فلسطين التاريخ / تاريخ
من روائع أوقاف المسلمين ( 1/10 )
من روائع أوقاف المسلمين
( 1/10 )
عيسى القدومي
الحديث عن الوقف في الإسلام وامتثال الصحابة رضوان الله عليهم وصية النبي في إتباع سنة الوقف "وهو أن يحبس الأصول من بساتين ودور وآبار" ليصرف من ريعها على أبواب الخير ، حديثٌ عظيم ، فقد ساهمت تلك الأوقاف في تمكين الاقتصاد الإسلامي وتنمية الموارد لتفي بحاجات الدول وأهلها .
الجوانب الإنسانية في أوقافنا بلغت الآفاق وأثبتت أن الأمة الإسلامية أمة حية ، أمة تجديد لا أمة تبديد ، وأمة ابتكار لا أمة تكرار ، وأمة إبداع لا أمة ابتداع ؛ جوانب الرائعة تأخذ الألباب من دقتها واهتماماتها بأمثلتها الرائعة ؛ تفردت بنتاجها الحضاري عن سائر الأمم .
أوقاف عديدة حلت مشكلة الفقر ، وساهمت في حل المشاكل الاجتماعية والصحية والنفسية والعلمية والبيئية والإنمائية رحمة بالناس وتخفيف معاناتهم ؛ وحفظت كرامة الناس في الحياة ، أما بعد الممات فأوقفت المقابر ، وخصصت الأوقاف التي تصرف على أكفان الموتى وسد ديون من مات ومعلق في رقبته دين ؛ وأوقاف أوقفت لتكون استراحة للمسافرين ومأوى وإطعام ؛ وآبار حفرت لأهل البادية وعابري السبيل لسقي ركوبهم وماشيتهم ، يقصد منها التقرب إلى الله تعالى ، وكسب الأجر في الحياة وبعد الممات .
بل وأوقاف فاقت حاجة الإنسان لتقف لتلبي حاجة الحيوان ، بل والبيئة أيضاً ، وكل مناحي الحياة ؛ فهذا وقف لإطعام الطيور ، وذلك لرعاية الخيول التي هرمت بعد أن قدمت خدماتها الجليلة في الجهاد والفتوح ، وأخرى لعلاج الحيوانات المريضة ، وتلك لشق طرق الحجيج إلى بيت الله الحرام ، وآخر لحفر الآبار وسقي الماء .
ولم تعرف البشرية نظاماً اقتصادي كما لنظام الوقف في الإسلام من أحكام وإتقان ، فسنة الوقف هي نظام إسلامي شُرع بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، يجب إحياءها لتحي الأمة ويعود لها عزها واستقلالها ومكانتها لتأخذ بأسباب القوة فالأوقاف من أهم الموارد الاقتصادية للدولة الإسلامية، قال الله تعالى: }لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون{ ؛ وقال رسول الله r: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وقد بلغ من حرص الصحابة انه لم يبق أحد منهم وهو يستطيع أن يوقف إلا وقف، قال القرطبي: أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة ؛ وذكر صاحب المغني، أن جابراً قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي r ذو مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك ولم ينكره احد، فكان إجماعاً. وكان r يرشد أصحابه إلى الوقف ويحثهم عليه. ولهذا روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي r فقال: أصبت أرضاً، لم أصب قط مالاً أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها». فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، في الفقراء والقربى وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه.
ولقد امتدح رسول الله r خالد بن الوليد، على وقفه أَعْتَاده وأدراعه. فقال: «أما إنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله».
وعن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r: «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»
فالوقف من أفضل القربات وأجل الطاعات، لما فيه من استمرار العمل الصالح واستمرار أجره لصاحبه بإذن الله تعالى، وهو من خصائص المسلمين، إذ لم يعرف من قبلهم، قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: لم يحبس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً في ما علمت، ولذا قال الإمام النووي - رحمه الله -: الوقف من خصائص المسلمين. و قال النووي: وهو مما اختص به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية دارا ولا أرضا فيما علمت. الفقه الإسلامي وأدلته
نماذج من الأوقاف الإسلامية على مر العصور :
تتابعت الأوقاف منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم واستمر القادرون على الوقف على مدى التاريخ الإسلامي يوقفون أموالهم، أوقافاً تتسم بالضخامة والتنوع، حيث صارت هذه الأوقاف من مفاخر المسلمين،لم يدعوا جانباً من الجوانب الخيَّرة إلا أوقفوا فيه من أموالهم، حتى شملت هذه الأوقاف الإنسان والحيوان ؛ وبلغت ما لا يخطر على بال إنسان أن يفعله في شرق ولا غرب ، وهذه نماذج منها أسردها على سبيل المثال لا الحصر .
بئر رومة :
أول وقف خيري في الإسلام هو بئر رومة، التي كانت ليهودي يبيع ماءها لأهل المدينة ليشربوا منها، ولما هاجر النبي r وقدم المدينة وليس فيها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: «من يشتري بئر رومة فيكون دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟» فاشتراها عثمان t وأوقفها على أهل المدينة.
ومن ثمَّ بدأ الصحابة يوقفون الأراضي والحدائق والأسلحة والدروع، أخرج البخاري بالسند إلى أنس t قال: لما نزلت هذه الآية ]لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون[ [آل عمران: 92]، قال أبو طلحة أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك يا رسول الله. أني قد جعلت أرضي بيرحاء لله قال: فقال رسول الله r: «اجعلها في قرابتك» قال: فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
بساتين وعيون قرية سلوان :
كان أول الأوقاف وأعمال الخير في بيت المقدس هو المصلى الجامع الذي بناه أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في داخل أسوار المسجد الأقصى حيث كان المسجد يتسع لثلاثة آلاف من المصلين.
ومن عناية عثمان بن عفان رضي الله عنه في القدس أنه أمر في خلافته بوقف قرية سلوان المجاورة للقدس ذات العيون والحدائق على ضعفاء المدينة المباركة.
واستمرت الأوقاف في فلسطين والقدس في القرون الأولى وما بعدها من قرون فكان البناء الأموي للمسجد الأقصى ولمسجد قبة الصخرة . وأوقفت بعدها السبل والتكايا والمستشفيات ودراسة الطب والآبار والمساجد والمدارس والمعاهد ؛ بل أوقفت الأوقاف للصرف على طلاب العلم ومدرسيهم وإيواء الطلبة والوافدين وإطعامهم وكفالتهم بمبالغ نقدية تدفع لهم ، وأوقاف للمقابر ، وكفالة العجائز ( الأرامل ) ممن شددن الرحال إلى المسجد الأقصى وانقطعن هناك بعد وفاة أزواجهم .
وكان الوقف في القدس وفلسطين يقوم بما تحمل أعباءه عدة وزارات مجتمعة كوزارة الشئون الاجتماعية والعمل ، والصحة والتربية والتعليم العام ، والإسكان والتعمير والدفاع والري فضلا عن وزارة الأوقاف .
بل أن الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي أعاد الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة ؛ ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها ، وبذلك عادت الحياة إلى القدس سريعاً بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عاماً وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي ، وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى وهو ثالث المساجد التي يشد إليها الرحال ، وهذا من فقه وحنكة الناصر صلاح الدين أن أعاد الحياة الاقتصادية للقدس وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة .
وقف الآنية :
روى الرحالة ابن بطوطة في كتابه (تحفة النظار) بعض ما شاهده في دمشق أثناء تطوافه بها فقال :مررت يوماً ببعض أزقَّهِ دمشق، فرأيت مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صٌحفة من الفخار الصيني، وهو يسمّونه (الصحن) فتكسرت، واجتمع الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها وذهب معه الرجل إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن.
قال ابن بطوطة: وهذا من أحسن الأعمال، فإنَّ سيد الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبراً للقلوب .
متنزه الفقراء :
من غريب الأوقاف وأجملها قصر الفقراء، الذي عمره في ربوع الشام دمشق نور الدين محمود زنكي، فإنه لما رأى ذلك المنتزه مقصور على الأغنياء، عز عليه ألا يستمتع الفقراء مثلهم بالحياة، فعمر القصر ووقف عليه قرية (داريّا) وهي أعظم ضياع الغوطة وأغناها
وفي دمشق لا تزال المدرسة النورية التي أنشأها البطل العظيم نور الدين الشهيد, وهي الواقعة الآن في سوق الخياطين, ولا تزال قائمة تعطينا نموذجا حيا لهندسة المدارس في عصور الحضارة الإسلامية, لقد زارها الرحالة ابن جبير في أوائل القرن السابع الهجري, فأعجب بها وكتب عنها.
من نوادر أوقافنا
العصا لمن لا يصلي
- رجل لم يجد ما يوقفه قبل مماته إلا شجرة في صحن البيت ، فجمع أبنائه وأشهدهم بأنه أوقف تلك الشجرة ، لتأخذ أغصانها ، ويعمل منها العصي ، ليضرب بها من لا يصلي .
بغلة شيخ الأزهر
- كان هناك وقفاً خاصاً لمركب شيخ الأزهر عرف بمسمى : "وقف بغلة شيخ الأزهر " ، ليوفر الدابة التي يركبها شيخ الأزهر ونفقاتها وعلفها ورعايتها .
مؤنس المرضى
- وهو وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء ، ووظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرِّضين يقفان قريبًا من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج، وهذا مما يساعد المريض على النهوض من فراشه للأثر النفسي الذي تتركه تلك الكلمات التي سمعها على المريض !
الطيور المهاجرة
- وخصص وقف في مدينة فاس على نوع من الطير يأتي في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن ؛ وكأن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقَّ الضيافة والإيواء!! وغيرها الكثير .
لا شك أنها أوقاف ساهمت في نهضة الأمة وبناء اقتصادها لخصائص الوقف الإسلامي فهو نظام محكم متعدد الجوانب متجدد العطاء ، وموقظ للقدرات ففيه أبداع وتجديد ، يحفظ عز الأمة ومكانتها بدوام فوائده وبقاء عوائده .
.