{(24).

ويرحم الله أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما أمر خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بالتوجه إلى اليرموك، لينضم بمن معه من الجند والمجاهدين مع الجيش الإسلامي هناك ليكون بقيادته وقال: «والله لأشتغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد» (25).

أما القائد نور الدين زنكي - رحمه الله - فقد كان - رحمه الله - قائدا تقيا ورعا، يقوم الليل حتى السحر، ويسمع الحديث ويسمعه ويجمعه، ويحافظ على صلاة الجماعة، وكذلك كانت زوجته حريصة على قيام الليل، فقد نامت عن وردها ليلة فرآها غضبى، فسألها، فأخبرته، فأمر أجيرا أن يضرب كل ليلة بشيء له دوي ليوقظ من بالبيت لقيام الليل وأعطاه أجرا جزيلا (26).

جمع الشجاعة والخشوع لربه    ما أحسن الشجعان في المحراب

وكذلك كان رجال نور الدين وقادة جيشه، ومن أولئك الوزير أبو الفضل الشهرورزي (27)، فكان وزيرا وناظرا على الأوقاف والمالية والقضاء، وظل حتى زمن صلاح الدين، وابن أبي عصرون الذي شغل منصب رئيس القضاة، وغيرهم كثير ممن ذكرهم السبكي في كتابه (طبقات الشافعية).

وكذلك استمر القائد صلاح الدين على سيرة نور الدين في تولية المناصب لأهل العلم والفضل، ومنهم القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي الذي قال عنه صلاح الدين: «لم أفتح البلاد بسيفي ولكن برأي القاضي الفاضل»!

وذلك أن القائد صلاح الدين مرض مرضا شديد جدا، وخاف الناس عليه، «ثم نذر لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الإفرنج، ولا يقاتل بعد ذلك مسلما، وليجعل أكبر همه فتح بيت المقدس، ولو صرف في سبيل الله جميع ما يملكه من الأموال والذخائر، وليقتلن (البرنس) صاحب الكرك بيده، لأنه نقض العهد وتنقص الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام، فأخن أموالهم وضرب رقابهم، وهو يقول: أين محمدكم؟ دعوه ينصركم! وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل هذا، وهو أرشده إليه وحثه عليه، حتى عقده مع الله عز وجل، فلما شفاه الله وعافاه من ذلك المرض الذي كان فيه» (28)

المشاورة بين المسلمين

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، مع كمال عقله وسداد رأيه، امتثالا لأمر الله تعالى، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فتوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتوَكِّلِينَ {(29)، وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بينهُمْ{(30) أي شأنهم ذلك، أو كما تقول: المال بين فلان وفلان أي مشترك بينهما، وقد جاء الأمر في الآية الأولى صريحا إذ قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ{(31)، ودخول الأمة من باب أولى؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم غني عن رأيهم بالوحي، وأيضا فإن في المشاورة تطييبا لقلوبهم؛ وليكونوا فيما يفعلونه أنشط (32).

قال ابن القيم - رحمه الله -: «وكان يشاور أصحابه ف أمر الجهاد وأمر العدو وتخير المنازل وفي المستدرك (33) عن أبي هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم» (٣٤).

وقد قرر علماء الأصول أن الأمر يقتضي الوجوب، فهذه الآية أصل عظيم في تأسيس الدولة الإسلامية المقيدة بالشورى، لأن الاستشارة واجبة، وترك الواجب معصية فترك الاستشارة معصية.

وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالمواقف التي تدل على اهتمامه بهذا المبدأ الهام من مبادئ السياسة والحرب وإدارة شئون المسلمين.

«فشاورهم - عليه الصلاة والسلام - يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا: «يا رسول الله؛ لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون» (35)

وشاورهم أيضا أين يكون المنزل، فأشار المنذر بن عمرو (أعنق ليموت) (36) بالتقدم إلى أمام القوم (37).

وشاورهم في أحد أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج، فخرج(38).

وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه ذلك السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك (39).

وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصديق: إنا لم نجيء لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال (40).

وقال - عليه الصلاة والسلام - في قصة الافك: «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبنوهم بمن! والله ما علمت عليه إلا خيرا» (41) .

واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة، رضي الله عنها.

فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها» (42).

والمشاورة مع أهل الرأي والعلم والقيادة لها من الفوائد والمصالح العامة الشيء الكثير؛ يقول العلامة السعدي - رحمه الله -: «فإن المشاورة من أعظم الأصول والسياسات الدينية، وفيها من الفوائد: امتثال أمر الله، وسلوك الطريق التي يحبها الله حيث نعت لمؤمنين بها، وفيها الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم فإنه مع كمال عقله ورأيه وتأييده بالوحي كان يشاور أصحابه في الأمور المهمة، ومن فوائدها أنها من أكبر الأسباب لإصابة الصواب، وسلوك الوسائل النافعة لاجتماع آراء الأمة وأفكارها، وتنقيحها وتصفيتها، مع أن الله يعينهم في هذه الحال التي فعلوا فيها ما أمرهم به ويسددهم ويؤيدهم، ومنها أن المشاورة تنور فيها الأفكار، وتترقى المعارض والعقول، فإنها تمرين للقوة العقلية وتربية لها وتلقيح للأذهان واقتباس لبعضهم من آراء بعض، ومنه أنه قد يكون الصواب من مجموع رأيين أو ثلاثة أو أكثر، وإذا تقابل الصواب والخطا ووزنتها العقول السليمة بالموازين العقلية التي لا تركن إلا إلى الحقائق الصحيحة ظهر الفرق بين الأمرين، ولا سبيل لذلك إلا بالمشاورة، ومنها أن المشاورة من أسباب الألفة والمحبة بين المؤمنين، وشعور جميعهم أن مصالحهم واحدة مشتركة، وتنبيه للأفكار والآراء على النافع والضار الصالح الأصلح...» (43).

يقول بشار (44):

إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن           برأي نصيح أو حزامة حازم

ولا تحسب الشورى عليك غضاضة       مكان الخوافي نافع للقوادم

وخل الهوينا للضعيف ولا تكن         نؤوما فإن الحزم ليس بنائم

قال الأصمعي (45): «قلت لبشار: يا أبا معاذ؛ إن الناس يتعجبون من أبياتك في المشورة؛ يعني هذه الأبيات، فقال: يا أبا سعيد؛ إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته، أو خطا يشارك في مكروهه، فقلت له: أنت في قولك هذا، أشعر منك في شعرك» (46).

ومن الخطوات العملية لتطبيق هذا المبدأ في الأمة الاسلامية أن تسعى إلى إقامة «مجلس شورى المسلمين تتألف أركانه من جميع طوائف المسلمين، وكل أمير من أمراء المسلمين يكون له نائب في ذلك المجلس من.... واليمن والحجاز والعراق ومصر إلى غير ذلك، ومن أكراد وترك وغيرهم ...

.... ثم إن كل أمير يبقى أميرا على إمارته، ويعقد بها مجلس شورى أيضا، وكل هذه الأشياء بانتخاب الأمة كشأن أهل الغرب، لكن على طريق الشرع» (47) .

إعلان النصر قبل المعركة

من المعلوم أن النصر في المعارك لا يعلن قبل انتهاء المعركة، وأن الجزم بالنصر في المعارك يبقى حتى اللحظات الأخيرة غير معروف، لكننا نرى في السيرة النبوية وفي بعض المعارك الإسلامية أن القادة أعلنوا النصر قبل بدء المعركة! وذلك لأن الذي أعلن هذا النصر قبل نهاية المعركة أو قبل بدئها قد استحضر آمورا معينة، ورأى أن الأسباب مهيأة للنصر، وعرف حقائق إيمانية لا تزول ولا تتغير فجزم بذلك.

ففي يوم بدر لما قضى الله - عزوجل - أن يلتقي النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بكفار قريش ولم يكونوا قد تهيئوا لذلك، وقد صفت الصفوف، توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وهو يناشد ربه ويسأل مولاه، ويلح في المسألة ويلح في الدعاء ويقول: اللهم نصرا كالذي وعدتني، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بحفنة من الحصى ورمى بها في جهة الكفار، وقال: (شاهت الوجوه)، ثم قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط.. هذا مصرع أبي جهل.. هذا مصرع أمية بن خلف.. ويعين مواقع مقاتلهم، وكما قال الرواة في السير: فما أخطا واحد منهم ما أشار (48).

وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين، اجتمع فيه عليهم شدة البرد مع شدة الجوع مع شدة الخوف مع كثرة العدو مع خيانة الذي كان نصيرا.. ففيوم الأحزاب الذي وصفه الله وصفا عجيبا حيث قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا{ (٤٩) .

وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم مسددا بالوحي، إلا أن الأمر كان منه نظرا لما رآه من أسباب النصر، ولهذا فقد وقع من غير الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة من جزم بالنصر؛ كما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في عام ٢٠٧ه في موقعة (شقحب) عندما تلاقى المسلمون والتتار.

وكان شيخ الإسلام - رحمه الله - يحرض المؤمنين على القتال، ويحثهم على الجهاد، ويؤمرهم بالدعاء، ثم يقول: والله إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة «، فيقولون له : قل إن شاء الله، فيقول لهم: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا «(50)، أي أن ذلك واقع لا محالة ولكنه بمشيئة الله لا تعليقا كأنه يشك ي نصر الله عز وجل؛ فجزم شيخ الإسلام بحصول النصر قبل وقوعه، لأنه قد رأى بعينيه أسباب النصر تتحقق في الأمة، فعلم أن قوما قد لجئوا إلى الله - عز وجل - ونبذوا المعاصي، وتوحدت صفوفهم؛ فان الله عز وجل سينصرهم، وهو يعلم أن عده عز وجل لا يتخلف.

الثبات عند لقاء العدو

يقول تعالي في: }يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثبتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تفْلِحُونَ{(٥١).

والفلاح في الحرب هو الانتصار، لأن المحارب إذا ذكر الله الذي يعتقد أن بيده ملكوت كل شيء وهو الجبار القدير، وهو القوي الذي تتضاءل لديه كل القوى، واستمد منه النصر لأنه يحارب بحق يرضيه، فلا شك أنه يزداد جرأة وإقداما، ويستهين بخصمه وإن كان استعداده فوق استعداده.

وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم في جميع معاركه التي خاضها، كما صنع في بدر وفي أحد وحنين، وكان قد ثبت يوم حنين حين تراجع بعض المسلمين: «فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: انا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب ... اللهم نزل نصرك» (52).

وفي أعقاب أحد، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة، وقضى منهم إلى الله -عز وجل - سبعون من الشهداء وأثخن البقية بالجراح، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، ثم رجعوا إلى المدينة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا، ليلحقوا بجيش المشركين وبأبي سفيان ومن معهم من قريش.. وكانت جراحهم ما تزال تنزف دماء، وأمر أن لا يخرج معهم أحد أبدا ممن لم يشهد أحدا، فما تخلف منهم رجل واحد..}الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنهُمْ وَاتقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{53).

فخروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في أثر المشركين إنما كان لثباتهم ف لقاء العدو، ولأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتضعفه، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال، ولذلك استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتبروا أنفسهم مهزومين، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام بلياليها، فلما أراد أبو سفيان أن يرجع إلى المدينة، ويتتبع جراحات المسلمين، قان: ما بلغنا من القوم مبلغا، ما قتلنا محمدا صلى الله عليه وسلم

ولا قتلنا أبا بكر، ولا عمر، ولا استأصلنا شأفتهم، ولا غزونا مدينتهم»، وكان يهم بالرجوي، فإذا به بأحد الأعراب، فسأله: «ما خبر محمد؟» فقال: «رأيته هو وأصحابه يجد في أثركم، فلاذ أبو سفيان بالفرار، واقتنع بالنصر الذي وقع له، ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة فقال: «هل لك أن تبلغ محمدا رسالة وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة؟» قال: «نعم»، قال: «أبلغ محمدا انا قد اجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه»، فلما بلغهم قوله قالوا: {حَسْبنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتبعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ{ (٥٤) (55).

ومن ثباته صلى الله عليه وسلم ما وقع منه ي معركة حنين حيث يقول البراء: «كنا والله إذا احمر البأس نتقي بت، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم (56).

وركوبه صلى الله عليه وسلم على البغلة في معركة حنين وغيرها يدل على شجاعته وقوة ثباته؛ ولهذا ذكر العلماء أن ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس أنه النهاية في الشجاعة والثبات؛ لأن ركوب الفحولة أو الفرس مظنة الاستعداد للفرار والتولي، وكذلك نزوله إلى الأرض حين غشوه يدل على المبالغة في الثبات، والشجاعة (57).

وهذا العنصر؛ عنصر الثبات في أوج المعركة - وعندما يحمى الوطيس - من أهم العناصر التي تحدد الطرف المنتصر، وكما سبق لنا الكلام عن هذا العامل في الصبر والمصابرة من الطرق الوسائل الايمانية، فهو طريق مشترك بين الطرق الإيمانية والعملية، والذي يهمنا في هذا الموضع أن نعلمه أن الواجب على المسلمين في المعركة الثبات وعدم الفرار.

وقد جاءت الأحاديث ببيان أن الفرار من الزحف من كبائر الذنوب، فعن أبي هريرة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله؛ وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (٥٨).

وفي هذا يقول العلامة رشيد رضا - رحمه الله -: «فالصبر والثبات ف الحرب واجتماع الكلمة خير من كثرة الجيوش، فتأمل تعليل النصر في النص الكريم: }كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{ (59). وقوله تعالى: } إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثبتُوا... {(60) ... إلى قوله: }... وَلَا تنَازَعُوا فتفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{ (61).

ومعنى كونه تعالى مع الصابرين؛ أن سنته في خلقه قد جرت بجعل الصبر من أعظم أسباب الغلب والنصر، ولا سيما إذا صحبه الإيمان بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه، وبمجموع ذلك فاز المسلمون من قبل، فغلبوا الأمم الكثيرة بالفئات القليلة» (62).

ويحلل - رحمه الله - نتائج الحرب العالمية بين الألمان والإنجليز إلى ما يتمتع به الإنجليز من أخلاق، وعلى رأسها الصبر والثبات ويقول: «والصبر والثبات والتعاون من الأخلاق التي امتازت بها الأمم الإنكليزية على كثير من الأمم منذ أجيال؛ لذلك كانت أخلاقهم أنفع لأحلافهم من أمو الهم ومتاعهم، فلولاهم لم يثبت على حرب الألمان أحد، وهؤلاء الألمان أقران لهم، وأقتال ف ذلك، فحرب الأخلاق بينهما هي الجهاد الأكبر، وعليه المعول الأخير في النصر والظفر» (63).

وهل كانت القدس لتسترد من أيدي الصليبيين وقد مكثت في أيديهم أكثر من تسعين عاما، إلا بثبات نور الدين زنكي وخليفته صلاح الدين الأيوبي على جهاد الصليبيين، بالرغم من الهزائم التي لحقت بهم أحيانا، وبالرغم من الأعداد الهائلة التي كانوا يواجهونها منهم، وتتابع الحملات الصليبية على هم، وبالرغم من تخاذل واختلاف الكثير من أمراء المناطق الاسلامية آنذاك.

وفي عام ٢٩٤ ه اقتحم النصارى بيت المقدس واحتلوها، ودخلوا إلى المسجد الأقصى وقتلوا فيه من المسلمين نحو الستين ألفا (64)، حتى خاضت ركب الخيل في دماء المسلمين (65). فكانت هزيمة مروعة للمسلمين لم يسبق لها مثيل، وكانت فظاعة من القتل والوحشية تنخلع لها قلوب الرجال.

ومع ذلك يذكر التاريخ أنه بعد عامين اثنين فقط وفي عام ٣٩٤ه، التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى، فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها.

وقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - في (البداية والنهاية) (66) أن عدة جيشهم كان نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، قتلوا وما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف وأكثرهم جرحى.

فأولئك الذين هزموا تلك الهزيمة التي من يسمع بها ظن أن لن تقوم لهم قائمة، وأنهم قد قضي عليهم، ولكنهم ثبتوا وصبروا، فعادوا وكروا على أعدائهم وكانت الدائرة لهم مرة أخرى لثباتهم وإصرارهم على النصر، بل كان انتصارهم ثأرا لما حصل لهم أول مرة.

وفي عام ٦٥٦ ه عندما دخلت جيوش التتار بغداد - ونحن نعلم سيرة التتار وقصصهم وما عندهم من البأس والقسوة، ثم بعد عامين اثنين، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام ٨٥٦ه تأتي موقعة (عين جالوت) ليكسر فيها التتار كسرة لم تقم لهم بعدها قائمة.. وهو الجيش الذي لا يقهر كما يقال (67)

ومن أمثلة التمسك بهذا الطريق (الثبات) ف معركتنا القائمة أمام اليهودية والصليبية المعاصرة رفض التطبيع مع اليهود بجميع أشكاله، ليكون هذا الرفض رفضا شعبيا لا رسميا فحسب.

ويجب أن ترفض الأمة أنصاف الحلول، التي تحولت إلى أرباع ثم أخماس ثم إلى ٣ % من فلسطين، واعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ولا يعني ذلك عدم وضع خطة مرحلية لتحرير أجزاء من فلسطين ثم المسجد الأقصى، بل ينبغي استغلال الفرصة في استعادة أي جزء من أرض فلسطين أو القدس، كما حصل في زمان الحملات الصليبية.

ولقد فطن أعداء الأمة فلم يكن اعتناؤهم بعد دراسة طويلة بعد الحروب الصليبية بكسر المسلمين عسكريا وحربيا فحسب، بل إنهم يسعون بدراساتهم وإعلامهم واقتصادهم أن يطيلوا أمد الهزيمة طويلا، وأن يعمقوا تأثيرها ف نفوس وف قلوب وعقول الأمة أفرادا ومجتمعات، حتى ينخروا في بنيان الأمة، فلا تقوم لها قائمة، ولكنهم يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين.

إن الهزيمة النفسية تفعل في الأمة أشد من فعل أعدائها بها في ساحة المعركة، وهو مما كانت تعاني منه الأمة الاسلامية، ولكن بوادر الصحوة قد لاحت، وبشائر النصر قد أطلت، وهاهي الأمة تعود إلى دينها، وتهيئ الجيل الذي سيقودها إلى العز والنصر وتحرير المسجد الأقصى وتحرير الانسان من عبودية الدنيا والمادة، إلى عبودية الواحد الديان.

تأصيل هوية القدس الإسلامية (68)

وهوية المسجد الأقصى، وذلك بإقامة المؤتمرات والندوات العالمية، وبثها على القنوات الفضائية وترجمتها على الهواء مباشرة، والتكثيف الإعلامي على اعتداءات اليهود على المسلمين في الأقصى وفلسطين وفي القدس خصوصا حيث يسعى اليهود جاهدين لتوطين اليهود فيها وطرد أهلها الأصليين، فإن اليهود قاموا بالسيطرة على وسائل الإعلام الرسمية فالعالم (69)، حتى صار الكثيرين في الغرب وأمريكا لا يعرفون عن المسجد الأقصى خصوصا وعن العرب والإسلام والمسلمين إلا ما يريده ويهواه اليهود، كما أظهرت ذلك أفلام هوليود اليهودية الدعم ذلك. (70).

ومما ينبغي السعي إليه حتى تبقى قضية الأقصى وفلسطين حية في ضمير الأمة العمل على تدريس مادة عن القدس والمسجد الأقصى، وعن اليهود وما قاله القرآن الكريم عنهم، وتعليمها لأبنائنا حتى لا ينسوها، ولو لم يكن ذلك في المدارس الرسمية فعلى الآباء والأمهات حمل هذه المهمة باختيار كتاب ميسر ومصور يكون قريبا للأفهام عن قضية المسجد الأقصى.

الإنفاق في سبيل ألله

والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ترْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ{(73)، قال ابن القيم:» أما الجهاد بالمال ففي وجوبه قول؛ والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء» (74).

فانظر كيف عطف الله الأمر بالإنفاق في سبيله بعد الأمر بإعداد العدة للعدو الظاهر والعدو الخفي، مما يؤكد هذه الحقيقة وهي أهمية عنصر المال في المعركة، ولا شك آن ذلك مما يمكن المجاهدين والمرابطين من مواصلة الجهاد، ومقاومة الاحتلال حتى النصر، وتحرير الأقصى بإذن الله. ولقد قرن الله تعالى الجهاد بالمال بالجهاد بالنفس، وحث عليهما معا، وقد ذكرهما معاف إحدى عشرة آية يحث فيها المؤمنين على الجهاد، وقدم بالذكر الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في عشرة منها، ولقد عرف أعداؤنا - وبالأخص اليهود - أهمية عنصر المال في المعارك والثبات فيها.

ولعل البعض يعتذر عن الإنفاق في سبيل الله بالقلة والفقر، فلا يحقرن المرء من المعروف شيئا، والأدلة تحث الانسان على أن يتصدق ولو بشق تمرة، ولو بسهم، فقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - تفسير قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهْلُكَةِ{: لا يقولن أحدكم لا أجد شيئا أنفقه، فإن لم يجد إلا مشقصا (٧٥) فليجهز به في سبيل الله ثم قرأ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهْلُكَةِ{(76).

وعن السدي (77) قال: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ{؛ أنفق في سبيل الله ولو عقالا {وَلَا تلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهْلُكَةِ{تقول: ليس عندي شيء، (78).

وعن الضحاك (79) قال: {التهْلُكَةِ {: أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله» (80).

وقد يظن البعض أن الجهاد بالمال محصور بالإنفاق على المعركة والقتال المباشر بين المسلمين وعدوهم، والصحيح أن الجهاد بالمال له وجوه كثيرة من مساعدة الفقراء والمساكين، وبناء المدارس والمساجد، والمعاهد والمستشفيات، بل وتعبيد الطرق وإعداد المرافق العامة، فضلا عن كفالة الأيتام وطلاب العلم، وتوفير أسباب العيش الكريم للمرابطين خاصة على أرض الإسراء، ودعم الجمعيات الخيرية ولجان الزكاة فيها.

وأما الإنفاق على إعداد المقاتلين والعمليات القتالية، فلا شك أنه يدخل في الإنفاق في سبيل الله، وعلى هذا دل الكتاب والسنة فقال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{(81)، جاء عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قالى: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم، (82).

وقال ابن القيم - رحمه الله: وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس وهذا إحدى الروايتين عن احمد وهي الصواب الذي لا ريب فيه؛ فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه، بل جاء مقدما على الجهاد بالنفس في كل موضع إلا موضعا واحدا (83)، وهذا يدل على أن الجهاد بالمال أهم وآكد من الجهاد بالنفس ولا ريب انه أحد الجهادين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من جهز غازيا فقد غزا» (84)، فيجب على القادر عليه كما يجب على القادر بالبدن، ولا يتم الجهاد بالبدن إلا ببدله، ولا ينتصر إلا بالعدد والعدد، فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة، وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى» (85).

فأين أهل الأموال الذين يبخلون بمالهم حتى في دفع الزكاة فضلا عن التصدق بفضول أموالهم، قال صاحب كتاب مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق - رحمه الله -: «وقد يقوى الإنسان على الشيطان في خروجه إلى الجهاد في سبيل الله، ولا يقوى عليه في سعة الإنفاق مع القدرة، لما يوسوسه إليه من أنك إذا رجعت من جهادك، لا تجد لك مالا، وقد يحصل لك جراح، أو نهب، أو مرض، فترجع فقيرا ليس معك شيء، ولا لك مال تعول عليه، فاترك مالك إلى أن ترجع، واجتهد على توفير النفقة ما أمكنك، ونحو هذا الكلام، وإنما يسكن إلى هذه الوسوسة، من كان عنده دسيسة باطنة لا يشعر بها من حب الرجوع إلى الدنيا، وكراهة القتل في الله، والبخل ببذل النفس في سبيل الله، إذ لو كان يصمم العزم على طلب الشهادة صادقا في قصدها، لما تفكر في أحوال رجوعه، إذ لا يحدث نفسه بالرجوع أبدا.... وقد يوسوس لك أنك تقتل، فيبقى ولدك بعدك فقيرا، وعيالك محتاجون فاترك مالك لهم ولا تنفقه، وبكفي بفقدهم لك مصيبة، وهذه الوسوسة إنما يقبلها من لم يكن عنده ثقة بالله، واشتمل باطنه على دسيسة من الشك في الايمان بكفالة الله رزق العباد، وتدبير مصالحهم، وإلا فمن شهد أنه واسطة بين الله وبين أهله وعياله في وصول الرزق إليهم على يده، وأنه لا يملك لهم، بل ولا لنفسه مثقال ذرة، لم يهتم بأرزاقهم في حياته ولا مماته»(86).

أين هؤلاء من عثمان - رضي الله عنه - عندما تصدق بقافلة بأكملها في غزوة تبوك، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما ابديت، ثم قال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (87)، وربما إذا قيل لأحد هؤلاء الذين يضنون بزكاة مالهم على الجهاد في سبيل الله، وعلى المسلمين في الأقصى بمثل تضحيات الصحابة وإنفاقهم أموالهم لنصرة دين الله قالوا لك: وأين نحن من الصحابة، هؤلاء صحابة، وكأن الصحابة لم يكونوا بشرا، وكأن الصحابة كانت السماء تمطر عليهم ذهبا وفضة! وكأن المسلم مأمور أن يقتدي باليهود في بخلهم وحرصهم على الدنيا!  مع أن بعض اليهود اليوم (88) صاروا أحسن حالا - في وقوفهم مع بني جلدتهم - بكثير من مثل هذا الذي يبخل بزكاة المال والتصدق في سبيل الله، وفي سبيل تحرير الأقصى، فمنذ اللحظة الأولى بذلوا الغالي والنفيس، فعرضوا على السلطان عبد الحميد الأموال وأعطوه الهدايا، ولكنهم باءوا بالخيبة والفشل مع رجل يعتز بأرض الإسراء، ثم توجهوا إلى بذل الأموال للحكومة البريطانية فقدمت لهم أكثر ٢٠٠٠٠٠ دونم (89) كهدية، وقامت بتأجيرهم ٣٠٠٠٠٠ دونم (90) من أرض فلسطين للمؤسسات اليهودية لمدة ٩٩ عاما!! (91).

ولكن لنا في أسلافنا خير قدوة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة - رضي الله عنهم - إلى عهود المسلمين المتعاقبة إلى يومنا هذا، فان في المسلمين من يضرب ببذله للمال أروع الأمثلة في التضحية والإيثار، من القادة والعلماء والأمراء والعامة أيضا، ففي الحروب الصليبية كان الناس من القادة والجند والأغنياء بل والفقراء يتنافسون على بذل المال في الجهاد لتحرير الأقصى من الصليبيين، فمن القائد نور الدين الذي كان يعمل بيده فيخيط الكوافي ويصنع سكاكر الأبواب فيعطيها لامرأة عجوز تبيعها فينفق على نفسه منها(92)، إلى صلاح الدين - رحمه الله - مات ولم يترك دورا ولا قصورا ولا مالا كثيرا وإنما ترك وراءه مجدا تليدا، وكانت تركته لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد أي دينار واحد صوريا وستة وثلاثين درهما (93).

قال ابن كثير - رحمه الله -:» وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، حتى إلى أعدائه... وقد كان متقللا في ملبسه، ومأكله ومركبه، وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف» (94).

وكذا كان رجال صلاح الدين كالقاضي الفاضل، وقد كان له مال كثير وأراض كثير فتصدق بها وأوقفها على الجهاد والمجاهدين (95)، ومثله الأمير علاء الدين الوزير صهر الملك الظاهر، فقد كان كثير الصدقات وأوقف خانا له على فكاك الأسرى، وعند موته أوصى بثلاثمائة ألف تصرف على الجند بالشام ومصر، فحصل لكل جندي خمسون درهما (96)!!

وكذلك كانت نساء القادة والأمراء والملوك منهن من يوقف الأوقاف ويتصدق بالصدقات الوفيرة مثل زمرد بنت جاولي زوجة زنكي والد نور الدين محمود وهي بانية المدرسة الخاتونية البرانية غربي دمشق، وكانت لها قرية أوقفتها على المتفقهة وطلبة العلم، قال ابن كثير رحمه الله: قال السبط، ولم تمت حتى هل ما بيدها، وعانت تغربل القمح والشعير وتتقوت بأجرته، وهذا من تمام الخير والسعادة وحسن الخاتمة رحمها الله تعالى» (97)، وأكثر منها كانت عصمت الدين زوجة نور الدين التي أوقفت الخاتونية الجوانية، وكانت من أكثر النساء صدقة ومن أعفهن (98)، كما ذكر وتقصي ذلك في مصادر التاريخ أمر يطول.

فالجهاد بالمال يشترك فيه الرجل والمرأة، والغني والفقير، والأمير والمأمور، وغنما الكثير من القليل، فلا يستقل المرء دينارا و لا فلسا، وقد بارك الله ف القليل وذكره وأثنى على أهله كما أثنى على الكثير، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نفْسِهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا ينَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنفِقُونَ نفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يعْمَلُونَ}(99).

إن الإنفاق في سبيل الله أحد مصارف الزكاة الثمانية، فليس القتال ف المعركة وجهاد الأعداء بالنفس أولى وأحرى من الجهاد في سبيل الله بالمال، بل ربما هي الآن أولى في طريقنا إلى تحرير الأقصى من المواجهة بالقوة والمقاومة بالسلاح، فلنربي أنفسنا وأبناءنا ونساءنا على حب الإنفاق وحب الجهاد في سبيل الله، فالتحرير قادم، ووعد الله متحقق إن شاء الله، والمسجد الأقصى عائد بإذن الله (100).

...................:

وأترك هذا الطريق أو العنصر للأخ القارئ الأريب؛ فانه ما من مسلم إلا وهو يستطيع أن ينصر قضية المسجد الأقصى بما لا يستطيعه أو يمكن غيره من المسلمين أن ينصره به؛ فالأم في بيتها تستطيع أن تقدم شيئا لا يقدمه غيرها، والأب كذلك، والمدرس، والإمام والخطيب، والواعظ، والعامل، والموظف، وكل مسلم عليه أن يجعل لهذه القضية من همه وتفكيره وجهده وعمله وماله نصيبا.

مجلة بيت المقدس للدراسات - العدد السادس

• الهوامش:

1.    الأحزاب: ٩٢.

2.    انظر؛ قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: ٢٦٣ - ٢٦٧.

3.    ما يلبسه المقاتل على رأسه.

4.    الأنفال: ٦٠.

5.    النساء: ٧١.

6.    السياسة الشرعية: ١٧-١٨.

7.    الحديد: ٢٥.

8.    مجموع الفتاوى؛ ١٠/ ١٣.

9.    مجموع الفتاوى: ٣٨/ ٢٦٤.

10.                       الأنفال: ٤٦.

11.                       أل عمران: ١٠٣.

12.                       النساء: ٥٩.

13.                       واسمه الملك مودود.

14.                       واسمه الملك طغتكين، وقيل أنه هو الذي تمالا على قتل الملك مودود وكانا سيران معا في صحن المسجد بعد صلاة الجمعة فجاء رجل باطني فقتله، وكان صائما، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر، فلم يفعل وقال: لا لقيت الله إلا صائما، فمات من يومه رحمه الله، وقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله. انظر: البداية والنهاية: 12/217.

15.                       المرجع السابق.

16.                       انظر: البداية والنهاية: 12/421-٤٢٦، الكامل: 9/221.

17.                       انظر: مجلة المنار: 6/857

18.                       انظر على سبيل المثال: الدراسة الجادة التي قدمها الدكتور عبد الله الدويهيس تحت عنوان: الطريق إلى الوحدة الشعبية... دعوة لناء الجسور بين الاتجاهين القومي والإسلامي، وكذلك الدراسة التأصيلية للإمام رشيد رضا بعنوان: الوحدة الإسلامية، وللشيخ الفاضل عبد الرحمن بن عبد الخالق: الطريق إلى وحدة الأمة ورسائل أخرى له حول الموضوع.

19.                       البخاري: كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، برقم: ٧١٩٩، ومسلم: كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها ي المعصية، برقم: ١٧٤٥.

20.                       البخاري: كتاب الأدب، باب الهجرة، برقم: 6076، ومسلم: كتاب الأدب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، برقم: 6473.

21.                       البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم: ٦٠١١، ومسلم: كتاب الأدب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم: 6٥٢٩، واللفظ له.

22.                       البخاري: كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا، برقم: ٦٠٢٦، ومسلم: كتاب الأدب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم: 6٥٢٨.

23.                       الحجرات: ١٣.

24.                       أل عمران: ٧٦.

25.                       الداية والنهاية: 7/8.

26.                       انظر؛ البداية والنهاية: 12/345.

27.                       انظر طبقات الشافعية: ٤/ ٧٤ و٢٣٧.

28.                       الداية والنهاية: ٣٨٧/٢١، وقد فصل وأطنب الحافظ - رحمه الله - مكانة هذا العالم الجليل عند القائد صلاح الدين وصدوره عن رأيه ومعاونته إياه فليرجع إليه.

29.                       أل عمران؛ ١٥٩.

30.                       الشورى: ٣٨.

31.                       أل عمران؛ ١٥٩.

32.                       انظر؛ تفسير ابن كثير: ٢/ ١٩٤.

33.                       السنن الكبرى للبيهقى: ٧/ ٤٥، وقال الحافظ ابن حجر: «ورجاله ثقات إلا أنه منقطع، وقد أشار إليه الترمذي ف الجهاد فقال: ويروى عن أبي هريرة فذكره» فتح الباري: 13/409، وهو عند الترمذي: كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة، دعد الحديث رقم: ١٧١٤.

34.                       زاد المعاد: 3/87.

35.                       البخاري: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم..) برقم: ٣٩٥٢، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام: ١/614- ٦١٥، السيرة النبوية لابن كثير: 2/391- ٣٩٥.

36.                       لقب للصحابي ومعناه: سار مسرعا، وقد ثبت في صحيح البخاري أنه نال الشهادة في سرية بئر معونة بعد غزوة الخندق، وكان أميرها. الإصابة في معرفة الصحاة: 3/460 -٤٦١.

37.                       السيرة النبوية لابن هشام: ١/ ٦١٤، زاد المعاد: ١٧٢/٣- ١٧٥، وفيه أن الذي أشار عليه بالتقدم إلى الماء الحباب بن المنذر.

38.                       السيرة النبوية لابن هشام: ٢/ ٦٣، زاد المعاد: ٣/ ١٩٣.

39.                       السيرة النبوية لابن هشام: ٢/ ٢٢٣، زاد المعاد: ٣/ ٢٧٣.

40.                       السيرة النبوية لابن هشام: 3/329، زاد المعاد: 3/289.

41.                       البخاري: كتاب الا عتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»، برقم: ٧٣٦٩، ومسلم: كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم: ٦٩٥١، واللفظ له. وانظر زاد المعاد 3/265.

42.                       تفسير ابن كثير: ٢/ ١٩٤.

43.                       السياسة الشرعية: ١٥-١٦. 

44.                       هو بشار بن برد شاعر العصر من موالي بني عقيل وكان ضريرا نشأ في البصرة وقدم بغداد ومدح الكبراء، وكان من أشعر الناس، وأدرك الدولتين الاموية والعباسية، واتهم بالزندقة فمات ضربا بالسياط، ودفن بالبصرة، وكانت عادته، إذا أراد أن ينشد أو يتكلم، أن يتفل عن يمينه وشماله ويصفق باحدى يديه على الاخرى ثم يقول!!! وتوف عام ١٦٧هـ. انظر: سير أعلام النبلاء: ٧/ 2٤، الأعلام للزركلي: 2/52.

45.                       عبد الملك بن قريب الباهلي، أبو سعيد، نسبته إلى جده أصمع، حجة الأدب، لسان العرب، راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والتلدان، ومولده ووفاته ف البصرة، كثير التطواف في البوادي، يقتبس علومها ويتلقى أخبارها، ويتحف بها الخلفاء، فيكافا عليها، وكان الرشيد يسميه (شيطان الشعر) انظر: سير أعلام النبلاء: ١٠/ ١٧٥، والأعلام: 4/162

46.                       الأغاني: ٣/ ١١٠ -111

47.                       مجلة المنار: 7/581.

48.                       السيرة النبوية لابن هشام: 1/615، زاد المعاد: 3/182.

49.                       الأحزاب: ١٠ -11

50.                       البداية والنهاية: 14/28-٣٠.

51.                       الأنفال: ٤٥.

52.                       البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته فاستنصر، برقم: ٢٩٣٠، ومسلم: كتاب المغازي، باب في غزوة حنين، برقم: ٤٥٩٢، واللفظ له.

53.                       أل عمران: ١٧٢ - ١٧٣.

54.                       أل عمران: ١٧٤.

55.                       السيرة النبوية لابن هشام: ٢/ ١٢١، زاد المعاد: 3/241 - ٢٤٢.

56.                       مسلم؛ كتاب المغازي، باب في غزوة حنين، برقم: ٤٥٩٢.

57.                       انظر؛ فتح الباري: 7/672 و٦٧٥، شرح النووي على صحيح مسلم: 12/332 - ٣٣٢.

58.                       البخاري: كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، برقم: ٦٨٥٧، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم: ٢٥٨.

59.                       البقرة: ٢٤٩.

60.                       الأنفال: ٤٥.

61.                       الأنفال ٤6.

62.                       مجلة المنار؛ 20/199.

63.                       المرجع السابق.

64.                       وذكر ابن الأثير أنهم أكثر من سبعين ألفا، الكامل: 8/188 - 189

65.                       انظر؛ البداية والنهاية: 12/192.

66.                       البداية والنهاية: 12/195.

67.                       انظر: البداية والنهاية: 13/255 - ٢٥٧.

68.                       انظر: مقالا للدكتور وائل الحساوي رئيس تحرير مجلة الفرقان بعنوان (الأقصى والإعلام الإسلامي) في كتاب موسوعة الخطب المقدسية الصادر عن مركز بيت المقدس للدراسات الإسلامية: ٢٩١ - ٢٩٢.

69.                       انظر: النفوذ اليهودي الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية لفضيلة الشيخ فؤاد الرفاعي.

70.                       انظر؛ مجلة العربي عدد الشهر نيسان من عام ١٩٨٨ م، ف مقال: العربي كما تراه هوليود.

71.                       انظر: صراعنا مع اليهود في ظلال القرآن، جمع وإعداد: أنس عبد الرحمن، نشر مكتبة دار اليان بالكويت.

72.                       ومن هذه الكتب التي ينصح بقراءتها واختيارها كمرجع مختصر وجامع عن المسجد الأقصى وما ينبغي معرفته حوله كتاب: المسجد الأقصى... الحقيقة والتاريخ، للأستاذ عيسى القدومي الباحث المتخصص ف القضايا والشئون الفلسطينية، وكذلك كتاب: فلسطين... التاريخ المصور، للدكتور طارق السويدان.

73.                       الأنفال: ٦٠.

74.                       زاد المعاد: 3/72.

75.                       نصل السهم، إذا كان طويلا غير عريض. القاموس المحيط: ٨٠٢.

76.                       جامع البيان ف تأويل القرآن: 3/585.

77.                       انظر ترجمته ف هذا البحث: ٦.

78.                       جامع البيان ف تأويل القرآن: 3/586.

79.                       هو ابن مزاحم الهلالي، صاحب التفسير كان من أوعية العلم، قيل حدث عن ابن عباس، وابن عمر وغيرهما من الصحابة، كما حدث عن سعيد بن جبير، وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وكان يعلم الصبيان ولا يأخذ أجرا، وكان ديدنه: لا حول ولا قوة إلا بالله، توف عام ١٠٥ هـ. انظر سير أعلام النبلاء: 4/600، الأعلام: ٣/ ٢١٥.

80.                       جامع البيان في تأويل القرآن: 3/587 .

81.                       البقرة: ١٩٥.

82.                       أبو داود: كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، برقم: ٢٥٠٦، وقال النووي: إسناد صحيح، رياض الصالحين: ١٣٤٩.

83.                       في سورة التوبة: ١١١ .

84.                       البخاري: كتاب الجهاد، باب فضل من جهز غازيا، برقم: ٢٨٤٣. وتتمة الحديث؛ «ومن خلف غازيا بخير فقد غزا «.

85.                       زاد المعاد: 3/558 - ٥٥٩.

86.                       مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق: 1/297.

87.                       الشطر الأخر منه عند احمد برقم: ٢٠٩٤٩ (٥/ 6٣)، والترمذي: كتاب المناقب، باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، برقم: ٣٧٠١، وانظر زاد المعاد: ٣/527، قال الأرناؤوط: سنده حسن.

88.                       انظر: الجهاد بالمال في سبيل الله: ٦٣ - ٧٧.

89.                       ما يساوي: ٨٠٩,٣٧١,٣ مترا مربعا.

90.                       ما يساوي: ١,٢١٤,٠٥٦,٩ مترا مربعا.

91.                       انظر: فلسطين وأكذوبة بيع الأرض: ٤٩. 

92.                       انظر؛ طبقات الشافعية: ٧/297

93.                       النجوم الزاهرة ف ملوك مصر والقاهرة: 6/52.

94.                       البداية والنهاية: 13/7 - ٨.

95.                       انظر؛ البداية والنهاية: 13/30 - ٣٢.

96.                       انظر: البداية والنهاية: 13/376.

97.                       انظر البداية والنهاية: 12/306.

98.                       انظر البداية والنهاية: 12/389.

99.                       التوبة: ١٢١. 

100.                  وهناك من الأفكار ما يستطيع المسلم أن ينفذها في طريق دعمه لإخوانه المسلمين ف المسجد الأقصى، ومن هذه الأفكار (رابطة التجار) وقد حدد صورتها وأهدافها ولجانها وكيفية تفعيل هذه الرابطة الباحث: جهاد عايش.

.