فلسطين التاريخ / تاريخ

من روائع أوقاف المسلمين ( 6/10 ) المدرسة التنكيزية

 

 

 

 

المدرسة التنكيزية من وقف إسلامي إلى كنيس يهودي

 

عيسى القدومي

 

 

من روائع انجازات الأمير سيف الدين تنكز بن عبد الله الناصري كان نائباً عن الملك الناصر محمد قلاوون لولاية القدس وفلسطين في عهد المماليك من سنة 712 إلى سنة 740 هـ ؛ أن أنشأ المدرسة التنكيزية ووقفها في سنة ( 729 هـ/1328م ) وتقع عند باب المسجد الأقصى المعروف بباب السلسلة ، ومبناها الذي لا يزال قائماً حتى اليوم يقدم أفضل الأمثلة على المدرسة ذات التخطيط المتميز في مدينة القدس . واجهة المدرسة الشمالية تُطِل على ساحة صغيرة بباب السلسلة ، وواجهتها الشرقية تطل على رواق المسجد الأقصى والواجهة الجنوبية تُشرِف على حائط البراق ، والواجهة الغربية على المباني المجاورة لها ، وقد تجلى الفن المعماري المملوكي بصورة رائعة في بناء المدرسة الذي حفل بالزخارف والمقرنصات التي تزين بوابتها العالية والأحجار الملونة .

وقد وصفها " مجير الدين الحنبلي " في الأنس الجليل ( 2/78 ) : "بأنها مدرسة عظيمة ليس في المدارس أتقن من بنائها" . ووقف الأمير تنكز الأوقاف الكثيرة على مدرسته والتي تضم خانقاه وداراً للحديث ، وداراً للقرآن ، ومدرسة ، ومما أوقف للمدرسة والمسجد الذي يتبعها ، حمام العين وحمام الشفا في سوق القطانين  ، وضيعة عين قينيا – قضاء رام الله ، ليصرف من ريع تلك الأوقاف على المدرسة والمعلمين والطلبة .    

وقامت هذه المدرسة بدورها في الحركة العلمية في بيت المقدس وتولى مشيختها والتدريس بها عدد من العلماء  الأعلام ، منهم القاضي علاء الدين بن منصور المقدسي ( 666 هـ 748 هـ / 1267م 1347م) .والشيخ صلاح الدين أبو سعيد  العلائي (694 هـ 761 هـ / 1294 م 1359م ).والشيخ شهاب الدين محمود الأسدي  المقدسي ، تولى مشيخة التنكزية بعد وفاة العلائي سنة (761هـ 1359 م ) بتفويض متقدم من الشيخ العلائي .

وذكر مجير الدين الحنبلي أن الشيخ الحافظ جمال الدين أبا محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال المقدسي الشافعي ، درس بالمدرسة التنكزية بالقدس الشريف بعد وفاة العلائي ، واستمر مشتغلاً بالتدريس إلى أن توفى سنة ( 765 هـ / 1363م ) وهو مؤلف الكتاب المشهور " مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام " والذي يعد من المصادر الرئيسة لدراسة تاريخ القدس

واستمرت تؤدي دورها حتى أواخر القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي ،  ثم اتخذت هذه المدرسة مركزاً للقضاة والنواب ، وديواناً للقضاة ، ودار سكن لهم في عهد السلطان قايتباي ،  ثم  عادت لتقوم بدورها الفكري في أواخر القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي . ثم حولت إلى محكمة شرعية في العصر العثماني ثم اتخذت مدرسة لتعليم الفقه الإسلامي .

ووثيقة وقف المدرسة التكيزية تعد نموذجاً لطرق عقد الوقفية وإبرامها ، حيث احتوت معلومات لا غنى عنها لأي متخصص في مجال الوقف الإسلامي  ، ففيها أساليب التعليم ومرتبات المعلمين ومخصصات الطلبة ، ومواد التدريس ومنهج العمل ، ونظام الدراسة ، وشروط اختيار المدرسين ، والأوقاف التي خصصت لها ، وكيف تستغل وكيف يختار ناظر الوقف وما مخصصاته ... وحتى لا يطول الحديث لننتقل إلى نصوص مختارة من وثيقة الوقف:

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ميسر أنواع الخيرات ومسهل أسبابها .. وجاعل الطاعات في مرضاته ... وقابل القربات ممن أخلصها طلباً لأجرها ورغبة في ثوابها ... اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء الكرام وسلم ...

أما بعد ، فان أولى ما ادخر الإنسان ليوم ميعاده ... الصدقة التي يدخر بها الثواب ، ويدرأ بها عن نفسه وبيل العذاب ، وتكون له على الصراط جوازا ، وعلى ثواب العمل طرازا ... ويتحقق بحصولها الفلاح لا سيما صدقات الأوقاف التي هي من أعلى الصدقات وأسناها وأرفعها قدرا عن الله تعالى فإنها من الصدقات الجارية الباقية .. لا ينقطع نفعها وان طال الزمان ، وقد بدأ نبينا صلى الله عليه وسلم بذكرها حيث قال : " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له "  .

ولما اتصل ذلك بعلم مولانا أبي سعيد تنكز عبد الله الملكي الناصري نائب السلطنة بالبلاد الشامية المحروسة أدام الله تعالى أيامه .. بادر إلى تحصيل هذه الصدقات التي تقرب بها إلى الله الكريم رجاء رحمته وفضله العظيم وأشهد بها على نفسه الكريمة ... أنه وقف وحبس وسبل وأبد وتصدق بجميع ما يأتي ذكره ، مما هو جار في ملكه وتحت يده .. المدرسة المباركة وهي بمدينة القدس .. جوار الحرم الشريف على الباب المعروف بباب السلسلة ... 

وقفاً صحيحاً شرعياً على فقهاء الحنفية ، والمحدثين ... وشرطه أن يكون حافظاً لكتاب الله تعالى عالماً بمذهب الإمام سراج الدين أبي حنيفة النعمان ملازما لذكر الدرس بهذه المدرسة على جاري العادة في ذكر الدروس ، وأن يكون إماماً في الصلوات  الخمس بالمسجد الذي هو الإيوان القبلي من المدرسة المذكورة وصلاة التراويح في ليالي شهر رمضان المعظم من كل سنة بمن يحضر إلى المسجد من كافة المسلمين ، وأن يستعرض المتوسطين والمبتدئين من الفقهاء والمتفقهة بالعلم الشريف ... الخمسة عشر فقيهاً ومتفقها يرتبون ثلاث طبقات منتهون ومتوسطون ومبتدئون... وملازمة الاشتغال بها والمبيت فيها على جاري العادة.

ومن مضت منهم عليه أربع سنين من حين ترتيبه بالمدرسة المذكورة ولم يكمل حفظ كتاب في مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ويظهر عليه الفقه ، فيستبدل الناظر على هذا الوقف غيره ، ويقدم الفقيه الغريب على الفقيه من أهل القدس ، ويقدم العزب على المزوج منهم ، وعلى هؤلاء المذكورين أجمعين من المدرس والمعيد والفقهاء والمتفقهين الاجتماع لذكر الدروس في الإيوان القبلي .. وأن يقرأ كل منهم جزءا من ثلاثين جزءا من كتاب الله تعالى .. ويختمون قراءتهم بقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ... 

ومن شرط هذا الوقف أن يرتب الناظر مقرئا وقيمين وبواباً ... وعلى البواب بهذه المدرسة ملازمتها وحفظها في الليل والنهار وفتح باب المدرسة وغلقه في الأوقات التي جرت العادة بها ومن شرط كل واحد من هؤلاء الأربعة المذكورين أن يكون من أهل الخير والدين والصلاح .

ومن شرط هذا الوقف أن يرتب ناظر الوقف للموقوف المذكور في هذا الكتاب معمارا وجابياً وكاتبا على جاري العادة ويكون كل واحد منهم من أهل الخير والدين والصلاح .

وأما الرباط المجاور للمدرسة المشار غليه بأعاليه فقد وقفه الواقف المسمى - تقبلها الله منه - على اثنتي عشرة امرأة مسلمات دينات خيرات صالحات عجائز خاليات عن الأزواج فقيرات مقيمات في الرباط المذكور تكون إحداهن شيخة لهن ، وأخرى قيمة للرباط المذكور وبوابة ، وعلى الفقيرات الواردات إلى هذا الرباط وعلى الشيخة المشار إليها أن تأم بهن في الصلوات الخمس وفي صلوات التراويح في ليالي شهر رمضان المعظم من كل سنة ، وعلى القيمة البوابة فرش الرباط المذكور بالحصر والبسط وتنظيفه وكنسه وغسل طهارته وحفظ الرباط المذكور كما تقدم في بواب المدرسة المذكورة وإيقاد مصابيحه وطفيها ، وعليهن أجمعين أن يجتمعن في إحدى إيواني الرباط المشار إليه بعد صلاة الصبح في كل يوم ويقرأن سورة الإخلاص والمعوذتين وفاتحة الكتاب العزيز ثم يذكرن الله تعالى ويصلين على محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم ثم تدعو شيختهن كدعاء المدرس المقدم وحكمهن في الغيبة كما تقدم في غيبة غيرهن...

ويصرف للمدرس بالمدرسة المذكورة في كل شهر من الشهور ستين درهما فضة وفي كل يوم من الأيام رطلاً واحداً من الخبز وإلى المعيد بالمدرسة المشار إليها في كل شهر من الشهور ثلاثين درهما فضة وفي كل يوم من الأيام ثلثي رطل من الخبز وإلى كل واحد من الفقهاء المنتهين في كل شهر من الشهور عشرين درهما فضة وفي كل يوم من الأيام نصف رطل من الخبز والي كل واحد من الفقهاء المتوسطين في كل شهر من الشهور خمسة عشر درهما فضة وفي كل يوم من الأيام نصف رطل من الخبز ، وإلي كل واحد من الفقهاء المبتدئين في كل شهر من الشهور عشرة دراهم فضة وفي كل يوم من الأيام نصف رطل واحد من الخبز ، وإلي شيخ المحدثين في كل شهر من الشهور أربعين درهما فضة وفي كل يوم من الأيام رطلا واحدا من الخبز ، وإلي قاري الحديث النبوي على قائله أفضل الصلاة وأتم السلام في كل شهر من الشهور عشرين درهما فضة وفي كل يوم من الأيام نصف رطل من الخبز ؛ وإلي كل واحد من الجماعة المحدثين في كل شهر من الشهور سبعة دراهم ونصف درهم وفي كل يوم من الأيام نصف رطل من الخبز ؛ وإلى كل واحد من الجماعة المحدثين في كل شهر من الشهور سبعة دراهم ونصف درهم وفي كل يوم من الأيام نصف رطل من الخبز ...

ومتى تعذر الصرف في مصرف من المصارف المشار إليها أو أكثر صرف الناظر في الوقف ما كان مصروفاً إليه في بقية المصارف على ما يراه ناظر الوقف ومتى تعذر الصرف في جميع المصارف المذكورة صرف الناظر ما كان مصروفاً إلى عتقاء الواقف المسمى تقبل الله تعالى منه على ما يراه الناظر في الوقف المذكور ومتى تعذر الوقف على العتقاء صرف ذلك صدقة على الفقراء والمساكين المسلمين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على ما يراه الناظر من وجوه البر والقربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.

ومن شرط... الوقف أن الناظر فيه يستغل الضيعة المذكورة وأراضيها بالمزارعة والمفالحة والمعاملة بما فيه المصلحة الراجحة لجهة الوقف مهما أمكن ذلك ويصرف من ريع الموقوف المذكور ما يحتاج ذلك إليه من مشترى أبقار وآلات وتقوية فلاح وإذا لم يمكن ذلك فلا تؤجر الضيعة المذكورة وأراضيها ولا شيء منها في عقد واحد أكثر من سنتين ولا يستأنف على ذلك عقد حتى ينقضي العقد الأول ويعود إلى يد الناظر ولا يؤجر الحمامان المذكوران في عقد أكثر من سنة واحدة ولا يؤجر ذلك من مفلس ولا عاطل ولا متشرد ولا متجول ولا لمن يعلم أنه يستأجره لمن هذه صفته والنظر في هذا الوقف والولاية عليه لمولانا ملك الأمراء الواقف المسمى في هذا الكتاب المبارك أحسن الله تعالى إليه وأفاض نعمه عليه مدة حياته المباركة فيها أطالها الله تعالى ومن بعده يكون النظر في ذلك للأرشد فالأرشد من أولاده وأولاد أولاده وذريته المباركة كثرهم الله تعالى ومن بعدهم يكون لناظر الحرمين الشريفين بالقدس وبمدينة الخليل بمشاركة الحاكم بالقدس الشريف له في ذلك حاكماً بعد حاكم وناظراً بعد ناظر ومن أختار من عتقاً الواقف المذكور أحسن الله تعالى إليه أن يكون من جملة الصوفية المقدم ذكرهم بالمعلوم والجراية وسائر ما ذكر لكل واحد من الصوفية المذكورين فيكون في ذلك مقدماً على غيره من المرتبين بالإجازة ولا يشترط عليه أن يكون من أهل التصوف ...

ومن اختارت من عتيقات الواقف المسمى أدام الله تعالى نعمته أن تكون في رباط النساء المذكور فيرتبها الناظر من جملتهن بالمعلوم والجراية ، وتكون مقدمة على غيرها من الأجانب المرتبات فيه ، وإخراج هذا الواقف المسمى تقبل الله منه جميع ما وقفه في هذا الكتاب عن ملكه وأبانه عن حيازته ورفع عنه يد ملكه ووضع عليه يد ولايته السعيدة وتلفظ بإنشاء هذا الوقف على الوجه المشروح فيه وقد صح هذا الوقف ولزم وصار وقفا على الوجوه المشروحة في هذا الكتاب ، فلا يحل لأحد يؤمن بالله العظيم واليوم الآخر ويعلم أنه إلى ربه الكريم صائر نقض هذا الوقف ولا تبديله ولا تغييره ولا الاحادة به عن وجوهه وشروطه المذكورة فيه ولا بيعه ولا إتلافه ولا المناقلة به ولا بشيء منه ، ولا يخرج إلى ملك أحد من ساير الناس أجمعين ، بل كلما مر بهذا الوقف زمن أكده ، وكلما أتى عليه عصر أو أوان أخلده وسدده ، فهو محرم بحرمات الله مدفوع عنه بقواة الله متبع فيه مرضات الله لا يوهنه تقادم دهر ولا يبطله انقراض عصر ، وهذا الواقف المسمى خلد الله سعادته ونعمته يستعدي إلى الله عز وجل على من يقصد وقفه هذا بفساد أو يرومه بنقض وعناد ويحاكمه إليه ويخاصمه لديه يوم القيامة يوم الحسرة والندامة يوم التناد يوم عرض الأشهاد يوم عطش الأكباد يوم يكون الله تعالى هو الحاكم بين العباد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ((فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه أن الله سميع عليه)) .

وقد وقع أجر هذا الواقف المسمى أحسن الله إليه على الله العظيم الذي يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين وأشهد مولانا ملك الأمراء الواقف المسمى أعلاه أدام الله تعالى أيامه وأعلاه أعلامه على نفسه الكريمة حرسها الله تعالى بجميع ما نسب إليه في هذا الكتاب المبارك بعد قراءته لديه وإحاطة علمه الكريم بجميع ما تضمنه على الوجه المشروح فيه في اليوم المبارك الثاني عشر من شهر جمادى الأولى سنة ثلاثين وسبعمائة من الهجرة النبوية المحمدية على صاحبها مني ألف ألف تحية (1)

وفي سنة 1969 م ، قامت السلطات اليهودية باحتلالها والمرابطة فيها ، والآن اتخذت ككنيس يهودي  ، فقد تم تحويل الطابق السفلي للمدرسة إلى كنيس يهودي وحول مصلى المدرسة كذلك إلي كنيس يهودي آخر  ، والآن ضمن مخطط تطوير القدس وتأهيلها للسياحة العالمية ، وزع كراس يوضح المخطط الجديد لإقامة أكبر كنيس يهودي على سقف المدرسة التنكزية . والصور المرفقة توضح ذلك .

تلك المدرسة بتاريخها ونشاطها ، وما خرجته من أجيال وعلماء وحُفاظ ، وما رعت وكفلت أوقافها من طلبة علم وفقهاء ؛ تحول الآن إلى كنيس يهودي !! نكتب ما جاء في وثيقتها الوقفية ليقرأ العالم أجمع كيف تحول مقدساتنا وأوقافنا ومساجدنا إلى كنس !!

وليعرف الجميع ... العرب قبل غيرهم .. والإسلامي قبل العلماني !! أن فلسطين سلبت واغتصبت ... وليس كما يظن البعض أنها بيعت لليهود من أهلها !! وما حصل للمدرسة التكيزية يُعد أنموذجاً لمن أراد أن يقرأ مسيرة الخداع بعجالة !!  

 



 (1)  لقراءة نص الوثيقة كاملاُ ، ينظر في كتاب وثائق مقدسية تاريخية ، د. كامل جميل العسلي ( 1/ 105- 124 ) .

 

.