أنشطة المركز / للمركز كلمة
حماس ... ومعضلة الانفلات الأمني.
حماس ... ومعضلة الانفلات الأمني
رسالة إلى عقلاء "حماس"
لعل أهم المشكلات التي لا زالت تشكل أزمة حقيقية في قطاع غزة مشكلة الانفلات الأمني والذي استفاد منها الكثيرون ممن لا يريدون بقاء "حماس" على رأس السلطة، وقد نجح هؤلاء في كثير من الأحيان إلى جر "حماس" إلى دائرة هذا الانفلات بدعاوي الحفاظ على الأمن مما سبب الكثير من الانتهاكات والمس بحقوق الآخرين وأملاكهم.
ولعل وجود العناصر الغير منضبطة أخلاقياً - والتي لا ترى إلا في الانتماء الحزبي هو الحَكم للحُكم على أي فعل ما- جر إلى كثير من الأحداث والاعتداءات التي تدفع الحركة جزءاً من شعبيتها والتفاف الناس حولها ثمناً لذلك، ويستفيد منها كل من يريد الصيد بالماء العكر.
نقول ذلك بعد التقارير العديدة التي أوردتها منظمات ومؤسسات لحقوق الإنسان حول عدة أحداث تم تسجيلها بهذا الشأن كان ورائها عناصر من "حماس" أو أفراد "الداخلية"، وكذلك الصدامات العديدة التي سجلت من قبل مراقبين محايدين أكثر من مرة مما يقع مع مختلف التوجهات والمؤسسات في القطاع والتي تختلف مع "حماس" في الطرح والفكر منها إسلامية وغير إسلامية.
وكان من آخر تلك الاعتداءات ما حدث على يد أفراد من قوى الداخلية مدعومة بعناصر من كتائب القسام في الاعتداء والاقتحام والمصادرة لمركز الإمام الألباني "رحمه الله" في جباليا والتابع لجمعية الكتاب والسنة في القطاع والمرخصة رسمياً، والتي تمتلك فروعاً عدة لها في القطاع وتقوم بدور مهم في التربية والتعليم والدعوة والإغاثة، فعاثوا فيه فساداً، واعتدوا على القائمين على المركز والأهالي المتواجدين في مسجده ومكتبته، بدعاوى واهية وأسباب لا يقنع بها عاقل، تثبت انجرار عناصر الحركة في مثل هذا الفلتان بذرائع كانت تنادي بها في السابق (كالرأي والرأي الآخر، وتعدد الرؤى واختلاف الآراء...الخ) وأصبحت اليوم هي الأداة القامعة لها!!
ونستطيع القول أنه لولا التصرف الحكيم المتزن للقيادات السلفية في الداخل والخارج لكان الأمر اتسع نطاقه وتسبب في أزمة كبيرة يصعب معالجتها فيما بعد، ولقد رأينا كيف انطلقت أبواق العلمانية وأتباع اليهود من المرتزقة وأصحاب الأهواء لكي تنفخ في الفتنة من أجل تأجيجها وإشعالها ليصلى بلظاها – في نهاية الأمر – أهل الدين والصلاح!! وظنوا أنهم يحسنون صنعاً، ولكن هيهات...
لقد كان من الأخوة السلفيين –في الداخل والخارج- أن أخذوا بزمام المبادرة وقرروا احتوائها –على الرغم من الظلم الكبير الذي وقع على إخوانهم في جباليا- لأنهم ينظرون للأمر بأكبر من النظرة الحزبية الضيقة، ويعلمون أن أمر الدين وحفظ حوزته من أهم المهمات، وأن قاعدة الأخوة في الدين تلزمهم أن يتواصلوا مع إخوانهم ليؤدوا الواجب في النصيحة والإعذار إلى الله تعالى ويسلكوا المسالك المعتبرة شرعاً حتى تموت الفتنة في مهدها.
والحمدلله أن تجاوبت القيادة السياسية في القطاع بعد أن ضغطت قيادة الحركة من الخارج لكي يعود الحق إلى نصابه ويعود الأمر إلى سابق عهده، وهذا من فضل الله ورحمته.
ولكن لنا هنا وقفات مع إخواننا في "حماس" حتى لا يتكرر هذا المشهد ويعود، ولنكون على بينة من أمرنا من الشراك التي تنصب لنا بين الحين والآخر، وتجرنا إلى معارك جانبية تشغلنا عن عدونا الحقيقي المتربص بنا.
أولاً: إن أكبر ما نتمناه من عقلاء "حماس" أن يخرجوا من ثوب الحزبية المقيتة إلى عباءة الإسلام الواسعة التي تضم الجميع وتحتوي الكل وخصوصاً المخلصين وأهل الصلاح والذين يريدون خدمة بلدهم بصدق من كل التوجهات، ويفتحوا لهم الأبواب ليعملوا بكل طاقاتهم، لأن الأمر بعد تسلم السلطة لم يعد منوطاً بالحركة وأطرها الحزبية، بل أصبح الأمر مظلة عريضة لابد لها أن تضم الجميع وتستفيد من الكل، وتترك ورائها كل ما من شأنه أن يؤثر على عملها والتزاماتها تجاه الوطن والشعب. قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون" آل عمران: ١٠٣
ويجب أن تعلم أن امتدادها الحزبي في الخارج هو داعم لها وليس موجه وحاكم! وإن من تمام العدل أن يكون ميزان الشرع مقدم على أية اعتبارات أخرى. قال تعالى: "منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون" الروم: ٣١ – ٣٢، وقوله تعالى: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، فتقطعوا أمرهم بينهم زمرا كل حزب بما لديهم فرحون" المؤمنون: ٥٢ – ٥٣.
ثانياً: إن وصول "حماس" للسلطة كتجربة إسلامية أصبح ينظر إليه من قبل أعداء الإسلام أنه الفرصة السانحة لضرب الإسلام، ولذلك كان العمل على ضرب هذه التجربة وإفشالها ليتمكنوا فيما بعد من إفشال للمشروع الإسلامي ككل، ولذا أصبحت "حماس" لا تمثل نفسها في هذا الموقع بقدر ما تمثل عظم الأمانة الملقاة على عاتقها بحفظ اسم الإسلام وصيانة حدوده.
وكما أن الآخرين مطالبين بأن يعملوا مع "حماس" من أجل إقامة الدين والعدل وتقويمها ومناصحتها ويقدموا لها يد العون بما يحقق هذه الغاية، تحقيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه أحمد ومسلم وغيرهم عن تميم الداري/صحيح الجامع برقم 1610، فإن "حماس" مطالبة كذلك أن تعمل جاهدة على تقريب الجميع حولها وفتح المجال لهم والاستفادة من جهودهم وخبراتهم والاستماع لهم، وقبول النقد البنّاء الصالح، وأن تجعل مصلحة الدين ثم الدولة أعلى من أي اعتبارات حزبية أو حركية.
ولعله من المناسب "لحماس" أن تسعى جاهدة لتشكيل مجالس استشارية في كل مراكز الدولة يكون أهل العلم والفضل نواتها وتجمع أهل الاختصاص والإدارة من كل الأطياف ليكونوا مشاركين حقيقيين في توجيه دفة السفينة نحو بر الأمان برؤية فلسطينية جماعية مخلصة. لقوله تعالى: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" الشورى: ٣٨
ثالثاً: إن أخذ الناس بحسن الظن، وتأويل أفعالهم وانطلاقاتهم نحو الخير، وخصوصاً ممن ثبتت قدمه على الأرض نصرة لأهله ووطنه هو الواجب القسط والاعتبار المقدم، فإن كنا نعيب على الآخرين الأخذ بالتهمة! والتجني والاعتداء بمجرد الظن! فيجب أن لا ننزلق لمثل هذا الأمر أبداً.. قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" الآية/ الحجرات: ١٢ ، ولا شك أن لكل جهة أو تجمع مرجعيتها أو قائمين عليها أو مجالس تديرها وهؤلاء هم من يملك زمام الأمور ويوجهون أتباعهم، فوجب الرجوع لهم والتواصل معهم في كل ما يريب، والحوار معهم ومناقشتهم لكي تستقيم الأمور وتنضبط.
أما المبادرة إلى تكميم الأفواه والمصادرة والاعتداء والتهجم والضرب هكذا بمجرد الظن، أو تجمع بعض الأدلة من هنا وهناك لا تستقيم في الميزان، أو لمجرد المخالفة، أو تبنّي وجهات نظر واجتهادات يسوغ فيها النظر والاستدلال فماذا تركنا لعدونا والمتربصين بنا؟! بل ما الفرق بيننا وبين غيرنا ممن عاثوا في الأرض فساداً ردحاً من الزمن وجئنا نحن لنكون التغيير والبديل الذي تتطلع له أعناق المصلحين والمخلصين!!
آن الأوان أن نعيد حساباتنا جيداً، فإن الثوب مهلهل مرقع ولا يحتمل منا أي اجتهاد خاطئ يساهم في زيادة تفسخه وتمزقه، فهل نكون على قدر المسئولية. فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" متفق عليه.
رابعاً: إن الثقل السلفي في القطاع ليس وليد لحظة، ولا ظهور طارئ هناك، فإن قدمه ممتدة عبر عقود من الزمان، وهو الصخرة الصلداء التي تكسرت عنده كل محاولات التغريب في القطاع، وساهم بشكل كبير في بقاء جذوة العقيدة حية نابضة بين الناس، وامتدادها العالمي مازال هو الحصن الحصين للأمة من الانحراف أو التمييع.
وحركة "حماس" إن أرادت أن تتجاهل هذا الثقل أو تتصادم معه فستجد نفسها في النهاية فريسة الأعداء، وتحرث في الماء، ولا بد لها أن تستفيد من هذا التأصيل السلفي في بناء قواعدها، وإعطاء كل سياساتها الصبغة الشرعية المعتبرة، وهذا لا يكون أبداً بدون هذه الدعوة المباركة، أو بعيداً عنها أو اتخاذها خصماً.
ولا شك أن كل من تصدر أمر الناس وساسهم سيتعرض للنقد، ولا بد له من الخطأ والزلل، ولذا لا بد له أن يتسع صدره لكل ذلك ويحسن التعامل مع الجميع، وليكون منهج النبي صلى الله عليه وسلم في السياسة الشرعية منهجه وطريقه، حتى لا يضطر إلى سلوك مسالك أهل الهوى أو التمييع، ولا شك هنا أن صمام الأمان في مثل ذلك هو العلم والعلماء، فهل تستفيد "حماس" من الدعوة السلفية القائمة على التأصيل العلمي والمنهج النبوي في التربية لتجعلها الركن الركين الذي تقوم عليه وتنطلق منه؟!
خامساً: لا شك أن "حماس" الآن في موقع المسئولية والسلطة وأن عليها تبعات والتزامات أكثر من غيرها وأكبر، ولذا كان المطلوب من الجميع القيام بواجب النصيحة نحوها بالطرق الشرعية المعتبرة، ويجب عليهم التواصل معها بكل الطرق الممكنة فيما يرونه خطئاً أو انحرافاً، وإن على الجميع حقاً أن يحافظوا على السفينة التي تحملنا من الغرق، وليعلم الجميع أن كل واحد يكمل الآخر إن أرادوا لهذا الدين أن يسود ويكون الحَكَم في واقعنا.
وإنه مهما بلغ الأمر فلا بد أن تكون أفعال الجميع وأقوالهم منضبطة بضابط الشرع، ولا نترك المجال للشاذين أو ممن لا خلاق لهم أن يكونوا سبباً في فتنة كبيرة تأكل الأخضر واليابس، ولا بد لكل جهة أن تضبط أفرادها وتحسن توجيههم وتأخذ بيد كل من يطيش بفهمه أو اجتهاداته حتى لا يتسبب فيما هو أكبر.
كما أن الابتعاد عن الريبة ومواطنها مطلب مهم لابد من تجليته إن وقع أولاً بأول حتى لا نقع في موقع الشبهة ويساء بنا الظن، وتحقيق الأخوة الإيمانية على حقيقتها تخفف الكثير من الاحتقان والتوتر وتبني جسور الثقة وتقوي البناء.
وأخيراً: إن على "حماس" أن تعي الأمور أكثر وتكون صمام أمان للناس في القطاع، ولا تكون سبباً في الإساءة للدين بأي حال من الأحوال، وليتذكروا أن الغاية مما يسعون إليه لا يكون إلا بتحقيق العبودية لله وإقامة أمر الدين، وهو ما جعل الناس تثق بهم وتلتف حولهم وتدفع بهم نحو السلطة والحكم، فلا يكونوا هم السبب بعد ذلك في فتنة الناس!! قال تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة" البينة:٥.
مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية
1/6/2008م