القدس والأقصى / حقائق مقدسية

الطرق الإيمانية والعملية لاستعادة المسجد الأقصى

الطرق الإيمانية والعملية لاستعادة المسجد الأقصى

محمد بن محمود الصالح السيلاوي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . أمَّا بعد؛

فإن المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، وقد ظل المسلمون يتوجهون في صلاتهم حتى الشهر السادس عشر أو السابع عشر من هجرة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى، ثم نسخت القبلة إلى الكعبة بالبلد الحرام، والمسجد الأقصى ثاني مسجد بني على الأرض بعد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ثالث أفضل مسجد على وجه الأرض، حيث الصلاة فيه تعدل مائتين وخمسين صلاة ،

وللمسجد الأقصى في الإسلام فضائل ومناقب مما ليس لغيره من المساجد سوى ما سبق، فهو المسجد الذي ذكره الله باسمه من بين مساجد الأرض مع المسجد الحرام، وبارك فيما حوله من الأرض، فقال تعالى:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) .

وقد بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين قبل وفاته بفتح بيت المقدس، وكان حينها تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، فلما كان عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تحققت بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في عام 15ﻫ  .

وظل المسجد الأقصى في حوزة المسلمين يعتنون بعمارته ويهتمون بتشييده، حتى جاءت الحملات الصليبية إلى بلاد الشام فسقطت القدس في أيديهم عام 493 ﻫ، وقد كانت تحت حكم الدولة الفاطمية

فتعرض المسلمون في المسجد الأقصى لأنواع التعذيب والاضطهاد والتقتيل من المحتلين، كما حول الصليبيون المسجد إلى كنيسة ووضعوا على قبته صليبا ! واتخذوا من مرافقه إصطبلات لخيلهم، حتى هيأ الله له القائد نور الدين ثم القائد صلاح الدين - رحمهما الله - اللذيْن قاما بإحياء روح الجهاد في الأمة، وجددا فيها معالم الدين، حتى استعاده القائد صلاح الدين من الصليبيين في السابع والعشرين من رجب عام 583 ﻫ، فدخله مكبرا مع المسلمين، فطهره من قاذورات الصليبيين، وأعاده كما كان في عهده السابق، ثم ظل المسجد في ذمة المسلمين يلقى كل أنواع العناية والاهتمام من الحكام والخلفاء .

وفي عام 1917م احتلت بريطانيا القدس وقال الجنرال (اللنبي) مقولته المشهورة: " الآن انتهت الحروب الصليبية "!، لتعود القدس مرة أخرى في حكم المحتلين، ولتتوالى بعدها المؤامرات على المسجد الأقصى ليقع فريسة لليهود وليدخلوه وهم يرتجزون: "حط المشمش على التفاح دين محمد ولى وراح"!

وهكذا كان اليهود يعرفون أن سقوط القدس في أيديهم إنما هو نتيجة بعد المسلمين عن دينهم، وفي هذا البحث أحببت أن أساهم في تحديد الطرق والأسباب الموصلة إلى النصر والتمكين، وتحرير المسجد الأقصى الشريف، من كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ملتمسا ذلك من فهم علمائنا وقادتنا الأوائل، الذين أعادوا المسجد الأقصى من حكم الصليبيين، فأعادوا له قداسته وهيبته، ومن أقوال علمائنا المعاصرين أصحاب الفهم السليم، و أهل الوعي بما يخططه لنا أعداؤنا من يهود ونصارى .

أما مفاوضات الاستسلام لليهود وأوليائهم من النصارى، وقمم الخنوع بما يفرضه اليهود، والتي لن يكون فيها خير للمسلمين،قال تعالى: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

فهذا هو الطريق الصحيح إلى القدس، وهذه هي الخارطة الصادقة للوصول إلى الصلاة في المسجد الأقصى، لا ما رسمته مصالح المستعمرين فقطعت الأمة أوصالا، ولا ما رسمته عصابات اليهود المتشرذمة وقطاع الطرق من هنا وهناك لتجد لها وطنا في أرض الإسراء والمعراج .

إن العودة إلى دين الله تبارك وتعالى هو الطريق الوحيد إلى نهضة الأمة وقيامها بواجبها القيادي في الأرض، وقضية المسجد الأقصى تعتبر المنحنى الصعب الذي تمر به الأمة الإسلامية لتعود فتمارس دورها الحقيقي بين الأمم، وتأخذ بدفة قيادة البشرية لتنجو بها مما غرقت بها من أوحال الشرك والمعاصي، بسبب انحطاط القوانين والدساتير والأحكام الجاهلية، التي لا تراعي إلا ملذات وأهواء من وضعها وشرعها من الأقوياء، دون النظر إلى مصلحة سائر الشعوب الفقيرة والضعيفة في الأرض، ولو نظر المسلم إلى ما ينفق على الحروب الظالمة والملذات والشهوات والمعاصي في أنظمة الكفر القائمة والحاكمة اليوم، مع ما سخره الله من التقدم العلمي والتقني للإنسان؛ لعلم المرء كم خسرت الأمم والشعوب بتأخر الخلافة الراشدة أو الحكومة الإسلامية العادلة والقوية عن تسلم قيادة البشرية، لتسوقها من عبادة الأهواء والشهوات والملذات إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وإن الطريق إلى الأقصى لا يقف عند الأقصى فحسب، بل هو بداية الطريق إلى نشر رسالة الإسلام صافية نقية إلى جميع الناس، لا يحول دون وصولها إليهم نظام استبدادي، أو نظام دنيوي محض سمى عبادة المال والشهوة بالحرية، وجعل من الدين مسألة شخصية، ففصلها عن واقع الناس وحياتهم، وهل يصلح حال الإنسان إلا بما شرعه الله ! وهو أحكم الحاكمين، وهو اللطيف الخبير .

وفي هذا البحث بينت الطرق التي توصل المسلمين حكومات وأفراد إلى استعادة الأقصى من المعتدين، أما من أراد معرفة الفرق بين الدولة الإسلامية الراشدة وبين الدول الاستعمارية أو الأنظمة العلمانية فليتوسع بقراءة التاريخ، وليقارن بإنصاف بين صنيع المسلمين في البلاد التي حكموا فيها وبين الدول الأخرى التي حكمت للتوسع واستغلال الثروات، فإن التاريخ مليء بالمذابح والمجازر للمحتلين الصليبيين و الصهاينة قديما وحديثا.

الطرق الإيمانية لاستعادة المسجد الأقصى

فإن الله جل وعلا جعل للنصر أسبابا وجعل للهزيمة أسبابا، ومن تأمل القرآن الكريم الذي أنزله الله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين يجد فيه بياناً شافياً لعوامل النصر وأسباب التمكين في الأرض، والقضاء على العدو مهما كانت قوته، وسيجد أن هذه الأسباب ترجع إلى أمرين رئيسين هما:

-الأسباب الإيمانية.

-الأسباب العملية.

وليس أحد الطرق أو الأسباب يغني ويسد عن الآخر حتى يتحقق النصر الشرعي، وحتى تتحقق مع النصر العبودية الحقَّة التي من أجلها خلق الله الخلق: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ )[1]، فليس النصر مطلوبا لذاته عند المؤمن والمسلم؛ بل هو مطلوب ليحقق من خلاله العبودية التامة للخالق تبارك وتعالى .

يقول الله تبارك وتعالى بعد فتح مكة ممتنا على نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا )[2] .

ومتى خلت معركة المسلم مع أعدائه من هذا الأصل - وهو تحقيق العبودية لله تعالى - كانت المعركة متروكة بين الخصمين بحسب سنن الله الكونية التي أجرى عليها هذا الكون، وهو أن تكون الغلبة للأقوى ماديا أو عسكريا، ولذلك فإننا لا نعجب كيف حقق الله النصر للصحابة - رضي الله عنهم - على أعدائهم، بالرغم من قلتهم وقلة قوتهم العسكرية والمادية في مواضع كثيرة من تاريخ جهادهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بعد وفاته في عهد الخلفاء الراشدين، حيث ساروا بحسب هذه الطرق والأسباب بجانبيها الإيمانية والمادية، وحققوا فيها العبودية التي أرادها الله منهم في جهادهم، فكانت الغاية الكلية لهم هي تحقيق العبودية لله تعالى، وكان النصر لهم منَّةً من عنده تعالى .

ومن هنا يجب أن ندرك أن الأخذ بالأسباب الحسية وأن السير بحسب الطرق المادية أو العسكرية لتحقيق النصر على عدونا ليس أمرا ماديا مجردا عن الدين والإيمان؛ بل هو جزء لا يتجزأ من الأسباب الدينية والإيمانية، وهو ما سنشير إليه في مواضعه من هذا البحث - إن شاء الله تعالى -، وبما سيلحظه القارئ الأريب من ترابط وتداخل بين الطريقين، طريق الإيمان، وطريق الأعمال.

يقول الإمام - رشيد رضا - رحمه الله - : " وقد بيّن الله تعالى أسباب النصر في كتابه وأمر بها، وأهمها: إعداد ما يستطاع من القوة في كل زمن والثبات، وذكر المحاربين لله تعالى في قلوبهم عند لقاء العدو، كذكر وعده بإحدى الحسنيين وثوابه للشهداء، وبألسنتهم كالتكبير فإنه يعلي الهمة ويقوي الأمل والرجاء "[3]، قاله عندما أجاب - رحمه الله - عن سؤال حول قراءة صحيح البخاري بنية النصر على الأعداء !!.

وإن كنا في بحثنا هذا نسعى إلى التعرف على كيفية تحقيق طرق وأسباب النصر؛ فإنه لا يغيب عنا أن هناك أسبابا أخرى لتأخر النصر عن أمتنا، ولا أقول الهزيمة، فإن الأمة الإسلامية لا تعرف الهزيمة أبدا، وهي أمة منصورة بنص الكتاب والسنة، وهي في تاريخها وحضارتها منذ جاء الإسلام إليها بين نصرين: نصر جزئي، وآخر نصر تام .

فالنصر قد كتبه الله لهذه الأمة في كتابه وفي قَدَرِه، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتاريخ والواقع شاهد على ذلك ومصدق له، ففي صحيح الإمام مسلم[4] في كتاب الجهاد بَاب قَوْلِهِ  - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ :

أورد بسنده عَنْ ثَوْبَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ » .

وأورده بنحوه بسنده عَنْ الْمُغِيرَةَ بْن شُعْبَةَ وجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وجَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ و مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنهم - .

وإنما أوردت هذا الحديث عند الإمام مسلم في صحيحه ليتيقن المسلم أن تحرير المسجد الأقصى من اليهود الغاصبين لا شك أنه قريب، وأن وعد الله لا يتخلف، وأن تأخر النصر التام عن المسلمين لحكمة بالغة عند الحكيم العليم، كما قال تبارك وتعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ )[5].

وللشهيد سيد قطب - رحمه الله -  تفصيل للحِكم والأسباب في تأخر النصر التام عن الأمة الإسلامية، وسأذكر كلامه لنتلافى أسباب الهزيمة، ونستوفي طرق النصر المحقق الموعود من عند الله.

 يقول - رحمه الله -: " قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً !

وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقى عزيزا ولا غالباً، لا تبذله هنيئا رخيصاً في سبيل الله .

وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوّة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقى عزيزاً ولا غالياً، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله .

وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .

وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهى تعانى وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندا إلا الله، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .

وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوتها فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفى سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه .

كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً، ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!

وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية !

وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه ! من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية "[6].

ولأن النصر لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرية فقط، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالعوامل والأسباب الإيمانية والمعنوية التي فيها الوفاء بعهد الله، والالتزام بشرعه سبحانه وتعالى؛ فإنني سأقدم الحديث عنها في هذا البحث، والله المستعان وبه توفيقي وعليه اتكالي .

1- الإيمان بالله واليوم الآخر:

وهذا هو مدار الطرق والأسباب كلها فإنه جماع الأمر كله، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر المبين على أعدائهم، وذلك بإظهار دينهم، وإهلاك عدوهم وإن طال الزمن، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[7]، قال السُّدِّي[8] - رحمه الله -  : "لم يبعث - عز وجل - رسولًا قط إلى قوم فيقتلونه أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله - تبارك وتعالى - لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا. قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها "[9].

وقال سبحانه : ( وكان حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )[10].

وقال الله تعالى: ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )[11].

وبالإيمان الصحيح وحده ينصر الله عباده المؤمنين به حقا عليه، دون الدخول بالمعارك الطاحنة أو الخسائر الفادحة، وبالأخص إذا كانت قوة الأعداء تفوق قوة المؤمنين المادية والعسكرية، ولا يطيق المؤمنون بحسب السنن الكونية التغلب والانتصار على أعدائهم، فحينها تكون المحاربة ليس بين المؤمنين وعدوهم؛ بل إن الله تعالى يتولى هذه المعركة بجنود من عنده لا يعلمها إلا هو .

كما حدث لنوح - عليه السلام - حيث نجاه الله تعالى ومن آمن معه وهم قليل وأغرق قومه الكافرين بالطوفان، فقال تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ )[12]. وكذلك صنع الله بقوم هود حين أرسل عليهم ريحا فاستأصلهم، فقال: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ )[13].

وكما حصل لنبي الله موسى - عليه السلام - في مواضع كثير ة من جهاده، وقد نصر الله موسى وأتباعه حين فلق الله له البحر وأغرق فرعون وجنوده، فقال تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[14]. وانظر إلى قول موسى لقومه، وقد شكوا إليه إيذاء فرعون وملئه لهم، كما في قول الله تعالى: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[15].

أما نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -؛ الذين حققوا الإيمان والتوحيد، بالرغم من كل ما نالهم من أذى واضطهاد وحصار وتجويع وتهجير، ولم يثنهم ذلك عن إيمانهم ولا عن توحيدهم، حتى نصرهم الله في مواطن كثيرة، كان منها يوم بدر حيث كان عدد المشركين أضعاف عدد المؤمنين، ومعهم ما معهم من السلاح والعتاد، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)[16].

ومن تلك المعارك التي نصر الله بها الصحابة - رضي الله عنهم - ما اجتمع فيه قبائل الجزيرة بأحزابها وقواتها وخيلها، مما لا يمكنهم - بحسب السنن الكونية - التصدي له، فكان النصر من عند الله بأن جند جنوده لتقاتل معهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)[17].

ثم قال تعالى بعد أن أرسل الريح على الأحزاب وجنودا أخرى لم يرها الناس مبينا أن القوة والعزة له وحده سبحانه وتعالى فقال: (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)[18].

2- التوكل على الله تعالى:

التوكل على الله مع إعداد القوة؛ من أعظم الطرق إلى النصر؛ لقول الله تعالى: (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون)[19]. وقال سبحانه : (إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[20].

وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ؛ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْر؛ُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا »[21].

ولابد في طريق التوكل على الله تعالى من الأخذ بالأسباب الكونية المشروعة؛ لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين:-

الأول: الاعتماد على الله والثقة بوعده ونصره تعالى .

الثاني: الأخذ بالأسباب المشروعة؛ ولهذا قال الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) .

وعن أنس - رضي الله عنه -: « قَالَ رَجُلٌ:  يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ »[22].

فطريق التوكل على الله لا يتعارض أبدا مع طريق أخذ العبد بالأسباب العملية والعسكرية، بل هو من تمام التوكل على الله تعالى، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في أكثر من موضع مبينا ارتباط الأخذ بالأسباب بالعقل والإيمان: " فَالالْتِفَاتُ إلَى الأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالإِعْرَاضُ عَنْ الأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ؛ بَلْ الْعَبْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ وَدُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَرَغْبَتُهُ إلَى اللهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَاَللهُ يُقَدِّرُ لَهُ مِنْ الأَسْبَابِ - مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِهِمْ - مَا شَاءَ "[23].

3 - الدعاء والتضرع إلى الله تعالى:

من أعظم وأقوى الطرق إلى النصر الاستغاثة بالله؛ لأنه القوي القادر على هزيمة أعدائه ونصر أوليائه، وقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ)[24].

ولهذا كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يدعو ربه في معاركه ويستغيث به، فينصره ويمده بجنوده، ومن ذلك ما قصه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: " لَماَّ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ [25]. وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله في جميع معاركه ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : « اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ [مُجْرِيَ السَّحَابِ] [وَهَازِمَ الأَحْزَابِ] اهْزِمْ الأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ، [وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ]»[26] .

ولعلي أجمع - إن شاء الله تعالى - في كتاب مستقل كل ما ورد وثبت عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعن الأنبياء والعلماء والمجاهدين من الدعاء والابتهال إلى الله تبارك وتعالى في سؤاله النصر على الأعداء ما يصلح أن يكون وِرْداً، فيقرأه المجاهد قبل المعركة، وفي أثناء المعركة .

4 - كثرة ذكر الله تعالى:

كتلاوة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والتوحيد، وقد أمر الله بكثرة الذكر له عند لقاء العدو، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ)[27].

وذكر الله في المعركة ينبه المجاهد في سبيل الله إلى الغاية التي من أجلها يقاتل عدوه، فهو لا يقاتل حمية ولا عصبية ولا قومية، وإنما يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا .

ومن فوائد ذكر الله في المعركة كذلك أنه السبيل إلى تحصيل اليقين وطمأنة القلوب، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[28]؛ ولذا فقد أمر الله تعالى بذكره، بل وبالإكثار منه خاصة عند التحام الصفين .

وقد ورد في فضائل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة، كما جاءت الآيات الكريمة بفضل الذكر والذاكرين، فقال تعالى: (وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ)[29]، وقال تعالى : (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[30]، وقال تعالى: ﴿ إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[31]، وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)[32].

فتأمل هذه الآيات؛ وكيف أن الله قيد الذكر الذي يترتب عليه النصر والتأييد بالكثير !.

وفي معارك الأمة الإسلامية التي خاضتها ضد العدو الصهيوني في الزمن المعاصر نجد أن الجنود عندما كانت المغنيات والأغاني هي الرفيق الأول لهم في المعركة، وهي الذكر الذي يسلون به أنفسهم، خاصة في حرب 1967م، عبر الإذاعات والتلفاز، فكانت الهزيمة، مع أن القوات العربية كانت أكثر عددا وعتادا[33] ! في حين أننا نجد النصر كان حليفا للجنود المصريين، وهم يكبرون بأعلى أصواتهم[34]، وهم يخترقون الحواجز عبر خط بارليف، فيرعبون الجنود الإسرائيليين عام 1973م.

5- الإخلاص لله تعالى:  

فهو شرط صحة جميع الأعمال، ولا يقبل الله عملا إلا بالإخلاص، فالمجاهد المنصور بالله هو الذي لم يخرج لطلب منصب ولا غنيمة و لا رياء و لا فخرا وإنما جاهد لوجه الله تعالى، يريد رضوان الله وفضله عليه، قال الله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ...)[35].

وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)))[36].

وعن أَبُي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ - رضي الله عنه - : « أَنَّ رَجُلا أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ؛ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ أَعْلَى فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ »[37] . وقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أن أوَّل من يُقضى عليه يوم القيامة ثلاثة، وذكر منهم من قاتل ليقال: هو جريء - أي شجاع - [38].

ومن خرج للجهاد وهو يبتغي وجه الله؛ فإنه يقبل ويرضى بأي موضع يؤمر به، ولا يعارض أو يخالف، فهمته منصبة في تقديم النصيحة، والمصلحة العامة للمسلمين، كما في الحديث الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رضي، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ في الْحِرَاسَةِ كَانَ في الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ في السَّاقَةِ[39] كَانَ في السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ»[40] .

قال ابن حجر  - رحمه الله - : " فِيهِ تَرْكُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالشُّهْرَةِ وَفَضْلُ الْخُمُولِ وَالتَّوَاضُعِ"[41].

وعن مصعب بن سعد قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا؛ بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ »[42]، لأنهم لضعفهم وقلة الأسباب لديهم لا يتعلقون بسبب إلا بالخالق وتعالى .

6- الرغبة فيما عند الله تعالى :

 مما يعين المسلم في طريق النصر على الأعداء الطمع في فضل الله؛ والرغبة بما أعده للمجاهدين والشهداء، وبهذا سار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده، فرغبوا بما عند الله من جنات، واشتاقوا لما أعده الله للشهداء من نعيم، ومما يدل على قوة رغبتهم فيما عند الله تعالى ما فعل عُمَير بن الحمام في بدر حينما قال - عليه الصلاة والسلام - : « قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، قَالَ يَقُولُ: عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ؟!! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ! إِلا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ » [43].

والمسلم المجاهد في سبيل الله تعالى إذا رغب فيما عند الله تعالى فإنه لا يبالي بما يصيبه من جراح أو قتل أو أسر أو تعذيب أو نفيٍ رغبة في الفوز العظيم.

فلست أبالي حين أقتل مسلمًا

 

على أي جنب كان في الله مصرعي

8 - التوبة والاستغفار وتقوى الله تعالى:

من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، ولا تقبل التوبة إلا بشروط على النحو الآتي :

-الإقلاع عن جميع الذنوب وتركها.

-العزيمة على عدم العودة إليها .

-الندم على فعلها [44].

فإن كانت المعصية في حق آدمي فلها شرط رابع، وهو التحلل من صاحب ذلك الحق، والتوبة لا تنفع عند الغرغرة أو بعد طلوع الشمس من مغربها.

وهذا شأن المؤمن فإنه دائم الاعتراف بالذنب والتقصير في جنب الله، ولا يزكي نفسه على الله، وإنما يرجع بما أصابه دائما إلى تقصيره في حق الله وإسرافه في أمره، لذا فإن الصحابة لما حصل لهم ما حصل في غزوة أحد لم يعاتبوا الله أو يعترضوا على قضائه بل سارعوا إلى الاستغفار ، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[45].

" أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله، ولا بَدَر منهم تذمّر، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، أو لعلَّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثُمّ سألوه النصر وأسبابه ثانياً فقالوا: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) فلم يصُدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النَّصر.

وعندما رأى القائد نور الدين زنكي - رحمه الله - أن الفساد قد استفحل في الأمة، وأن الخمور قد انتشرت، وأن الزنا قد فشا، كما يصف المؤرخ أبو شامة - رحمه الله - في كتاب ( الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية )، فيقول عن هذا القائد الفذ الذي قد ينساه الكثير من المسلمين، وهو الذي قد شق الطريق للقائد صلاح الدين الأيوبي، فأكمل مسيرته من بعده، يقول عنه وعن حال الأمة آنذاك: " وعلى الحقيقة فهو الذي جدد للموك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك؛ فإنهم كانوا قبله كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا حتى جاء الله بدولته فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه، وألزم بذلك أتباعه وذويه، فاقتدى به غيره منهم"[46]. فكان من جملة أعمالهما المباركة أن وجَّها جهودهما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة أسباب الفساد، فأغلقت الحانات، ومنعت شرب الخمور، وعوقب المخالفون، وطُهِّر المجتمع الإسلامي من الإعلان بالحرب على الله عز وجل من خلال المجاهرة بالمعاصي، ولا يمكن أن تتوجه الأمة إلى لقاء عدوها وهي مثقلة من آثار هذه المعاصي.

ومما لا شك فيه أن المعصية في أفراد الأمة وبالأخص في صفوف الجند من أعظم أسباب الفشل والهزيمة، وهو أمر مشاهد وملموس في تاريخ الأمة الإسلامية وجهادها في القديم والحديث .

10 - محبة الله تعالى ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - :

وإذا وجدت محبة الله في قلوب أفراد الأمة، تحملت حينها الأمة همَّ هذا الدين، ونصرته بكل ما أوتيت من قوة ومن إمكانات، وسلكت في سبيل ذلك كل طريق سهل أو وعر، وأحبت تكاليف الله ونفذت أوامره، عن حب ورضا واستسلام وانقياد، ومن ذلك جهاد أعداء الله .

وطريق تحقيق هذه المحبة يكون بأداء جميع الفرائض، وإتباعها بالنوافل؛ لأن محبة الله لعبده تحصل بذلك، فإذا أحبه الله نصره ووفقه، وسدده وأعانه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ عَادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عبدي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سألني لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شيء أَنَا فَاعِلُهُ ترددي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ »[47].

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[48] ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[49]. فبين تبارك وتعالى أن من الطرق الصحيحة إلى المحبة الصادقة له الجهاد في سبيله، وأن هؤلاء المجاهدون هم أولياء الله حقا، وهم حزبه، وكيف بمن كان من حزب الله حقا، وكان من أحباب الله فعلا، كيف يمكن له أن يهزم أو يخسر! كلا والله لا يهزم ولا يخسر؛ بل هو الغالب والمنتصر .

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : " لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى .. فتنوع المُدَّعون في الشهود .. فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[50] فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار "[51].

13 - الصبر والمصابرة :

لابد من الصبر في جميع الأمور، في أمور الدين والدنيا، فلا طريق إلى النجاح في أمر من الأمور أو عمل من الأعمال إلا بالصبر، ولا سيما الصبر على قتال أعداء الله ورسوله .

دنوت للمجد والسَّاعون قد بلغوا

 

جهد النُّفوس وشدُّوا دونه الأزرا

وساوروا المجد حتَّى ملَّ أكثرهم

 

وعانق المجد من وفّي ومن صبرا

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله

 

لن تبلغ المجد حتَّى تلعق الصَّبرا

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[52].

وقال سبحانه وتعالى : (وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[53]، فالصبر مطلوب في طاعة الله ورسوله، وفي قتال الكفار، وفي اتحاد كلمة المجاهدين.

وقد يواجه المسلم في جهاده وقتاله الأعداء عدوا صابرا، يصبر على قتاله كما يصبر هو على قتاله، فحينها يحتاج المسلم إلى المصابرة، ويجب عليه ذلك، "وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس، وأقربه إلى التزلزل، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر، لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قِرنُه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً .

 كما قال زُفر بن الحارث[54] في اعتذاره عن الانهزام:

سَقَيْنَاهُم كَأساً سقَوْنا بِمِثْلِها

 

ولكنَّهم كانوا على الموت أَصْبَرا

فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب "[55].

وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه وحوارييهم الذين جاهدوا في سبيله فنالهم الأذى من عدوهم والقتل، ولكنهم لم يخضعوا أو يذلوا لعدو الله وإنما صبروا واحتسبوا ولجئوا إلى الله، فأعطاهم الله النصر والظفر والعاقبة في الدنيا والأجر العظيم الحسن في الآخرة، "ولا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء، أجدر بالعزم من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -"[56]، قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[57] .

16 - ترسيخ عقيدة  الولاء والبراء :

إن من أهم الطرق التي يجب أن تربى عليها الأمة، صغيرها وكبيرها ويُغرس في ضمائرها، ويُنشأ عليه الأجيال القادمة، هو عقيدة ( الولاء والبراء ) أو ( الموالاة والمعاداة )، هذه العقيدة التي هي أصل الإيمان بالله تعالى وأساسه، حتى سميت سورة كاملة باسم ( براءة ) وهي سورة التوبة، وقد افتتحت بالبراءة من المشركين، وأنها من أهم عوامل التمكين والغلبة للمؤمنين على الكافرين، كما أن الإخلال بها يؤدي إلى هزيمة الأمة وتأخر النصر عنها . والولاية: هي النصرة والمحبة والاحترام و الإكرام والكون مع المحبوبين ظاهرا وباطنا، و البراءة: هي البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار.[58]

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "  فَاتِّبَاعُ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرِيعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا هِيَ مُوجِبُ مَحَبَّةِ اللهِ، كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ وَمُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةَ أَعْدَائِهِ هُوَ حَقِيقَتُهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: « أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ[59] » "[60].

ولقد بين الله في كتابه العزيز هذه العقيدة في مواضع كثيرة وبين لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن يكون ولاء المؤمن وممن تكون براءته، قال الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[61].

قال ابن كثير - رحمه الله - : " فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)"[62]، فمن كانت ولايته ومحبته لله ولرسوله وللمؤمنين فهو الأحق بالنصر والغلبة والتمكين .

وقد نفى الله تعالى الإيمان عن أقوام يجعلون محبتهم لمن خالف دينه القويم ولو كانون من أقرب الأقربين، فقال تعالى في سورة المجادلة : (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[63] . ويلاحظ في آية المائدة وآية المجادلة كيف وصف الله تعالى هؤلاء الذين حققوا الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، حيث وصفهم بأنهم (حِزْبُ اللهِ)، مما يدل على أهمية هذه العقيدة في ترابط وتماسك الجماعة المسلمة وتناصرها في مواجهة أعدائها .

ولولاية المؤمن لله تعالى صور منها: محبة ونصرة كتابه الحكيم ودينه القويم، بتعلمه ونشره وحفظه والذب عنه من التحريف والتزييف ورد شبهات المبطلين وتعظيمه، أما الولاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكون بمحبته - أيضا - وطاعته ونصر سنته والذب عنها ومحاربة البدع وأهلها، وأما ولاية المؤمن للمؤمنين الذين هم أساس الموالاة ولبها فيكون بمحبتهم ومودتهم، والمحافظة على حرماتهم، وخفض الجناح واللين لهم، وإكرامهم ورحمتهم ومواساتهم بالمال والقول والعمل، ومن أهم صور الموالاة بين المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما وصفهم الله تبارك وتعالى في سورة براءة فقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[64].

والناظر في تاريخ الأمة وواقعها المعاصر يعلم يقينا الضرر اللاحق بالمسلمين جراء اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين، فإن من أعظم أسباب سقوط القدس عام 626ﻫ بأيدي الصليبين بعد استعادة صلاح الدين لها في عام 583ﻫ، ما قام به الملك ( الكامل ) من التحالف مع الصليبيين، في مقابل تسليمهم القدس والناصرة وبقاء مصر في يد ( الكامل )[65]، ثم استطاع الملك ( الناصر داود ) الذي كان يحكم الأردن استعادة القدس مرة أخرى من الصليبيين في عام 637ﻫ بمناصرة الخوارزميين، ولكن لم تلبث إلا أن عادت القدس إلى الصليبيين، والسبب هو أيضا تحالف الملك ( الصالح إسماعيل ) حاكم دمشق آنذاك ضد الأيوبيين، فقام بتسليم القدس عام 641ﻫ لأجل كسب ولاء النصارى، ومن أجل قتالهم معه  الملك ( الصالح أيوب ) بمصر[66]! إلى أن استعان الملك ( الصالح أيوب ) بالخوارزميين مرة أخرى فاستعاد بيت المقدس من الصليبيين[67]، لتبقى القدس بعد ذلك في حكم المسلمين طيلة حكم الخلافة العثمانية، إلى أن دخلها الإنجليز عام 1917م .

وأوصي في سياق ترسيخ هذا المبدأ الإسلامي والعقيدة الثابتة بدعم وتأييد ونصرة الحركات الإسلامية التي تعمل في الساحة الفلسطينية في كل الميادين الدعوية والاجتماعية والصحية والتنموية الاقتصادية والمشاريع الإنتاجية، من أجل تحرير الأقصى، ومناصرتهم سياسيا وإعلاميا وماديا، واستثمار الطاقات وتسخيرها وكفالة الأيتام والأرامل، وأسر الشهداء، ودعم الأسر التي قامت قوات العدو بهدمها وإزالتها، ومساعدة من قام القوات الإسرائيلية بإزالة أشجار مزرعته، ودعم حلقات العلم في المسجد الأقصى والدورات الشرعية لإعادة الحركة العلمية إليه من المجاورين للمسجد الأقصى .

وفي العدد القادم نكمل مع الأخوة القراء بمشيئة الله تعالى الفصل الثاني في الطرق العملية لاستعادة المسجد الأقصى .

العدد الخامس – مجلة بيت المقدس للدراسات 



[1]  الذاريات: 56 .

[2] النصر: 1 ، 2 .

[3] مجلة لمنار: 17/111 .                                                                        

[4] انظر هذه الأحاديث في صحيح مسلم بالأرقام من: 4927 إلى: 4935 .

[5] آل عمران: 140 - 142.

[6] في ظلال القرآن: 4/2426-2427.

[7] غافر: 51 - 52 .

[8] الإمام المفسر أحد موالي قريش، تابعي، حجازي الأصل، سكن الكوفة، صاحب التفسير والمغازي والسير، وكان إمامًا عارفًا بالوقائع وأيام الناس حدث عن أنس بن مالك، وابن عباس، قال عنه الإمام أحمد : ثقة، مات إسماعيل السدي في سنة 227ﻫ.. سير أعلام النبلاء: 5/265، الأعلام للزركلي: 1/317 .

[9] تفسير ابن كثير: 7/150.

[10] الروم: 47.

[11] النور: 55.

[12] الأعراف: 64.

[13] الأعراف: 72.

[14] الشعراء: 63 - 68.

[15] الأعراف: 129.

[16] آل عمران: 123 - 124.

[17] الأحزاب: 9، 10.

[18] الأحزاب: 25 - 26.

[19] المائدة: 11.

[20] آل عمران: 160.

[21] الترمذي: كتاب الزهد، باب في التوكل على الله برقم: 2344، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب التوكل واليقين برقم: 4164 ( 2/419 ) ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم: 1911 ( 2/274 ).

[22] الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب حديث اعقلها وتوكل، برقم: 2517، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم: 2044 ( 2/309 ) .

[23] مجموع الفتاوى: 1/131.

[24] الأنفال: 9.

[25] البخاري: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) برقم: 3953، ومسلم: كتاب المغازي، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، برقم: 4563، واللفظ له .

[26] مسلم: كتاب المغازي، باب كراهة تمني لقاء  العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، وباب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو، برقم: 4517، 4518، 4519، 4520، ومابين المعقوفتين من مجموع الروايات الواردة على قاعدة جمع المفترق

[27] الأنفال: 45.

[28] الرعد: 28.

[29] العنكبوت: 45.

[30] الحج: 40.

[31] الشعراء: 227.

[32] الأحزاب: 21 .

[33] فلسطين.. التاريخ المصور: 298 - 299.

[34] فلسطين.. التاريخ المصور: 314.

[35] الأنفال: 47 .

[36] العنكبوت: 69 .

[37] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي الْعُلْيَا) برقم: 2810، ومسلم: كتاب الجهاد، باب (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) برقم: 4896، واللفظ له .

[38] مسلم: كتاب الجهاد، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم: 4900.

[39] هم الذين يكونون في آخر العسكر يحمونه ويحفظونه، وكانوا يقَسِّمون الجيش إلى خمسة أقسام: المُقَدّمة والسَّاقة والميْمنَة والمَيْسرة والقَلْب، انظر شح صحيح مسلم للنووي:6/346، النهاية في غريب الحديث: 2/1036.

[40] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الْحِرَاسَةِ في الْغَزْوِ في سَبِيلِ اللَّهِ: 2887.

[41] فتح الباري: 6/105.

[42] النسائي: في كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف، برقم: 3178.

[43] مسلم: كتاب الجهاد، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم: 4892.

[44] انظر: في بيان هذه الشروط رياض الصالحين: 5.

[45]  آل عمران: 146 - 148.

[46] الروضتين في أخبار الدولتين: 6.

[47] البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم: 6502.

[48] المائدة: 54.

[49] المائدة: 56.

[50] التوبة: 111.

[51] مدارج السالكين: 3/8 - 9، وبنحو العبارة في زاد المعاد: 3/73.

[52] آل عمران: 200.

[53] الأنفال:  4.

[54] سمع عائشة ومعاوية - رضي الله عنهما -، وسكن البصرة وانتقل إلى الشام بعد الجمل، وكان في جيش البصرة الذي خرج لإعانة عثمان في الحصر، وشهد صفين أميراً على أهل قنسرين وهم في الميمنة، وشهد وقعة مرج راهط، وهو من رجال الصحيحين، وكانت وفاته في 75ﻫ. تهذيب الكمال: 27/416، الوافي بالوفيات: 14/134.

[55] التحرير والتنوير: 3/4/208.

[56] التحرير والتنوير: 3/4/118.

[57] آل عمران: 146-148.                                    

[58] انظر: الولاء والبراء في الإسلام: 90.

[59] بنحوه عند أحمد: 18/181، وحسنه الأرناؤوط، والطبراني في الكبير: 11537 (11/215)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم:1728 (4/306).

[60] مجموع الفتاوى: 10/82.

[61] المائدة: 55 - 57.

[62] تفسير ابن كثير: 1/138.

[63] المجادلة: 22.

[64] التوبة: 71.

[65] انظر: البداية والنهاية: 13/144، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 6/271، الكامل: 9/378.

[66] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 6/322.

[67] انظر: الأنس الجليل بتاريخ القدس والجليل : 1/553 - 557، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 6/246 .

.