فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول
منهج «طالوت» في تحرير فلسطين
جهاد العايش
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُو وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}( البقرة: ٢٤٦ -٢٥١).
بضع آيات كريمات اختصرت فترة زمنية مهمة من حياة بني إسرائيل، كان أهم سمات هذه الفترة - التي تصل إلى ٤٠٠ سنة - استهانتهم بأمر الله، فاستهانت الشعوب بهم فأذلتهم.
مسيرة أنبياء الله عليهم السلام في تحرير فلسطين
جاء إبراهيم إلى فلسطين مع ابن أخيه لوط عليهما السلام يحمل معه دعوة التوحيد حيث وصى بها بنيه مستخلفا لهم دعوة أسسهم عليها، {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(البقرة:١٣٢).
وفيها رزق إبراهيم بإسحق عليهما السلام، كما رزق يعقوب (إسرائيل) بأبنائه الاثني عشر (الأسباط) فخرج يعقوب إلى جوار ابنه يوسف عليهما السلام في مصر ويبدو أنه ترك خلفه من ذريته من يرعى أمر المسلمين منهم هناك في فلسطين.
ثم جاء عهد الفراعنة في مصر فساموا بني إسرائيل سوء العذاب يطبعونهم على الذل والهوان، وفي فترة تصادف وجود موسى عليه السلام على أرض مصر يغلب الجبارون على الأرض المباركة فلسطين فيتغير فيها نظام الحكم الإسلامي، فيخرج نبي الله موسى عليه السلام وبأمر من الله في بني إسرائيل من مصر مرورا بسيناء متوجها إلى الأرض المباركة لتحريرها، ولإقامة شرع الله فيها؛ معلنا فيهم كما أخبر سبحانه وتعالى على لسانه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}(المائدة: ٢١).
وهنا ظهر الكفر والعناد وسوء الطباع من بني إسرائيل في مرحلة أحوج ما يكونون فيها إلى الله، وإلى طاعة نبيهم موسى عليه السلام؛ فأعلنوا التعنت كما أخبر الله عن حالهم حين أمرهم موسى عليه السلام بالدخول إلى الأرض المقدسة قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}(المائدة: ٢٢) حينها أعلنوا الحرب على الله تعالى، فأعلن الله الحرب عليهم، فكان التيه في سيناء أربعين سنة لا يهتدون سبيلا، حتى وافت المنية موسى عليه السلام وهم في التيه وكان ما بين إبراهيم إلى وفاة موسى عليهما السلام قرابة ٧٠٠ سنة.
فترة انقطاع الأنبياء عن بني إسرائيل
بقي بنو إسرائيل من بعد وفاة موسى ويوشع صلوات الله عليهما قرابة أربعمائة سنة لا يقيمون شيئا من أمر الحكم والسيادة، إنما همهم إقامة الدين والدعوة إليه، «والكوهن» بينهم بمثابة الخليفة لموسى صلوات الله عليه، يشرف على أضاحيهم وقرابينهم ويقيم لهم الصلاة، ويشترطون فيه أن يكون من ذرية هارون أخا موسى عليهما السلام لأن موسى لم يعقب؛ ثم اختاروا من بينهم سبعين شيخا يدبروا أمورهم ومعاشهم.
ولم يبق من سبط النبوة أحد وهو سبط «لاوي»، من يقيم فيهم أمر الله أو يدبر أمرهم، إلا امرأة من بني إسرائيل حبلى حبسوها فكانت تدعو الله رجاء أن تلد لهم غلاما؛ فجاءها الولد فسمته «شمويل» - أي سمع الله دعائي -.
«جالوت» وجنوده يغتصبون فلسطين
كان جالوت ملك «العمالقة»، يستوطن هو وقومه ساحل البحر، بين مصر، وفلسطين، وهم «العمالقة أو العماليق» أو كما جاء ذكرهم في القران الكريم بالقوم الجبارين، وقد تسلطوا على بني إسرائيل فأذاقوهم البلاء والعذاب الشديد، أخذوا أرضهم وأذلوا رجالهم وسبوا نسائهم وسلبوا توراتهم وفرضوا عليهم الجزية، وانتهى بينهم كل سبط للنبوة، ومضى عليهم أربعمائة سنة وهم على هذا الحال حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فطلبوا على لسان نبي لهم قيل أنه «شمويل أو صمويل»، أن يبعث الله لهم ملكا يقاتلون معه.
جيـل الصحوة
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(البقرة: 246).
وهذا من سنة الله في خلقه عندما تستضعف الأمم فإنها تلجا إلى المناداة وإلى الوحدة والترابط وتذعن لطاعة السرب أو لأوامر الرئيس.
وقعت أحداث هذه القصة بعد دخول بني الإسرائيل الأرض المقدسة في فترة من فترات حياتهم، بعد أن انحرفوا عن منهج الله سلط الله عليهم من يضطهدهم ويهزمهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وقد سلب الله منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وال هارون وأوقعه بيد الجبارين الكفرة.
وبعد أن ذاق بنو إسرائيل الويلات من الجبارين وسلبوا منهم ما كانت تسكن إليه قلوبهم وهو التابوت، شعروا بالذل، حينها عرفوا أهمية وجود الملك بينهم.
ويلاحظ أن الملك وإمامة الدين لا ينفكان في شريعة بني إسرائيل، فقد كان في ذات الأمة نبي أقام بينهم سياسة الدين ومع وجوده طلبوا الملك لسياسة الدنيا؛ فهو مطلب عزيز فإن أمر الدنيا وسياستها لا تقوم منفكة عن العلماء الربانيين والعكس صحيح.
ليس هذا فحسب بل ليتمكنوا بوجوده من تحقيق أمر الله؟ إنها الفريضة الغائبة بينهم والواجب الشرعي الذي عجزوا عن القيام به من دونه، وهو الجهاد في سبيل الله.
إن الملا من بني إسرائيل الذين تنادوا للإصلاح هم صفوة المجتمع الذين يحملون هم أمتهم، هم الطائفة المنصورة، هم من يحملون هم الدين، هم الذين قال تعالى فيهم وأمثالهم: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(العصر:٣).
إنها الصحوة الايمانية الجديدة بين بني اسرائيل، والعودة إلى الدين بعد السأمة من الغواية.
إنه تشريف الله لهم أن يستعملهم على طاعته، عن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله. قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت، ثم يقبضه عليه). (الألباني: صحيح الجامع، حديث رقم: ٥٠٣).
اجتمعوا على هم أمتهم فوصفهم الله بالملا وهم الجماعة، وبالجماعة والنظام يتحقق النصر، لأن الفوضى لا تغلب النظام؛ فمن رحم المعاناة يولد النصر، وحينها اصطفى الله لهم هذا الملك.
{نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(البقرة: 246)، إنها كلمات غير مسؤولة تصدر عن بعض عديمي الخبرة والتجربة، حقا كفى ببارقة السيوف فتنة!! يتقدمون إلى فتنة لم يعرفوا أبعادها !! ولم يدركوا أنهم مقبلون على كارثة ونكسة معنوية ستفقدهم الكثير من جنودهم المتخاذلين لأول وهلة ومن دون قتال!! وليس كما يظن كثير ممن لا يعرفون حقيقة ساحة الحرب إلا من خلال قراءة كتب السير والتاريخ أو الروايات البطولية لعظماء الإسلام وهو متكئ على وسادته؛ فبريق السيوف في المعركة يزلزل القلوب ولا يعرف حقيقة ذلك إلا من وطأت قدمه ساحة الوغى.
فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم فمن هذه الأمنيات الخداعة، عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: (يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية؛ فإذا لقيتم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم). (متفق عليه)
فكم ممن لم يتهيا لملاقاة العدو انقلب على عقبيه من أول وهلة، ولنقرا سير وأخطاء لجماعات التي تسرعت في مواجهة الخصوم، فكانت المفسدة أعظم من المصلحة إنه الملك المرجوة.
بزوغ فجر الملك الصالح
قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}(البقرة:247).. أنه الملك المؤيد من الله وهو من نسل بنيامين بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، وليس من سبط الملك الذي هو في يهوذا ولا من بني لاوي سبط النبوة، وقد خصه الله تعالى بزيادة بسطة في العلم والجسم، وطالوت: تعني في اللغة العبرية الطويل، وبسببه انتقل التابوت مرة أخرى إلى بني إسرائيل.
أول مراحل الابتلاء:
اعتراضهم على تمليك طالوت عليهم، {قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}، وحجتهم الواهية أنه ليس من السبط الذي منه الملك ولا من أهل الأموال، وهي حجة ومبرر من تعلق بالماديات والمظاهر، مع أن مطلبهم لنبيهم بادئ ذي بدء: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يشترطوا أن يكون من أصحاب الأموال، نعم إنها الدعوى الكاذبة لبعضهم، إنهم يثيرون الفتنة بين صفوف أهل الإيمان، ويصرفون الأمور عن حقائقها وجوهرها ويوجهونها إلى مسار غير صحيح، إن أمة بني إسرائيل منهكة من تسلط أعدائها عليها، وهؤلاء يطالبون بملك ثري ، مع أنه:
١- من اختيار الله لهم.
٢- زاده الله بسطة في العلم.
٣- زاده الله بسطة في الجسم.
٤- ومعه آية وعلامة على تمليك الله له وهي أن التابوت الذي سلبه الجبارون سيرجع بسببه طالوت إلى بني إسرائيل تحمله الملائكة وتضعه بين أيديهم.
إنه عهد جديد لمفهوم الملك في بني إسرائيل بعد أن انتقل الملك من سبط «يهوذا» إلى سبط «بنيامين»، فالنفوس البشرية من عادتها أنها تخشى التغيير مع أن هذا الاختيار اختيار رباني وبمواصفات وميزات لم تكن لملك قبله، إنه اختيار الله عز وجل رفض اليهود قال تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(البقرة: 247-248) . قال ابن عباس رضي الله عنه: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب .
الملك طالوت يخرج بالجيش لملاقاة العدو
خرج طالوت الملك الجديد لبني إسرائيل بالجنود من بيت المقدس وهم يومئذ ثمانون ألفا لم يتخلف عنه إلا معذور لمواجهة الكافرين جالوت وقومه.
ثاني مراحل الابتلاء
قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} أي خرج وانفصل عن مستقرهم ودار مقامهم، انفصلوا عن دورهم وملذاتهم؛ من نساء وطعام وشراب، وراحة بال منشؤها الأمن والأمان، وأصبح الأمر جدا لا هزل فيه، وساحة لا مكان فيها للكلام والأقوال والتنظير أو التعليل، إنها ميدان الأفعال التي سيحكم عليها في الحال، ومع هذا فالفتنة هنا ليس لها مبرر بحال، فجموع جيش الإيمان كثيرة يتقدمها الكهنة، ونبي وملك زاده الله بسطة في العلم والجسم، والعدو بعيد، فلا مبرر للتساقط السريع في صفوف جيش الإيمان الذي نادى بالجهاد وذاق ويلات الجبارين الكفرة وبطشهم.
إن الخروج لملاقاة العدو هو من الابتلاء، نعم هو كذلك فالجهاد ليس مطلبا في ذاته إنما هو وسيلة لدفع العدو الصائل وإقامة أمر الدين والدنيا.
إنه مرحلة من مراحل زلزلة القلوب، ومرحلة من مراحل الابتلاءات والسقوط السريع لكثير من بني إسرائيل حتى تتجلى حقيقة دعواهم، ويظهر صدق تفرس نبيهم بهم، لما قال لهم، كما في قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
إن الداعية الفطن لا يغتر بكلام المتحمسين عديمي الخبرة أصحاب الرأي الوقتي والنظرة السطحية، الذين يتلونون بألوان الأحداث من حولهم، ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، ما أكذب هذه الفئة وألحن لسانها فقد أدلت بمبررات لا شك بها ولا ريب، لكنها لما كان الجد قال الله تبارك وتعالى واصفا حالهم:{تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره (٣/ ٢٤٥): هذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فاذا حضر الحرب جبنت وانقادت إلى طبعها.
وأثناء المسير الشاق تساقط منهم من تساقط ولكن الملك الخريت أكمل مسيره دون أن يلتفت إلى الوراء، أو يضيع وقته بالتأسف على ما فات ومن فات!! حتى وصل بهم إلى نهر اعترضه وجنده فكان:
ثالث مراحل الابتلاء:
عدم الشرب من النهر:
قال تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}، قال قتادة رحمه الله-: هو نهر بين الأردن وفلسطين، وقيل أن الله تعالى أجرى نهر الاردن الذي لم يكن موجودا من قبل، بسبب تجربة بني إسرائيل وابتلائهم، فشرب من النهر من تعلق بأسباب الأرض ودخل في قلبه لخوف من الموت ومهابة الأعداء جالوت وجنده».
والناظر لظواهر الأمور ليزدري هذا النوع من الاختبار ويقلل من شأنه، فما الداعي أو المبرر لمنع الجند أن يشربوا من ماء نهر جار لا ينضب وقد أنهكهم العطش وهم في جهاد يعذر فيه ما لا يعذر في غيره؟!
نعم إنها حاجة القائد ليميز الطيب من الخبيث من جنده وليميز الجيد من الرديء في جنده، وليعرف حقيقة ما عنده من عدد وعدة حرب.
نعم لا غنى لأي قائد عن اختبارات مستوى الصبر عند جنده وحقيقة ولاتهم.
إن أصنافا من الدعاة لتعجب من جزعهم لأنواع من كماليات الدنيا لا يصبرون على فقدانها ويضجرون عند غيابها فكيف بهم يصبرون على هم الدعوة وبلائها!!
ولا يدركون أن النصر مع الصبر، لأن النصر لا يتأتى إلا للصابرين، وهي سنته سبحانه وتعالى بأن يكون النصر آثرا للثبات والصبر.
وقد قيل لعنترة عرف لنا الصبر؛ فقال لسائله: ضع أصبعك بين أسناني وأصبعي بين أسنانك، وليعض كل منا أصبع الآخر، فصرخ الرجل، فقال عنترة: لو صبرت لصرخت قبلك!
رابع مراحل الابتلاء:
قان تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}(البقرة: ٢٤٩).
عن البراء رضي الله عنه، قال: كنا وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه النهر إلا مؤمن (رواه البخاري)؛ قالوا، نعم هم الذين قالوا: لا طاقة لنا، لقد أدانوا أنفسهم، وعجزوا حتى عن القول الحسن وإخفاء القول الجبان، وإنه من باب أولى أن يعجزوا عن الفعل الحسن!!
إنه المنطق الجاهل المتدني الذي لا يليق ولا يصدر عن أصحاب الإيمان الرفيع والهمة العالية. فكلامهم دليل على أن كلام نبيهم لم يلامس قلوبهم، إن أمام كل ابتلاء فئة تقع فيه وهي سنة الله في خلقه، ويخطئ من يظن من القادة والمربين أن كل من معه هم خلاصة المجتمع وأنهم علهم على هلب رجل واحد ة الإيمان، فإنه يغالط سنن الله في خلقه، إنه مغرور في نفسه وقومه ويصرف بصره عن الحقيقة، إن صور المتبوعين معنا ومهما كانت براقة، فإنه ولا بد لها وأن توضع على المحك الذي يظهر حقيقة معدنها ويجليه.
إن الأصل في أمة الإسلام الاستعداد الكامل للجهاد دون تردد ومن استعدادها التدرب والإعداد، وهو أن يروض الإنسان نفسه على لولاء الحرب وعلى الصبر والطاعة والنظام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه). (صحيح الجامع الصغير للألباني رقم: ٢٣٢٨).
نعم قد يقولها الحكماء من الأمة الذين يدركون حقيقة مستوى أمتهم ومتبوعيهم، ويرمون من ذلك أن أمتهم لم تتهيأ بعد لملاقاة عدوها والحاجة قائمة إلى المزيد من التربية والإعداد، ويبدو أنهم كانوا يدركون مع طالوت أهمية تنقية الصف وتمييزه.
انتصار الحق على الباطل
قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ}.
خرج داود عليه السلام من بين جند طالوت، فأخذ حجرا فرماه بالمقلاع فأصابت بين عيني جالوت فصرخ ثم صرع وانهزم من معه.
من أين جاء داود عليه السلام؟ ومن أين له هذه القوة؟ إنه أحد أفراد الفئة المؤمنة التي تجاوزت مع طالوت وبنجاح كل مراحل الاختبارات، فاستحق شرف قتل جالوت رأس الباطل فاستحق بعدها شرف النبوة.
إن داود عليه السلام وقبل أن يبعث هو ثمرة من ثمرات مشروع طالوت التربوي؛ نعم إن نبي الله داود عليه السلام رجل قوي، لكنه لما قتل جالوت وهزم جنده كان بإذن الله كما قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأنفال:17).
إن المؤمن يرمي بأمر الله ورعاية الله ومعية الله، انه مؤيد من الله منصور بالله وجنده من حيث لا يحتسب.
قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ}، ويلاحظ في الآية كيف سبقت كلمة بإذن الله، وقتل داود جالوت، لأنه ما قتله لولا إرادة الله أولا، وأن يكافا طالوت وجنده على إيمانهم وصبرهم ويقينهم بالله.
كيف كان حالهم عند مواجهة الفئة الكافرة؛ قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة: 249)
فكانت مكافأة الله لهم {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} إنها معادلة سهلة لكنها لا تخفى إلا على أعمى البصيرة!!
إن الأمة إذا آمنت واتقت ربها فتح عليها من أبواب الخيرات من كل مكان، إنها ثمار سينتفع بها بنو إسرائيل وستحقق لهم السعادة والسؤدد لأنها ثمرات صبر الفئة المؤمنة.
إنها بركات دعائهم لما قالوا: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(البقرة:250).
استحقوا سيادة الأرض المقدسة وسيادة الناس، لما كان هذا يقينهم وصبرهم، وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة: 24)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقا على هذه الآية، لا تنال الإمامة بالدين إلا بالصبر واليقن».
ويلاحظ من مجمل أحداث القصة أن التغيير لم يكن وليد لحظة، ولا بجهد فرد أو قائد واحد، إن النصر جاء بتظافر الجهود وبتناغم أعمال القادة والمصلحين؛ فعلى صعيد القادة والمربين جاء ذكر الملا من بني إسرائيل الذين عبروا عن الصحوة الجديدة في بني إسرائيل، ثم النبي عليه السلام لم يعرف اسمه، ثم الملك طالوت، ثم نبي الله داود عليه السلام.
وفق السنة الكونية ما كان لداود عليه السلام أن ينتصر إلا بإذن الله أولا ثم بخلاصة الفئة المؤمنة التي قام طالوت على إعدادها واجتاز بها الاختبارات الثلاثة.
التاريخ يعيد نفسه
إن ما قام به القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي يوم أن حرر القدس وغيرها من الإمارات الإسلامية لم يكن ليتحقق إلا بفضل من الله ثم بجهود دعوية عظيمة هيأت لصلاح الدين أن يكمل السير وينال شرف النصر، وإلا فالحقيقة لقد كان لنور الدين بن زنكي رحمه الله وجزاه الله عنا كل خير، آن يشاطره هذا النصر المبين لولا أن المنية قد عاجلته، فهو الذي عمل على إصلاح الناس والأمر بالمعروف بينهم والنهي عن المنكر وملاحقة الفاحشة في دور الخنا أوكار الفجور وشرب الخمر الذي خيم على كثير من الناس، مع إعادة إحياء العقيدة في نفوس الأمة ومحاربة الفرق الضالة.
ولنا نحن معشر الدعاة عبرة في هؤلاء، وخاصة الداعية الذي يظن أن جهده وذكاءه وعلمه يسع عموم الدعوة هو غشوم ظلوم لنفسه ودعوته، وإن ما بناه من دعوة اعتمدت على شخصه سرعان ما ينتهي كيانها بانتهاء وجوده بينها والأمثلة المعاصرة كثيرة.
تمكين أهل الحق
قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}(البقرة).
إن التمكين للمؤمنين في الأرض ثمرة ما عندهم من صبر ويقين، إنها منحة من رب العالمين بعد المحنة، إن الأمة التي صبرت مع طالوت كافأها الله بداود عليه السلام، لتتلذذ بأروع أنواع التمكين عرفته البشرية، إنه الملك والحكمة.
قال تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} مات الملك طالوت، فمالت قلوب بني إسرائيل إلى داود عليه السلام فاجتمعوا عليه، فكانت منحة الملك من الله.
قال تعالى: {والْحِكْمَة} المراد بها النبوة ولم يكن قبل ذلك نبيا ما كان في جيش طالوت، انه أول من استحق الملك والنبوة فيمن قبله لأن النبوة كانت في بني إسرائيل في سبط، والملك في سبط آخر.
قال تعالى: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} لقد خصه سبحانه وتعالى بعلم ومهارات لم يخص بها غيره من نبي أو بشر، علمه منطق الطير، وصنعة اللبوس، وكلام الدواب.
سنن الله الكونية والشرعية في جهاد طالوت
- لا تشترط الكثرة لغلبة أهل الكفر ما دامت الفئة بآمر الله عاملة وعلى سنة نبيه سائرة ويقينها بربها لا حدود له، وأعدت كل ما عندها من عدة؛ فأغلب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، كان فيها جيش الإيمان أقل عددا من جيش الكفر والطغيان، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة:249).
أن الذين يثبطوننا بدعوى أن عدد وعدة يهود وأعوانهم هي أكثر وأكبر إنما يزعون فينا اليأس، وهذه مبررات الجبناء الذين انقطع حبلهم مع الله على الدوام، إن المشكلة ليست عددهم ولا عدتهم إن المشكلة في إيماننا ومدى علاقتنا مع الله سبحانه وتعالى.
طالوت نقى التبر واستخرج المعدن الخالص الذي خاض به المعركة الحاسمة، من أين خرج داود عليه السلام فجأة؟! قال تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} من غير موعد ولا ذكر سابق! إنه أحد أفراد الفئة المؤمنة، نعم كما تكونوا يول عليكم، عدد قوم طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر من خلص المؤمنين، حقا إن الفئة المؤمنة كلها معدن خالص، وكلها جرس مسمع من أي الجهات طرقته سمعت له صوتا، فقد يخرج الفاضل من أثر المفضول، فهذا نبي خرج من جيش ملك، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب مبلغ أوعى من سامع.
مبهمات القصة فيها العظة والعبرة
للدعاة والقادة والمربين:
ومن عجيب أسرار كتاب الله العظيم نلاحظ المبهمات الكثيرة في هذه القصة التي لم يتعرض لها القرآن، لأنه لا فائدة من ذكرها، وبهذا جاءت الفائدة ليعتبر أهل النظر والاستدلال من الدعاة ومن كان مثلهم ممن له شأن في بناء الأمة.
فلم يعرف الزمان والمكان المحدد الذي وقعت فيه القصة، فكل ما يستنبط إن كل ذلك كان بعد استيطانهم أرض فلسطين من غير تفصيلات زمانية أخرى.
ولم يعرف اسم النبي بالتحديد الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا، ولا أصل طالوت ونسبه، ولا حيثيات حياته وخروجه بينهم ومولده ثم وفاته ومكان وفاته، وكذلك التابوت وقصته وتاريخه عندهم ومقاساته، وتفصيلات السكينة والبقية التي فيه، والتي تركها آل موسى وآل هارون وغير ذلك من المبهمات، وأين ولد نبي الله داود عليه السلام وكيف نشا بين صفوف جند طالوت.
ونستفيد من ذلك كله:
إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن العبرة
بالمقاصد لا بغيرها والنظر إنما يكون في المألات.
إن على الداعية أن يتجاوز في تفكيره أو حديثه قضايا الترف الفكري أو القضايا التي لا طائل في الحديث عنها وتعد من سفاسف الأمور، وان الحديث النافع هو ما يغير واقعا وليس الكلام المتنطع المتفيهق المتشدق.
إن بعض المفسرين أو الواعظين والمربين هداهم الله - ملأوا كتبهم ومحاضراتهم بالإسرائيليات والموضوعات، وتغافلوا عن صلب مراد الله في سرد هذه الأحداث.
إن سنة الله في خلقه تنفذ بمقتضى تغيير الناس ما ف أنفسهم، فقد أخبر الله تعالى في مطلع آيات هذه القصة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ} إنه جيل التغيير الذي قاد انتفاضة الإيمان، إنه الجيل الذي طالب بالتغيير وعمل على ذلك.
وهذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}(الرعد: ١١).
وفي سلب ملك الظالمين، وإيراث الأرض للصالحين قال تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(الأعراف:128)، فقد كان موسى عليه السلام يناديهم باللجوء إلى الله والصبر ويعدهم بالأرض المقدسة وهم بين الفراعنة ، لكنهم قوم لا يعقلون.
كلمات الإيمان والصبـر واليقيـن عنوان المؤمنين
قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}( البقرة: 249)، وقال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(البقرة:250)، :{وَلَمَّا بَرَزُوا}: انه الابتلاء الرابع الذي لم يسقط به أحد ، فقد أصبحوا فئة قليلة فانكشف عنهم، ومنهم جل الأتباع، وكل ما يحميهم ويسندهم؛ فقد برزوا في صعيد واسع لا ملجا فيه ولا مخبأ فانكشف عنهم الطريق والصديق بعد أن خذلهم من كان معهم وتساقط من تساقط منهم على طول الطريق، إنه بريق المعركة والمواجهة التي لا مفر منها، إنها مزلزلة القلوب. هم صفوة الصفوة من بني إسرائيل التي تصدرت مواجهة جالوت وجنوده، واجتازت بنجاح كامل راحل الابتلاءات كلها.
إن التوجه إلى الله بالدعاء حال مواجهة أعداء الله في الحرب هو من أولى المواطن وأحراها، وهو آية الإيمان بالله والتصديق بلقائه، وهو علامة الموصولين بالله، إن الدعاء عبادة في ذاته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدعاء هو العبادة ثم قرا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60): صحيح سنن ابن ماجه للألباني.
إن كلمات النفس الموصولة بالله مليئة باليقين وجميل التوكل على الله من غير جزع ولا هلع ولا تردد، تثلج الصدر و تبعث على التفاؤل والأمل، الذي يثمر أفعالا ترضي المولى عز وجل، فكانت ثمرة إيمانهم عملا يرضاه الرب وهم القليل الذي لم يشرب وقوفا عند حد الله، فال تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، ما أجمل أن نصل بأنفسنا ومتبوعينا إلى هذا المستوى الراقي من التربية؛ فئة موصولة بالله تحسب بحساب الله لا بحساب البشر؛ فحسابات الله تختلف كليا عن حساب البشر، وهناك لفتة في ترتيب فقرات الدعاء الثلاث: أولا: الصبر ثم تثبيت الأقدام ثم النصر، وهذا دليل على فقه وعلم هذه الفئة المؤمنة .
- الصراع بين الحق والباطل وتدافع الناس من أجل البقاء سنة الله الجارية في خلقة منذ أن خلق الأرض وما عليها وإلى قيام الساعة وعلى الأرض المقدسة تحديدا، إن العارف بسنن الله الجارية لا يمكن أن يصطدم بها أو يعارضها بقول أو عمل فهو عارف بمآل الأمور، فهو يسير نحو التغيير للتمكين وفق قواعد الله وسننه الكونية قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(فاطر:43).
- من سنن الله في النصر والتمكين سنة التدرج والمرحلية في تربية الأفراد والجماهير، إنه بذلك يخفف الصدمة ويخفف عن محبيه وعلى متبوعيه الفتنة، ويمتص ردود الأفعال من ناقميه، ويقطع الطريق على المغرضين والمنافقين، والذي يوفق لذلك يتأتى له الوصول إلى مراده دون أن يخرج عن سنن الله وأحكامه الشرعية.
- ومن العبر التي ينبغي على الدعاة والقادة والمربين أن يعوها، المطالب الخداعة، وقد ذكر الله طرفا من هذه المطالب فقال سبحانه وتعالى عنهم: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
إن كثيرا من المدعوين يكثرون من الاقتراحات والمطالب الدعوية التي تظهر حرصهم على الدعوة لحمايتها وتطويرها، وكثير من المتبعوين يحسنون فن التنظير وكأنهم لاعب أساس في تسيير أحداث الدعوة وهم في حقيقة أمرهم لم يفارقوا وسادة دارهم!!
إن القائد والمربي الحاذق هو الذي لا يغتر ولا ينخدع بحماسة جماهيره أو كثرة تنظيرهم، قبل أن يضعها على محك الاختبار وقبل الولوج بها في المعارك الحاسمة، فهذا نبيهم يتفرس في قومه سائلا لهم - وهو فيما يبدو - يعلم ما ستؤول إليه حالهم بعد خوضهم المعركة، قال سبحانه وتعالى على لسانه: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} فأجابه عديمي الخبرة، والمخلصين المتحمسين منهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}.
إن الكثرة لم تدغدغ مشاعر طالوت ولم تدعوه إلى الفرح المفرط بها، فالعبرة في النوع لافي الكم عنده ومع هذا فكثرتهم لم تشفع له الركون لها بل تركها وراءه ولم يعد لها ذكرا عنده. إن الاختبارات الثلاثة التي تعرضت لها بنو إسرائيل كشفت لطالوت عن الفئة الحقيقية التي ينبغي له أن يخوض بها غمار حرب ضروس.
كما أن الجنود المخلصين الأشداء سبب رئيس ف كسب جولات الحرب وعامل أساس من عوامل الفوز.
إن على القائد أو المربي أو الداعية أن يرسم في ذهنه خريطة أصناف من حوله، في معرفة درجات طاعتهم لربهم وولائهم لمشروعهم وقائدهم وحقيقة معدنهم عند الحاجة إليهم، إن الذي يفقد رموز خريطته ومفاتيحها، سينظر إليها بلون واحد، نعم وبلا شك أنه يفقد مع ذلك الفراسة التي تؤهله للنظر للأمور بشمولية، إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يوحى إليه لكن القرآن نزل عدة مرات بآراء أصاب بها مراد الشارع قبل أن يشرع وتفرس بأناس بأن وجوههم وجوه فتنة، كانوا يوم الفتنة مع الخوارج.
إن ما سلكه طالوت من برنامج تدريبي أو مناورة عسكرية قبل الخوض في المعركة الحقيقية لمعرفة قدرات أتباعه الايمانية لهو الأسلوب الذي لا مفر منه لأي قائد وفي أي زمان ومن ذلك:
- تيقظه لحماسة جنده المفرطة.
- تكرار التجارب وتنوعها للوصول إلى الصفوة.
- خبرته بالنفوس.
- عزله للفئة المريضة من جنده وتركهم خلفه، حتى لا يشكلوا عبئا عليه، وعلى إدارته فضلا عن تأثيرهم السلبي على باقي جنده.
فقد أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن نبي من بني إسرائيل قصد الغزو، فأراد أن يجرد قلوب جنده من أي صارف يصرفهم عن الجهاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني منكم رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينظر ولادها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا؛ فحبست، حتى فتح الله عليه. فجمع الغنائم، فجاءت النار لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده. فقال: فيكم الغلول. فلتبايعني قبيلتك. فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده. فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت لنار فأكلتها، ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فاحلها لنا). صحيح الجامع للألباني ٤١٥٣.
ومهما تحلى الجنود بالأخلاق، فهذا لا يعفي القيادة هي الأخرى أن تكون قد اتصفت بصفات وتحلت بأخلاق قيادية لتكتمل بها حلقة أسباب النصر.
لقد أثبت طالوت أنه يستحق الملك بجدارة فقد تماسك أمام تضاؤل ونقصان عدد جنده من خلال تجربة بعد أخرى، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة التي خاض بها المعركة.
لكل زمان دولة ورجال وان للنصر أهلون، وإن لهم موعدا، وإن داود عليه السلام خرج من وسط الجيش المجاهد، فمن ميدان المعركة بدا أمره، وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة والمسؤولية، وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة، والميدان س هو الذي يكشف عن المعادن والمواهب؛ فالقائدان طالوت وداود عليه السلام ظهرا من وسط الناس، وقدمهما الميدان والعمل والواقع ولم يفرضا فرضا على الناس، فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون الأمة إلى طريق النصر والتمكين؛ وهذا هو الميدان الذي يسفر عن معادن الرجال.
- الإمام جنة: لقد أدرك عقلاء بني إسرائيل أهمية ومكانة القائد فانه جنة، ووجوده شرط في جهاد الطلب، وبه الكمال والتمام في جهاد الدفع، فعن أبي أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الإمام جنة يقاتل من وراءه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه) وفي رواية أخرى: (فإن آمر بغيره فإن عليه وزرا) أخرجه البخاري ومسلم.
- ومن سنن الله الكونية لتحقيق النصر والتمكين: الجمع بين الأسباب المعنوية والمادية من غير أن تنفك واحدة عن الأخرى التي لا ينبغي للقيادة أن تغفل عنها بحال من الأحوال، نتلمسها من غير عناء في أحداث هذه القصة، أجملها سبحانه وتعالى بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}(الأنفال: 60).
والأسباب المعنوية: مثل وجود القيادة الصالحة والذكية الفطنة، والدعاء، والبرامج التدريبية لصقل المواهب والقدرات، وصدق الانتماء، والصبر، والتناغم والتكامل بين القيادة الشرعية والسياسية، والعلم الشرعي.
أما الأسباب المادية: فهي قوة الجسم، وإعداد العدة والتدريب على الحرب وبناء القوة العسكرية وغيرها.
- إن للتمكين مراحل لا ينبغي للقادة والمربين والدعاة أن يغفلوا عن خطواتها، وأن يعوا عند أي مرحلة يجب أن يقفوا، إن غياب هذا المفهوم يخلط الأوراق فتضطرب الأولويات ثم تضيع الجهود.
إن مراحل التمكين لدين الله متوالية لا ينبغي تجاوز مرحلة عن الأخرى وهي سنة كونية لا مفر منها؛ تبدأ بالتعريف بالدعوة، ثم مرحلة الاعداد بالتربية وترسيخ العقيدة، ثم مرحلة المغالبة، وأخيرا مرحلة الظفر والنصر.
لماذا كل هذه الابتلاءات؟!
- لأنها من سنة الله أن يبتلي الله خلقه، قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(العنكبوت: 1-2).
فتدافع الناس والصراع بين الحق والباطل موصول إلى قيام الساعة حتى يقتل عيسى عليه السلام عنوان الحق رمز الباطل المسيح الدجال عند باب لد في فلسطين. وقد تتعدد أنواع الابتلاءات وتتدرج حتى تسفر عن حال المبتلى.
ما أشبه ليلتنا ببارحة بني إسرائيل
إن الذين قالوا لطالوت عنوان الحق {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}(البقرة: 249)، وأصابهم الخوف من مواجهة الباطل، مثلهم كمثل بعض قومنا الذين قالوا مثل قولهم، تشابهت أقوالهم ونرجو أن لا تتشابه قلوبهم، قالوا لا طاقة لنا بجيش اليهود الذي لا يقهر وتراسنته التي لا تدفع وشكيمته التي لا تغلب!! ينادون بالسلام دون ضابط ولا رابط ولا حتى المطالبة بحق ممكن أن يؤخذ.
إن فريقا الصراع بالأمس هم فريقا الصراع اليوم وعلى الأرض ذاتها، فالمسلمون في فلسطين اليوم يمثلون الفريق الإسلامي يقاتلون نيابة عن المسلمين في العالم، ويمثلون ما عند الأمة من درجة الإيمان بربهم، بهم يعرف ما عند الأمة من إيمان وصلاح وقرب من الله سبحانه وتعالى، وهذا مصداق قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم...) السلسلة الصحيحة للألباني 403.
إن التغني ببركة الأرض المقدسة دون حصولنا على مقومات البركة في ذاتنا وهو التمسك بأمر الله وسنة نبيه، لهو تغن مخادع، ودعوى كاذبة، فذاك أبو الدرداء رضي الله عنه لما دعا سلمان الفارسي رضي الله عنه للحاق به إلى الأرض المباركة قال له: إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا فإنما يقدس الإنسان عمله.
- إن بني إسرائيل لما تساووا في المعصية بينهم وبين عدوهم سلط الله عليهم عدوا أشد شكيمة وبأسا منهم {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(الأنعام: 129)٠ وإننا نحن كذلك إذا تساوينا بالمعصية مع أعدائنا، وكلنا الله إلى أنفسنا فسلط علينا عدوا لا يرحمنا!!
إن قوة الكافرين على الأرض المباركة لهي معيار يشير كذلك إلى قوتهم على سائر المسلمين في سائر الأصقاع والميادين، وإنه إذا ما اندحرت قوتهم عن الأرض المقدسة فإن ذلك دليل على رفع سلطانهم عن كثير من بلاد المسلمين.
وبالأمس ابتليت الفئة المسلمة والتي تمثلت ببني إسرائيل بالفئة الكافرة التي تمثلت بالجبارين واليوم وبعد أن انقلب حال بنو إسرائيل وكفروا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن به أهل فلسطين سلط الله اليهود عليهم.
إن المرحلة التي نعيشها في صراعنا مع يهود هي مرحلة المناواشات التي سبقت وجود الملك في عهد بني إسرائيل لذلك لا زال يلهج خطباؤنا بالدعاء أن يهيا الله لنا ملكا كالناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
كما أنه استحق الملك حقيقة لما استرد المسجد الأقصى من الصليبيين، وأن طالوت استقر له الملك لما استرد التابوت إلى بني إسرائيل.
إن العودة إلى الدين والتمسك به هو السبيل إلى النجاة ودفع ظلم الأعداء، به العز والسؤدد، إن عقودا من الزمن تاه فيها بنو إسرائيل في صحراء سيناء لا يهتدون سبيلا، وعقودا مثلها وزادت عنها تشتت الفلسطينيون خلالها في سائر الأرض يلتمسون عيشا يؤمنون به على أنفسهم، ولقد حرر طالوت أنفس بني إسرائيل من شهواتهم فاستطاع بعد ذلك تحرير البلاد من الكافرين، وإن الغارقين في المعاصي من قومنا لم ولن يستطيعوا تحرير شبر من أرض المسلمين ما داموا على المعاصي عاكفين.
- إن مطلب بني إسرائيل بالأمس لإنقاذهم من جور الظالمين المعتدين عليهم، واليوم هو ذاته مطلب الشعب الفلسطيني بأن يجمعهم تحت راية قائد عادل يقيم فيهم جهادا شرعيا لا لبس فيه يسترد به حقوقهم ويدفع عنهم شرور أعدائهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
لماذا هذه القصة؟
بأسلوب التعجب والتشويق بدا الله هذه القصة بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ} أي ألم يصلك قصة قوم من بني إسرائيل؟! لأن فيها العبرة والعظة: قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(يوسف:١١١).
بها ختم الله سورة يوسف عليه السلام، وإن قرابة ثلث القران إخبار من الله سبحانه وتعالى عن سير الماضين، إنها ليست للتسلية وملا الفراغ، بل هي للعبرة وإن التاريخ يعيد نفسه!!
إنها من أقرب القصص القرآني لواقعنا المأساوي هذا الزمان في فلسطين، وإن بني إسرائيل حال كونهم الفئة المسلمة ثم فرطوا بأمر الله، تسلطت عليهم الشعوب وشردتهم سلبت مالهم وسبت نساءهم واستولت على تابوتهم الذي كان بمثابة الأثر المقدس بين أيديهم، إنه هو ذاته ما يقع على الشعب الفلسطيني من قتل وتشريد وذل بين كثير من شعوب الأرض واستيلاء على ما أودعه الله بينهم وهو المسجد الأقصى وقد استولى عليه اليهود واستباحوا قداسته، فضلا عن كون بني إسرائيل من أقرب الأمم إلى أمة الإسلام لذا أكثر الله من ذكرهم لنا عن غيرهم.
إن هذه القصة تحكي فترة من فترات بني إسرائيل، لما دخلوا الأرض المقدسة وانحرفوا عن منهج الله، سلط سبحانه وتعالى عليهم من يضطهدهم ويسومهم سوء العذاب إنها مفارقة عجيبة تحتاج منا إلى تأمل ووقفات نأخذ منها الدروس والعبر، إن قومنا دخلوا الأرض المقدسة بعد اتفاق أوسلو فظنوه نصرا من الله ، فزاد فجور بعض من دخل فسلط الله عليهم مزيدا من طغيان اليهود؛ فزادت الإبادات والمجازر الجماعية ثم جاء الجدار اليهودي ليخنق الشعب الفلسطيني بأسره بذنب هؤلاء وأزلامهم ثم حصار غزة وما جره على الشعب الفلسطيني من الويلات تلو الويلات.
- إن هذا الجيل من بني إسرائيل الذي يقص الله سبحانه وتعالى حالهم لم يذكر أو ينقل عنهم الكفر أو عبادة الأصنام، وإن بينهم وبين من عبد العجل أجيالا، لكن تلخصت معصية هذا الجيل وهذه الأمة المسلمة من بني إسرائيل في عدم طاعة ربهم، التي كانت سببا في تساقط أغلب هذه الأمة، إن أمتنا أمة مسلمة لكنها لم تستحق نصر الله؛ لأن كثيرا منهم لا يقيم أمر الله سبحانه وتعالى، ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أمر أولي الأمر من العلماء الربانيين، فكيف لها أن تنال الظفر على الأعداء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(النساء:٥٩)؛ إننا ندعوهم وندعو أنفسنا لنقدسها بالأعمال الصالحة التي ترضي الرب سبحانه وتعالى.
إن عبر هذه القصة شملت شريحة واسعة من الناس، فهي إلى القادة والفصائل المحاربة التي تواجه اليهود ليتعلموا من مدرسة طالوت وداود عليه السلام إلى الشعوب المسلمة بعامة والشعب الفلسطيني بخاصة لأنه رأس حربة في هذا الصراع وليسلكوا السبل الناجحة في التربية لتأتي أكلها بعد حين بإذن ربها.
خاتمة:
إلى الذين يطمحون تحقيق الغلبة للدين، لا بد وأن يتحلوا بالصفات التي تؤهلهم لهذا المنصب وإلا فلا يزاحموا أهله، فرسوخ الدين ورباطة الجأش والحكمة في الأقوال والأفعال، والحد الأدنى من العلم، هي صفات لا تنازل عنها.
ولا يتحقق لهم التمكين إلا بعد الابتلاء، ولن يولد جيل الريادة والتمكين إلا من رحم الأمة التي تجاوزت مراحل الابتلاء والاختبار، فعلى هذا لنتنبه ولا نتعجل النصر.
إن ما يصيب أهلنا في فلسطين وغيرها هي مرحلة المغالبة التي جمعت في باطنها مرحلة التعريف والإعداد، وهي مرحلة تتطلب منهم الصبر ليتحقق لهم التمكين بإذن الله متمثلين قول تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران:٢٠٠).
والحمد لله رب العالمين،،،
مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد السادس
.