دراسات وتوثيقات / ترجمات وقراءات
قراءة في كتابين: بيع فلسطين.. بين البديري وكوهين!
د. هند البديري مصرية من أصل مقدسي حاصلة على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر، وباحثة متفرغة في الدراسات حول فلسطين، بذلت على مدى أكثر من خمس وعشرين عاما كثيرا من الجهد والوقت والمعاناة في تأليفها كتابا متخصصا حول أراضي فلسطين؛ التي كانت وما زالت بؤرة الصراع مع الصهاينة الغاصبين تحت عنوان: أراضي فلسطين بين مزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ.
وتميز كتابها بالتزام المنهج العلمي والاعتماد على الوثائق والإحصاءات التي حصلت عليها الباحثة بصعوبة جدا من مناطق وبلدان متعددة، حيث دعمته بأرقام وبيانات بالغة الدقة؛ وأوجزت هدفها في تأليف الكتاب بالعبارة التالية: "لا نصاف شعب طال زمن الافتئات على حقوقه والافتراء عليه"، حيث إنها وضعت نصب عينيها- كما جاء في مقدمة كتابها- لتصدي لأكذوبة بيع أهل فلسطين أراضيهم لليهود، والتي ابتدعتها أجهزة الدعاية الصهيونية إلى حد أنها كادت أن تصبح معه بديهية.
تجاهل!
وخلال فترة الربع قرن التي قضتها في جمعها للكتاب تنقب وتبحث ف الأصول والمصادر دون أن تتلقى أي دعم علمي أو غيره من أي هيئة أو مؤسسة، بل والأكثر أسى وغرابة أنها بعد أن فرغت من عملها هذا لم تتحمس أي هيئة لنشر عملها العلمي وبدون أي مقابل، إلى أن سلمت السفير الفلسطيني في مصر في نهاية التسعينيات مسؤولية نشر الكتاب، وقام بعرضه على الجامعة العربية التي قامت بطباعته ونشره، وبقي الكتاب من ذلك الوقت محدود النشر والتوزيع ومتواضعا في إخراجه وطباعته وورقه.
وحقيقة إن الكتاب لأهميته وتميزه تم قراءته مرتين على الرغم من عدد صفحاته البالغة ٠ ٥٥ صفحة، لما حواه من وثائق نادرة وشهادات وإحصاءات وخرائط وبيانات وحقائق علمية ووقائع عقلية ونقليه لا يستغني عنها كل من له أدنى اهتمام في هذا الموضوع.
مركز رابين!
أما د. "هليل كوهين" فهو يهودي يساري وأستاذ مادة الإسلام والشرق الأوسط في الجامعة العبرية، ألف كتابا بالعبرية تحت عنوان: جيش الظلال بحث في دور العملاء مع المنظمات الصهيونية في صفوف الشعب الفلسطيني قبل قيام إسرائيل ١٩٤٨م.
على الرغم مما حواه الكتاب من المغالطات التاريخية التي تخالف كل الموضوعية والتاريخ والحقائق والثوابت، إلا أن الكاتب حاز على جائزة "مركز رابين" لأبحاث "إسرائيل" تقديرا لجهوده ف إنجاز هذا الكتاب. وأخذ كتابه وضعا غريبا في النشر والترجمة والاهتمام والجوائز، ونشرت بعض الصحف العربية ترجمة كاملة للكتاب على مدى ست حلقات مطولة، تابعتها فوجدت كثيرا من المغالطات التاريخية والآراء المجانبة للصواب التي خطها الكاتب الصهيوني وألبس على الكثير من القراء بالشبهات والأساطير، والتي توحي للقارئ بأن فلسطين لم تسلب وإنما شراها اليهود من العملاء !!
أكذوبة!
وتلك العبارة أصبحت أكذوبة متجددة ومفضوحة، منذ احتلال أرض فلسطين في ١٩٤٨ م إلى يومنا هذا، حيث يعمل اليهود بين فترة وأخرى على إثارتها؛ لأنهم أرادوا لذاكرتنا أن تكون قصيرة الأمد في تسجيل ممارسات اليهود وأساليبهم، ولكنهم انتهجوا نهجا آخر مع أكذوبة بيع الأراضي فأشاعوها وعملوا على تجديدها حتى كادت أن تصبح مسلمة من المسلمات، لتبقى راسخة في الذاكرة.
وبالتالي فان الكتاب جاء ليعزز الرواية الصهيونية حول ما حدث خلال الاحتلال البريطاني لفلسطين.
الكاتب اليهودي حاول أن يدلل على أن إنشاء "إسرائيل" جاء محصلة طبيعية لظاهرة العمالة وشراء الحركة الصهيونية للأراضي الفلسطينية؛ ليغطي على الأسباب العملية والحقيقية التي اجتمعت ليقام كيان لليهود على أرض فلسطين، علما بأن قادة كوهين الصهاينة لا يقولون في المحافل الدولية أنهم أخرجوا الفلسطينيين لأنهم باعوا أرضهم، أو لأنهم كانوا عملاء لليهود، بل لأن لهم حقا تاريخيا يمتد إلى أكثر من ألفي سنة!!
لهذا تجاوز في كتابه أي إحصائية توضح كم باع الفلسطينيون الإقطاعيون والخونة من أراضي فلسطين لليهود؟! وما نسبة الأراضي التي تم بيعها لليهود من مساحة فلسطين؟ وكيف أسهم الاحتلال البريطاني في تسهيل عمليات تسليمهم أراضي الدولة كهبة للمنظمات اليهودية؟ وما دور التزييف اليهودي في الاستيلاء على أراضي فلسطين؟ وكيف نفذ المشروع الاستعماري على أرض فلسطين؟ وكيف سنت القوانين التي استهدفت الاستيلاء على المزيد من الأراضي؟ أسئلة كثيرة لم نجد لها جوابا ف كتاب" كوهين"!!!
الدور البريطاني!
تارة يتهم "كوهين" قيادة الانتداب البريطاني في فلسطين بعلاقتها الحميمة مع القوى الوطنية الفلسطينية بحيث وصلت- على حد وصفه- إلى حد أن المسؤولين العرب المناهضين للصهيونية كان لهم تأثير قوي على البريطانيين! متجاوزا- وبكل خبث- الدور البريطاني في تمكين اليهود على أرض فلسطين!!
وتارة يصف الحاج محمد أمين الحسيني رحمه الله بالوطني وتارة بالمتمرد وقائد المتردين، وتارة يحاول أن يفسر مواقفه بأنها نابعة من حب الكرسي والزعامة مبتعدا عن الوازع الديني وواجب الدفاع عن فلسطين.
وتارة أخرى يسرد القصص لحكاية الخيانة، بأسماء أشخاص وعائلات اتهمها بالعمالة للصهاينة، ليعطي للقارئ صورة مقابلة لحكاية الجهاد والدفاع وتقديم الدماء والتمسك بالأرض والمقدسات ليتعمق فينا الإحساس بعدم جدوى مقاومة المحتل في كل الوسائل فالسابقين كانوا خونة والقادة كانوا جبابرة يعملون لمناصبهم. والدماء التي سالت كانت هباء فلا جدوى للتضحية لأن معظم وجهائنا كانوا عملاء ووصوليين!!
سذاجة!
ومن القصص الساذجة التي رواها الكاتب ليدلل على دور العملاء في سقوط فلسطين: أن عميلا للمخابرات الصهيونية استطاع في عام ١٩٤٨ م أن يصل إلى معسكرات تدريب الفلسطينيين في سوريا وبعد أن انكشف أمر علاقته مع الاستخبارات الصهيونية يقول- كوهين-، تم طرد ذلك العميل من المعسكر وذلك بعد أن جمع معلومات في غاية الخطورة ونقلها لمن جنده.
أبهذه البساطة وبدون أي عقاب يمسك ثم يطرد ثم يترك لينقل ما رآه؟! في حين أن الكاتب نقل في مواضع سابقة كيف كان القتل هو عقاب كل من يتهم بالعمالة لليهود في ذلك الحين!! ولا يعنى ذلك أن ننفي العمالة للمحتل أو أنها غير موجودة أولم يكن لها تأثير، فحقيقة كان هناك جزء من الفلسطينيين قد فقد القيم والكرامة والدين في التعامل مع المحتل مما ساهم في تمكين المحتل على أرض المسلمين وهي نسبة قليلة جدا أثبتت ذلك الأحداث منذ ١٩١٧ م إلى ١٩٤٨ م، ولكن في المقابل كان هناك غالبية عظمى تمسكت بأرضها ومقدساتها وبذلت الكثير للدفاع عنها، على الرغم من الجرائم التي اقترفتها بريطانيا والعصابات الصهيونية والدعم الغربي للهجرة اليهودية، ولعل "كوهين" لم يقرأ ما قاله أرنولد ج. توينبي- المؤرخ البريطاني- بأن" سلب أراضي فلسطين جرى في أكبر عملية نهب جماعية عرفها التاريخ... ومن أشد المعالم غرابة في النزاع حول فلسطين هو أن تنشأ الضرورة للتدليل على حجة العرب ودعواهم"؛ ولعله أغمض عينيه عن مقولة "هنري فورد"- المليونير العالمي- في كتابه اليهودي العالمي حول أساليب سلب أراضي فلسطين: ان إدارة الانتداب البريطاني كانت يهودية ومن المتعذر على أي ناطق يهودي مهما افتقر إلى الشعور بالمسؤولية أن ينكر الحقيقة الواقعة وهي أن إدارة فلسطين يهودية، فالحكومة فيها يهودية، وإجراءات العمل يهودية، والأساليب المستعملة يهودية... ولو عرف العالم حقيقة الأساليب التي اتبعت لاغتصاب أراضي فلسطين من أهلها العرب ي الأيام الأولى من الغزو الصهيوني، أو لو سمح لهذا العالم بمعرفتها، لعمه السخط والاشمئزاز، ولا ريب في أن هذه الأساليب كانت تجري بمعرفة صموئيل المندوب السامي اليهودي وتأييده.
ونختم تذكيرا "لكوهين" ومن صدقه بما قال المؤرخ بني موريس الأكاديمي والباحث اليهودي حول أكاذيب اليهود:" نشرنا الكثير من الأكاذيب وأنصاف الحقائق، التي أقنعنا أنفسنا وأقنعنا العالم بها... لقد حان معرفة الحقيقة، كل الحقيقة... والتاريخ هو الحكم في النهاية"
تساؤلات:
باختصار، هذان كتابان يتطرقان إلى المبحث نفسه، ولكن الفارق بينهما يوضح لنا كيف يوظف اليهود كتابهم للدفاع عن أباطيلهم.
وكيف نتعامل نحن مع من جند نفسه لدحض أكاذيب وأباطيل اليهود وأعوانهم؟!!
وسؤالنا لمركز جنين لماذا تم ترجمة كتاب كوهين؟! على الرغم من تحذير الكثير ممن قرا الكتاب باللغة العبرية من خطورة الترجمة إلى اللغة العربية، وبالأخص إذا كان التعليق والردود ضعيفة جدا بحيث لا ترد شبهة ولا تدحض أكذوبة!! ولماذا في هذا الوقت بالخصوص يترجم ويعرض هذا الكتاب؟! وهل كوهين هو أول من أطلق وكتب في تلك الأكذوبة حتى تأخذ ذلك الاهتمام أم سبقه أسلافه من الصهاينة على مدى عشرات السنين؟ ولماذا نشرت صحيفة" الرأي الأردنية" على مدى ست حلقات كتاب كوهين كاملا؟! ولماذا لم تنشر كتب أخرى تدافع عن حقوقنا ككتب "روز ماري صايغ" وبول فندني"، و"هنري فورد"، وكتب المؤرخ اليهودي "سيمحا فلابان" أو المؤرخ "بني موريس" وغيرهم كثير؟!
ولماذا يراد لهذه الأكذوبة أن تكون متجددة وراسخة في الذاكرة العربية والإسلامية؟!
وهل رد مركز جنين وتطرق إلى شبهات وأكاذيب اليهود بحيث لم يبق له إلا أن يطرح تلك الأكذوبة؟! وهل سننشغل بالدفاع ونبقى نتلقى بدون أن نكون مبادرين في إثبات حقنا...؟ وهل القارئ العربي يستطيع أن يرد على تلك الأكذوبة؟! وأسئلة كثيرة ليرد عليها من نشر ترجمة ذلك الكتاب حتى قبل طباعته!!!
مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد السابع
يناير 2009م
.