القدس والأقصى / معالم

المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض

المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض

مبتسم الأحمد

مساهمة مني في نشر العلم الشرعي المستفاد من كلام خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم على طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم ابتداءً ، ثم فقهاً للواقع الذي نعيش، والثقافة المقدسية ، فإني أحببت أن أتعرض لحديث هام من الأحاديث المقدسية الصحيحة، بحسب ما يتسع به المقام، أسبر أغواره وأستخرج فوائده العلمية المتعلقة ببيت المقدس ، والأقصى ، وفلسطين على وجه الخصوص، ثم أعرج على ذكر غيرها من الفوائد والأحكام، ولا أغفل كذلك بربط هذا الشرح مع الواقع وما يحدث على الأرض إن اقتضى الأمر ذلك.

الموضوع:

روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } قال:

- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ، ثُمَّ قَالَ: حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ.

وفي بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } قال:

- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ:  قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟  قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ.

وأما الإمام مسلم رحمه الله فرواه في صحيحه في (كتاب المساجد ومواضع الصلاة) حديث رقم(520) فقال:

- حدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: ح وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ ثُمَّ حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّهْ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ.

- حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ فِي السُّدَّةِ فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ:

سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟

قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ.[1]

شرح الحديث

مفردات الحديث:

المسجد الأقصى: قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير آية الإسراء: وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جُمعوا له (أي النبي صلى الله عليه وسلم) هناك كلهم (أي الأنبياء) فأمّهم في محلتهم ودارهم.

وضع في الأرض: أي للعبادة والصلاة.

راوي الحديث:

أبو ذر : هو جندب بن جنادة الغفاري،وقد اختلف في اسمه وهذا أشهرها.

أحد السابقين الأولين، من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: كان خامس خمسة في الإسلام.

ثم إنه ردّ إلى بلاد قومه، فأقام بها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، فلما أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، هاجر إليه أبو ذر رضي الله عنه، ولازمه، وجاهد معه.

وكان يفتي في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان.

روى عنه: حذيفة بن أسيد الغفاري، وابن عباس، وأنس بن مالك، وابن عمر، وجبير بن نفير، وأبو مسلم الخولاني، وزيد بن وهب، وأبو الأسود الدئلي، و عبدالرحمن بن غنم، وخلق كثير.

كان آدم ضخماً جسيماً، كث اللحية. وكان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم والعمل، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه.

قال الواقدي: كان حامل راية غفار يوم حنين أبو ذر. وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر.

سئل علي رضي الله عنه عن أبي ذر ; فقال: وعى علماً عجز عنه، وكان شحيحاً (أي متمسكاً به) على دينه، حريصاً على العلم، يكثر السؤال، وعجز عن كشف ما عنده من العلم.

وكان قد استأذن عثمان رضي الله عنه بالخروج إلى الربذة فلما حضرته الوفاة، أوصى امرأته وغلامه، فقال: إذا مت فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلا به ذلك.

فاطلع ركب، فما علموا به حتى كادت ركائبهم توطأ السرير.

فإذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا ؟ قيل: جنازة أبي ذر.

فاستهل ابن مسعود يبكي، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أبا ذر ! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده ". فنزل فوليه بنفسه، حتى أجنّه (أي واراه).

وقيل: إن أبا ذر خلف بنتاً له، فضمها عثمان إلى عياله.

قال الفلاّس، والهيثم بن عدي، وغيرهما: مات سنة اثنتين وثلاثين. ويقال: مات في ذي الحجة. ويقال: إن ابن مسعود الذي دفنه، عاش بعده نحواً من عشرة أيام. رضي الله عنهما.[2]

الشرح الإجمالي:

المسجد الحرام: أي الكعبة.

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في سواه إلا المسجد الحرام ، فصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة [ فيما سواه ] ) .[3]

المسجد الأقصى: يعني مسجد بيت المقدس، قيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل لبعده عن الأقذار والخبائث، والمقدس: المطهر عن ذلك.

والمسجد الأقصى: اسم لجميع المسجد مما دار عليه السور، وفيه الأبواب والساحات الواسعة والجامع القبلي وقبة الصخرة والمصلى المرواني والأروقة والقباب والمصاطب وأسبلة الماء وغيرها من المعالم، وعلى أسواره المآذن، والمسجد كله غير مسقف سوى بناء قبة الصخرة والجامع القبلي الذي يُعرف عند العامة بالمسجد الأقصى وما تبقى منه في منزلة ساحة المسجد، وهو ما اتفق عليه العلماء والمؤرخون، وعليه تكون مضاعفة ثواب الصلاة في أي جزء مما دار عليه السور، وتبلغ مساحته 144 ألف متر مربع. [4]

فَإِنَّ "الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى" اسْمٌ لِجَمِيعِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ صَارَ بَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي الْأَقْصَى الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُقَدِّمِهِ وَالصَّلَاةُ فِي هَذَا الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسْجِدِ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَكَانَ عَلَى الصَّخْرَةِ زُبَالَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَقْصِدُونَ إهَانَتَهَا مُقَابَلَةً لِلْيَهُودِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ إلَيْهَا فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا وَقَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَيْنَ تَرَى أَنْ نَبْنِيَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ: خَلْفَ الصَّخْرَةِ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ خَالَطَتْك يَهُودِيَّةٌ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا . فَإِنَّ لَنَا صُدُورَ الْمَسَاجِدِ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْأُمَّةِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ قَصَدُوا الصَّلَاةَ فِي الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي مِحْرَابِ دَاوُد.[5]

الحديث فيه ميزة ما اختصت به أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جعل الأرض لها مسجداً وطهوراً، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم وغيره عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ.

الفوائد المنتقاة من الحديث:

1-  قال الإمام النووي رحمه الله في معرض شرحه للحديث: " قوله صلى الله عليه وسلم "وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد" فيه: جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما استثناه الشرع من الصلاة في المقابر وغيرها من المواضع التي فيها النجاسة كالمزبلة والمجزرة، وكذا ما نهى عنه لمعنى آخر فمن ذلك أعطان الإبل، ومنه قارعة الطريق والحمام وغيرها. (وإن من كان قبلنا إنما أبيح لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس، قال القاضي رحمه الله تعالى: وقيل إن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا فيما تيقنوا طهارته من الأرض وخصصنا نحن بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنا نجاسته).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: فإن الفضل فيه: أي في فعل الصلاة إذا حضر وقتها، زاد من وجه آخر عن الأعمش في آخره والأرض لك مسجد أي للصلاة فيه، وفي جامع سفيان بن عيينة عن الأعمش فإن الأرض كلها مسجد أي صالحة للصلاة فيها، ويخص هذا العموم بما ورد فيه النهي والله أعلم.

2-  قال الإمام النووي رحمه الله : "قوله: كنت أقرأ القرآن على أبي في السُدّة فإذا قرأت السجدة سجد، فقلت له: يا أبت أتسجد في الطريق فذكر الحديث، قوله: السُدّة هي بضم السين وتشديد الدال هكذا هو في صحيح مسلم ووقع في كتاب النسائي في السِكة وفي رواية غيره في بعض السكك وهذا مطابق لقوله يا أبت أتسجد في الطريق، وهو مقارب لرواية مسلم لأن السدة واحدة السُدد وهي المواضع التي تطل حول المسجد وليست منه، ومنه قيل لإسماعيل السُدّي لأنه كان يبيع في سُدّة الجامع، وليس للسدة حكم المسجد إذا كانت خارجة عنه، وأما سجوده في السدة وقوله أتسجد في الطريق فمحمول على سجوده على طاهر.

3-  قال الإمام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري معقباً على الحديث: " قوله: "أربعون سنة" قال ابن الجوزي: فيه إشكال لأن إبراهيم بني الكعبة وسليمان بنى بيت المقدس وبينهما أكثر من ألف سنة انتهى، ومستنده في أن سليمان عليه السلام هو الذي بنى المسجد الأقصى ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً بإسناد صحيح أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالاً ثلاثاً الحديث، وفي الطبراني من حديث رافع بن عميرة: أن داود عليه السلام ابتدأ ببناء بيت المقدس ثم أوحى الله إليه إني لأقضي بناءه على يد سليمان وفي الحديث قصة، قال وجوابه أن الإشارة (في حديث الباب) إلى أول البناء ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فقد روينا أن أول من بني الكعبة آدم ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس ثم بني إبراهيم الكعبة بنص القرآن، وكذا قال القرطبي أن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدأ وضعهما لهما بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما، قلت: وقد مشى ابن حبان في صحيحه على ظاهر هذا الحديث فقال: في هذا الخبر رد على من زعم أن بين إسماعيل وداود ألف سنة، ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة وهذا عين المحال، لطول الزمان بالاتفاق بين بناء إبراهيم عليه السلام البيت وبين موسى عليه السلام، ثم إن في نص القرآن أن قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة، وقد تعقب الحافظ الضياء بنحو ما أجاب به ابن الجوزي، وقال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان، ثم داود وسليمان فزادا فيه ووسعاه فأضيف إليهما بناؤه، قال: وقد ينسب هذا المسجد إلى إيلياء فيحتمل أن يكون هو بانيه أو غيره ولست أحقق لم أضيف إليه، قلت: الاحتمال الذي ذكره أولاً موجه (أي له وجه)، وقد رأيت لغيره أن أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام وقيل الملائكة وقيل سام بن نوح عليه السلام وقيل يعقوب عليه السلام فعلى الأولين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديداً كما وقع في الكعبة، وعلى الأخيرين يكون الواقع من إبراهيم أو يعقوب أصلاً وتأسيساً، ومن داود تجديداً لذلك وابتداء بناء فلم يكمل على يده حتى أكمله سليمان عليه السلام، لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزي أوجه، وقد وجدت ما يشهد له ويؤيد قول من قال أن آدم هو الذي أسس كلاًّ من المسجدين، ما ذكره ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بني الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه ونسك فيه، وبناء آدم للبيت مشهور، وقد تقدم قريباً حديث عبد الله بن عمرو أن البيت رفع زمن الطوفان حتى بوأه الله لإبراهيم، وروى ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم لما هبط ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال الله له: يا آدم إني قد أهبطت بيتاً يطاف به كما يطاف حول عرشي فانطلق إليه، فخرج آدم إلى مكة وكان قد هبط بالهند، ومد له في خطوه فأتى البيت فطاف به، وقيل: إنه لما صلى إلى الكعبة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فاتخذ فيه مسجداً وصلى فيه ليكون قبلة لبعض ذريته، وأما ظن الخطابي أن إيليا اسم رجل ففيه نظر، بل هو اسم البلد فأضيف إليه المسجد، كما يقال مسجد المدينة ومسجد مكة، وقال أبو عبيد البكري في معجم البلدان: إيليا مدينة بيت المقدس فيه ثلاث لغات مد آخره وقصره وحذف الياء الأولى.

" فَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى كَانَ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنَاهُ بِنَاءً عَظِيمًا. فَكُلٌّ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بَنَاهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ لِيُصَلِّيَ فِيهِ هُوَ وَالنَّاسُ".[6]

4-  قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (27/258): " و "الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى" صَلَّتْ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ عَهْدِ الْخَلِيلِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْت : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ وَصَلَّى فِيهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَسُلَيْمَانُ بَنَاهُ هَذَا الْبِنَاءَ وَسَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا : سَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بَعْدِهِ وَسَأَلَهُ حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَهُ وَسَأَلَهُ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إلَّا غَفَرَ لَهُ } . وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْتِي مِنْ الْحِجَازِ فَيَدْخُلُ فَيُصَلِّي فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُ وَلَا يَشْرَبُ فِيهِ مَاءً لِتُصِيبَهُ دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ يَأْتُونَ وَلَا يَقْصِدُونَ شَيْئًا مِمَّا حَوْلَهُ مِنْ الْبِقَاعِ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَى قَرْيَةِ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرِهَا".

5-  قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (وقوله: "أدركتك الصلاة" أي: وقت الصلاة، وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها، ويتضمن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات.

وفيه: إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل لا يترك المأمور به لفواته بل يفعل المأمور في المفضول، لأنه صلى الله عليه وسلم كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع أنه يريد تخصيص صلاته فيه، فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل، وفيه: فضيلة الأمة المحمدية لما ذكر أن الأمم قبلهم كانوا لا يصلون إلا في مكان مخصوص، وفيه: الزيادة على السؤال في الجواب لا سيما إذا كان للسائل في ذلك مزيد فائدة).

6-    فيه الحث على السؤال لمن جهل، والإستزادة من طلب العلم.

7-    وفيه جواز سجود العالم أو المتعلم إذا مرت فيه آية سجدة، والأمر على خلاف، والمختار السجود أول مرة.

 



[1] وكذلك أخرجه أحمد (5/150) برقم 21659، والنسائي في الكبرى (1/255) برقم 769، وابن ماجه (1/248) برقم 753

[2] (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي).

[3] رواه أحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين (إرواء الغليل- الألباني  4/341).

[4] (المسجد الأقصى الحقيقة والتاريخ لعيسى القدومي).

[5] (مجموع الفتاوى 27/11-12 - شيخ الإسلام

[6] (مجموع الفتاوى (27/351). شيخ الإسلام

 .