دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

مراكز الدراسات وإدارة الصراع بين الشرق والغرب (1/3)

 

 

مراكز الدراسات وإدارة الصراع بين الشرق والغرب (1/3)

 

لم تحظ مؤسسة من المؤسسات أو هيئة من الهيئات الفكرية بمثل ما حظيت به مراكز البحوث والدراسات من الاهتمام، فضلاً عن الجدل الكبير الذي أثير حول طبيعة عملها والدور الذي تقوم به، سواء من الدول والأنظمة أو الحركات السياسية والمفكرين.

ولا شك أنَّ هناك تباين واضح بين هذا الاهتمام من قِبَلِ الغرب وبين اهتمام الدول العربيَّة والإسلاميَّة بهذه المراكز، ولعل إدراك الغرب لهذه الأهمية جاء بعد إدراكه بعدم جدوى الحروب العسكرية فقط في تحقيق طموحاته وأهدافه فاتجه إلى حروب أشد ضراوة  تستهدف الدين والثقافة، وحتى منظومة العادات والتقاليد والأخلاق في غزوٍ ثقافيٍ وفكريٍ شامل كانت هذه المراكز الآتون الذي يغذيها ويمدها بالمدد والعتاد.

واستطاعت هذه المراكز بالفعل أن تحقق كثير من الأهداف التي كان يطمح إليها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي أفسحت المجال لمئات من تلك المراكز وأعطت القائمين عليها كافة الصلاحيات والإمكانات لتوجيه صُنّاع القرار السياسي والاقتصادي بل وتوجيه الرأي العام الأمريكي والدولي، والتأثير في كثير من القطاعات الفاعلة على المستويات الرسمية  والشعبية في كثير من الدول.

في المقابل لم تكن هناك استفادة حقيقية من هذه المراكز في  وطننا العربي والإسلامي فبقي ميدان عملها محدودًا واقتصرت دراساتها على الجوانب الوصفية والعامة غالبًا، فضلاً عن أن معظم نتاجات هذه المراكز إنْ وُجِدَت لا تجد إلاّ رفوف المكاتب والأدراج دون أن تتاح الفرص الملائمة لاستثمارها.

وبقيت هذه المراكز مجرد هياكل معزولة عن بيئاتها وتضاءلت مساهمتها في حل المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا المتخلفة وقضايانا المصيرية والتي من أهمها قضية فلسطين التي تعتبر القضية المركزية في هذا الصراع.

 وفي دراسة قام بها مدير برنامج مراكز التفكير والمجتمع المدني في برنامج العلاقات الدولية بجامعة بنسلفانيا في مدينة فيلادلفيا الأمريكية نشرتها مجلة Foreign Policy في عدد كانون الثاني / شباط 2009، من أن عدد هذه المراكز في الولايات المتحدة الأمريكية وصل ما يقارب (1872) مركزاً منتشرة في جميع الولايات الأمريكية من إجمالي حوالي (4000) مركز على مستوى العالم، وقد أطلق عليها منذ ظهورها "بيوت الخبرة".

في حين ذكرت الإحصائية أنَّ عدد هذه المراكز في العالم العربي لا يتجاوز (25) مركزًا، كثيرٌ منها يفتقر لأبسط الإمكانات التي تؤهله للقيام بعمله، في حين أنَّ عدد المراكز في الدولة اليهوديَّة أكثر من (20) مركزًا ضخمًا، بخلاف تلك المراكز التي يمولها اليهود في دول الغرب والولايات المتحدة لتوجيهها بم يخدم أهدافها.

ولنا أن نتصور حجم الميزانيات الضخمة التي تُنفق على هذه المراكز والتي تَضُم خيرة الباحثين والمتخصصين في العلوم السياسية والإستراتيجية، وهي مبالغ طائلة تتجاوز (4) مليارات من الدولارات حسب ما ذكرت الإحصائية.

ولا شك أنَّ هذا الاهتمام كما أشرنا من قبل لم يأت من فراغ ولكن لإدراك الغرب أن هذه المراكز أصبحت مصدرًا مهمًا وأساسيًا في توفير المعلومات وداعم أساس في اتخاذ القرارات .

 وقد أكد كثير من المتخصصين أن تدني مكانة هذه المراكز في واقعنا العربي والإسلامي، له أسباب عديدة أدت إلى ذلك أهمها أنَّ البيئة المحيطة غير مواتية لتفعيل دورها، فأغلب الدول العربية تعانى من نقص هائل في الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، حيث تنظر الحكومات العربية إلى هذا النوع من الاستثمار على أنه إنفاق هامشي ونشاط ترفى يجرى إنفاق بعض الأموال عليه من أجل الوجاهة الاجتماعية الإقليمية والدولية، وليس من أجل تحقيق إنجازات علمية وتقنية حقيقية.

  إضافة إلى ذلك تفتقر الدول العربية إلى البيئة العلمية المناسبة، فالمناخ العام للبحث العلمي ليس منتجًا، لذلك فإن ما هو موجود في الوطن العربي من مراكز ومعاهد ومؤسسات بحثية مع ندرتها، لا يحمل أكثر من مجرد الأسماء إلا فيما ندر لأسباب كثيرة منها:

- ما أشرنا إليه بخصوص التمويل الكافي للعملية البحثية.

- ومنها أيضاً الاستقلالية المالية والإدارية عن الحكومات، فأغلب مراكز البحوث والدراسات العربية تابعة بشكل أو بآخر للحكومات نظرًا لعزوف القطاع الخاص عن احتضان وتأسيس المراكز العلمية والبحثية.

- ومنها المناخ السياسي غير الموات للعملية البحثية بسبب غياب الديمقراطية والافتقار إلى الحريّات وإلى الشفافية في التعامل مع حرية تداول المعلومات، واحتكارية السلطة التي تجعل نظم الحكم سلطوية وشخصانية بما يكفى لتهميش أي دور استشاري أو ترشيدي لمراكز البحوث في عملية صنع القرارات وفى مقدمتها قرارات السياسة الخارجية.

لهذه الأسباب وغيرها تدنَّت مكانة مراكز البحوث والدراسات، وتقلص الاهتمام بإنشاء هذه المؤسسات الفكرية والعلميَّة، بل في كثير من الأحيان ينظر إليها بعين الارتياب والشك، ومن ثم لم تكن طرفًا فاعلاً ومنافسًا في إدارة الصراع مع الغرب الذي اعتمد اعتمادًا أساسيًا عليها قي توجيه السياسات العامة لمؤسساتنا الرسمية والشعبية وفق ما يريد ووقت ما يريد.

هذه مقدمة بسيطة عن أهمية هذه المراكز كان الدافع لكتابتها الدورة التي عقدها مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية بالتعاون مع جمعية إحياء التراث الإسلامي عن تأسيس وإدارة مراكز البحوث والدراسات، ولعل اهتمام المركز بعقد مثل هذه الدورة جاء بعد أن لَمَس القائمون عليه من خلال التجربة العملية أهمية هذه المراكز ودورها الحيوي في خدمة القضية الفلسطينية وحاجة الأمة إلى مؤسسات ذات مرجعية شرعية وعلمية منضبطة تدفع الأباطيل اليهودية وتؤصل للقضية تأصيلاً شرعيًا،  كذلك كانت هناك رغبة من المسئولين بالمركز إلى دفع القائمين على العمل الإسلامي إلى تبني مثل هذه المشاريع التي تعتبر الداعم والمحرك الأساس لأي عمل مؤسسي منظم له رؤية وغاية، وهذا ما سنتعرف عليه في حوارنا مع مدير المركز الشيخ جهاد العايش ومع الباحثين والمتخصصين في هذا الشأن في الأعداد القادمة إن شاء الله.

 

.