دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

حقيقة المؤرخين الجدد

لجنة البحث العلمي في مركز بيت المقدس

 

المقدمة:

        المؤرخون الجدد أو ما يطلق عليهم "حركة المؤرخين الإسرائيليين الجدد"، حركة عملت وما زالت تعمل على إماطت اللثام عن كثير من أكاذيب اليهود التي ترادفت مع قيام الكيان اليهودي على أرض فلسطين، على ضوء الوثائق التي أفرج عنها الكيان اليهودي بعد مضي عشرات السنيين.

       وقد كثر الحديث على "المؤرخون الجدد" داخل وخارج الكيان اليهودي، ما بين مؤيد لأعمالهم وما بين مشكك في نواياهم وانتماءاتهم، وآخرون فضلوا التزام الصمت ووقفوا على الحياد حتى يستبين أمرهم !!.

       وهذه الصفحات إضاءات سطّرتها لعلها تلقي الضوء على جوانب متعددة في حقيقة "المؤرخون الجدد"، للكثير من التساؤلات حولهم أهمها:

  • من هم المؤرخون الجدد ؟ وما هي توجهاتهم ؟ وما هي أطروحاتهم وأيدلوجياتهم ؟!
  • وهل هم ـ حقاً ـ منصفون أرادوا أن يعيدوا صياغة الأحداث بصورتها الصحيحة ؟!
  • وهل هم ـ فعلاً ـ منتقدون لسياسة الكيان اليهودي، وهل كتبوا بحق لدحض الأكاذيب ؟!
  • وهل هم عاملون لمناصرة العرب وأهل فلسطين وذكر الحقائق لخدمة قضيتهم ؟
  • أم أنهم ممهدون للتسوية السلمية بنظرة جديدة ولباس جديد ؟!

      كل هذه الأمور تدفعنا للبحث في ماهية تلك الحركة وأهدافها وأبعاد أطروحتها.

 "المؤرخون الجدد"

 من هم " المؤرخون الجدد " ؟

       هم مجموعة من المؤرخين اليهود الداعين إلى مراجعة تاريخ الصراع العربي- الصهيوني على ضوء الوثائق التي أفرج عنها الكيان اليهودي - بعد مضي ثلاثين سنة- وهذه الحركة تحاول إعادة النظر في الروايات التي ترادفت مع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، من خلال مراجعة الصيغة التاريخية الرسمية، وتنقيتها من الأكاذيب ومن حيل الحرب النفسية التي تحولت إلى مسلمات في الطرح الصهيوني!! .

متى ظهر " المؤرخون الجدد ":

      يحدد تأريخ ظهور ما يطلق عليهم " المؤرخون الجدد " في نهاية السبعينيات، وترى بعض المصادر -كموسوعة اليهود واليهودية وغيرها- بأنهم أخذوا في الظهور منذ بداية الثمانينيات، ويرى البعض أن "المؤرخون الجدد" لهم جذور تسبق تاريخ ظهورهم في الثمانينات، ويحدد البعض تاريخ ظهورهم بظهور كتاباتهم وآرائهم عبر الصحف والمحاضرات والمؤلفات.

        وكان هذا الظهور في الأوساط الأكاديمية عبر نوع جديد من الكتابات التاريخية، ولهذا اعتبر ظهورهم في الثمانينيات مع ظهور كتاباتهم وصياغتهم للوقائع بطرق مغايرة لما اعتاد عليه المجتمع اليهودي.

 أشهر المؤرخين الجدد ":

     يعتبر بني موريس نفسه مؤسس حركة "المؤرخون الجدد" ، وهو من المؤرخين المعروفين وأستاذ التاريخ في "جامعة بن غوريون" ، وكذلك "يوسي بيلين"  واسرائيل شاحاك و" ايلان بابيه " و "زئيف ستيل نهيل" و "موشي سميش" و "سيمحا فلابان"  و"بار يوسف"  وأروي رام وسامي سموحا وباروخ كيفرلنج وتامار كارتيال وسارا كازير وجيرسون شافير وبارون ازراحي وشلومو سويرسكي وتوم سيجيف ويناثان شابيترو يورين بن اليعازر وباجيل وايلا شوحات وآفي شلايم وايلان باي وغيرهم.

 مسميات مختلفة لمعنى واحد:

     وحركة "المؤرخون الجدد" يطلق عليهم أحياناً مدرسة "التاريخ الإسرائيلي الجديد"" ، ويطلق عليهم أيضاً مصطلح "ما بعد الصهيونية"، وكل ذلك يشير إلى مجموعة من المؤرخين والأكاديميين والكتاب والمثقفين وعلماء الاجتماع الانتقادين الذين أخذوا وبدأوا في مراجعة الرواية الأكاديمية اليهودية للصراع "العربي – اليهودي الصهيوني"، وعلى وجه الخصوص حرب 1948م التي جرى صياغتها في السابق ضمن إطار يهودي صهيوني يعيد ترتيب الوقائع، بما يخدم الوجود اليهودي على أرض فلسطين.

 المبادئ التي اعتمدها " المؤرخون الجدد " في صياغتهم للتأريخ:

     يرى هؤلاء المؤرخون أن التاريخ الرسمي للدولة اليهودية قد عمد إلى تقديم تفسير سطحي ومتحيز للأحداث التي واكبت قيامها وحذف كل ما يمكن أن يعطي صورة سلبية لها، وذلك لسببين أساسيين:

أولهما: أن الذين كتبوا هذا التاريخ لم يكونا مؤرخين بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل كانوا مسجلين للأحداث ولم يكونوا من المحايدين في رواياتهم.

وثانيها: أن وجهة نظر الكيان اليهودي الرسمية كانت ترى في كتابة التاريخ بهذا الشكل أمراً ضرورياً نظراً لأن استمرار الصراع العربي الصهيوني كان يهتم برسم صورة إيجابية للدولة العبرية، لأن إبراز أخطائها من شأنه أن يضعف موقفها السياسي في صراعها على البقاء.

     أما الآن فيعتقد المؤرخون الجدد أن الكيان اليهودي قد اكتسب نضجاً يجعله في غنى عن الأساطير التاريخية التي عاش فيها، والتعرف على جذور الصراع العربي الصهيوني مما قد يسهم في التعرف على أفضل الحلول له، في ظل المسيرة السلمية، وما بعد أوسلو على وجه الخصوص.

 انتماءات المؤرخون الجدد:

      حركة "المؤرخون الجدد" تبنت التكليف من حزب العمل للتمهيد للتسوية السلمية على أن يبدأ ذلك بالتمهيد لنشر حقيقة استحالة استمرار العداء الإسرائيلي للعرب على المستوى الذي كان عليه منذ عام 1948 م وحتى اليوم.

       ومشروع المؤرخون الجدد انطلق برعاية " إسحاق رابين" الذي يبدو وكأنه الراعي الأساسي للمؤرخين الجدد ليتماشى مع مشروع " الشرق أوسطية " الذي طرحه رابين تحت شعار " نحو شرق أوسط جديد "، الذي يتماشى مع استبدال "إسرائيل الكبرى" "بإسرائيل العظمى".

       ويعتبر "يوسي بيلين" -وهو أحد مفكري حزب العمل ومنظريه- من المتحمسين لإدخال أفكار المؤرخين الجدد إلى المدارس في الكيان اليهودي "غير الدينية" وتدريسها للطلاب، وقد تسلم منصب وزير العدل في حكومة باراك ، وهو من مهندسي اتفاق أوسلو.

     وأصدر وزير التعليم في الكيان اليهودي "يوسي ساريد" تعليماته لإدخال أفكار هؤلاء المؤرخين إلى المدارس وتدريسها للتلاميذ، وهذا مما أعطى الحركة تأييد سياسي على مستوى عالي، يؤهلها للاستمرار ولإدخال أفكارها إلى عقول تلامذة المدارس وأيضاً نشر أعمالها بحرية، وتلك الدلائل تشير إلى علاقة هؤلاء المؤرخون بحزب العمل وبملكيتهم لخلفيات  " ليبرالية ".

 " طروحات " المؤرخون الجدد:

          يحاول "المؤرخون الجدد" مراجعة الصيغة التاريخية الرسمية وتنقيتها من الأكاذيب التي تحولت إلى مسلمات، ويرون كذلك أنه تم طمس الحقائق التاريخية بدون أي شعور بالمسؤولية، وخدمة للأغراض الصهيونية، وعملوا على إعادة النظر في الروايات التي ترادفت مع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

       وبدأ هذا الجيل من المؤرخين بالاهتمام بالمسألة الفلسطينية وبآثار حرب 1948م، وانعكاساتها على الفلسطينيين، فلجأوا إلى إعادة كتابة الأحداث بأسلوب جديد خارج عن الرواية السابقة التي تجنبها التاريخ اليهودي الرسمي، ويمكن تحديدها بنقاط خمس:

  • 1-الإقرار بأن اليهود قد دمروا الكثير من القرى والمدن، وقتلوا الكثير من أهل فلسطين خلال فترة قيام الكيان اليهودي، حيث الرواية الصهيونية السابقة لم تشر تماماً إلى الخسائر اللاحقة بالمدن والقرى الفلسطينية.
  • 2-الحديث عن طرد السكان من قراهم ومنازلهم وتدميرها بعد ذلك.
  • 3-نقض رواية أن نزوح الفلسطينيين حصل بسبب نداء من القادة العرب الذين طلبوا فيه من الفلسطينيين مغادرة أرضهم بصورة مؤقتة تسهيلاً لدخول الجيوش العربية.
  • 4-ومراجعة المقولة بأن "إسرائيل" كانت مستعدة لإقامة السلام مع العرب لكن هؤلاء كانوا يرفضون الاعتراف بها.
  • 5-وإعادة النظر في مقولة أن اليهود حققوا المعجزة التاريخية بانتصارهم على العرب في حرب 48م.

        وهكذا توصل المؤرخون إلى الطعن بالرواية الرسمية واتفقوا على كونها مركبة من مجموعة مقولات أو ادعاءات باطلة أو غير دقيقة على الأقل، واتفقوا على تسميتها بـ " الأساطير الصهيونية " كون الصهيونية نجحت في ربط كل كذبة من أكاذيبها بواحدة من الأساطير اليهودية، وذلك حتى تقنع الرواية الرسمية بالمنطوق التاريخي الموحد بأن الصهيونية قد حققت معجزة إقامة "دولة إسرائيل" .

        " يقول بني موريس أحد ابرز المؤرخين الإسرائيليين الجدد – الذي يعرف نفسه بأنه صهيوني – وهو معروف بين زملائه بأنه الأقل اهتماماً بالسياسة – وهو باحث ومراسل ميداني وصحفي، أن مهمته تتمثل بعرض المعلومات ويترك للقارئ استخلاص النتائج فهو يقول مثلاً: "نحن الإسرائيليين كنا طيبين، لكننا قمنا بأفعال مشينة وبشعة كبيرة، كنا أبرياء لكننا نشرنا الكثير من الأكاذيب وإنصاف الحقائق، التي أقنعنا أنفسنا وأقنعنا العالم بها، نحن الذين ولدنا لاحقاً بعد إنشاء الدولة – عرفنا كل الحقائق الآن – بعد أن عرض علينا زعماءنا الجوانب الإيجابية فقط من تاريخ " إسرائيل " لكن للأسف كان ثمة فصول سوداء لم نسمع شيئاً عنها ، لقد كذبوا علينا عندما أخبرونا أن عرب اللد والرملة طلبوا مغادرة بيوتهم بمحض إرادتهم، وكذبوا علينا عندما أبلغونا أن الدول العربية أرادت تدميرنا، وإننا كنا الوحيدين الذين نريد السلام طوال الوقت، وكذبوا عندما قالوا: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض "، وكذبة الأكاذيب التي سموها الاستقلال – ويضيف بني موريس " لقد حان وقت معرفة الحقيقة، كل الحقيقة، وهذه مهمة ملقاة على عاتقنا نحن المؤرخين الجدد".

      فقد أقر "المؤرخون الجدد" ببطلان المبررات التي ساقتها الحركة الصهيونية في رفضها الاعتراف بارتكاب أية أخطاء في حق الشعب الفلسطيني والتي كان من أهمها "إنها لم تكن تريد طرد الفلسطينيين، بل كانت تريد العيش معهم في سلام، ولكن هم الذين رفضوا قرار التقسيم، وهم الذين شنوا الحرب على اليهود بغرض القضاء عليهم، وهم الذين تركوا ديارهم طواعية ليتركوا الفرصة لتدخل الجيوش العربية لقتال اليهود.

     وأعادوا بذلك النظر في الدعاية الذي ظل يروج لها الإعلام اليهودي لعقود طويلة وهي أن "إسرائيل" لا ذنب لها في هذه المشكلة لأن الفلسطينيين هم اللذين تركوا ديارهم بكامل إرادتهم.

         والمؤرخون الجدد الآن تنصب بحوثهم على إثبات أن المنظمات العسكرية الصهيونية التي شكلت جيش الكيان اليهودي قبيل الحرب، انخرطت في برنامج تهجير واع للفلسطينيين يستهدف طردهم من فلسطين انسجاماً مع الفكرة الصهيونية الأساسية حول الترانسفير بضرورة إخلاء الأرض للمهاجرين اليهود وعدم إمكانية وجود شعبين في البقعة ذاتها.

          وهذا الطرح "للمؤرخون الجدد" – المتفاوت من مؤرخ لأخر – يناقض الرواية اليهودية الرسمية التي تنص على أن الفلسطينيين هاجروا بمحض إرادتهم، نزولاً عند طلب الحكومات العربية لهم كي يخلوا المناطق التي ستتعرض للعمليات الحربية العربية التي ستقضي على "الجيش الإسرائيلي" .

       ورسم المؤرخون الجدد صورة أكثر واقعية تقترب إلى حد ما من الرواية الفلسطينية لوقائع تلك الحرب، والتي تبين أن تلك المطامع الصهيونية قد تم تحقيقها على حساب السكان الفلسطينيين وأن العرب أبعدوا عن طريق الطرد.

 حقيقة المؤرخون الجدد

         بعد أن أوجدت الصهيونية كياناً مزروعاً في القلب الإسلامي، أحس قادة اليهود أن الكثير من المصطلحات والأساطير والأكاذيب بحاجة إلى إعادة صياغة لما يحقق لليهود التلون حسب المرحلة والزمن، واستحدث "المؤرخون الجدد" أسلوباً جديداً، حيث أعادوا صياغة التاريخ المعاصر والذي ترادف مع قيام الكيان اليهودي على أرض فلسطين، وانتقدوا بل دحضوا الكثير من الأساطير والأكاذيب، لمتطلبات المرحلة القادمة من الانفتاح على العرب وأسواقهم تحت مسمى " شرق أوسطية جديد ".

       وفجرت كتاباتهم الكثير من الجدل في الأوساط الصهيونية ... بسبب ما قام به هؤلاء المؤرخون من مراجعات للتاريخ الرسمي للدول العبرية، ولا سيما لمرحلة تأسيسها، وكشف حجم العنف والمجازر التي رافقت قيام هذه الدولة، كما كشفت أيضاً عند الرفض المستمر لقيادتها لمحاولات السلام مع العرب، إذ كان ذلك جدير بأن يحد من توسعتها على حسابهم.

    وحتى اليوم لا تتعدى حركة المؤرخين الجدد كونها مجموعة من الأكاديميين الذين يجرون بحوثاً للتحقق من بعض الملابسات والتفاصيل المتعلقة بالصراع العرب الصهيوني منذ تأسيس الكيان اليهودي وحتى اليوم.

       ويرى هؤلاء المؤرخون أن ولاة الحركة الصهيونية كانت ردة فعل على الاضطهاد الذي تعرض له اليهود، وجاءت إسرائيل لتكون حلاً ولو جزئياً لمشكلة يهود الشتات.

       لهذا فأول ما تهدف إليه هذه الحركة تبرئة اليهودية من الصهيونية التي لم تعد مؤامراتها وأساطيرها قادرة على الصمود طويلاً مع ظهور وثائق ومستندات جديدة تدينها بصورة مستمرة ولذلك كان ميل الحركة لتبني شعار "ما بعد الصهيونية"، وذلك لتأمين استمرارية الكيان اليهودي، وإزالة قسم بسيط من العداء المتراكم ضدهم نتيجة لخضوعهم لإيحاءات الإرهاب الصهيوني ومشاركتهم فيه.

      فالأوساط النخبوية لا تجد بأساً من تقديم اعترافات مر عليها الزمن ولم تعد تستوجب العقوبة، فالكيان اليهودي أصبح بحكم الواقع دولة موجودة وقوية ومتفوقة ويبقى إيجاد الصيغة المناسبة لاستمراريتها.

 والمؤرخون الجدد و" ما بعد الصهيونية  ":

       ويرى البعض أن ما بعد الصهيونية معادية للصهيونية وأنها تعيد النظر في كل المقولات الصهيونية الأساسية، بينما يؤكد البعض الآخر أن ما بعد الصهيونية إنما هي امتداد للصهيونية. ويصف بعض دعاة "ما بعد الصهيونية"  أنفسهم مثل ( موريس ) أنه صهيوني يقوم بعمل يخدم به "إسرائيل" من خلال البحث عن الحقيقة التاريخية، بل يرى بعض هؤلاء أن ما بعد الصهيونية هي تحقيق للصهيونية، وأن السلام مع العرب هو الثمرة الطبيعية للإنجاز الصهيوني.

       وكما يقول "بني موريس": "إن الكشف عن أعمال الطرد ومجازر ضد العرب في سنة 1948 م، وأعمال إسرائيل على امتداد الحدود في الخمسينيات، وعدم استعداد إسرائيل للقيام بتنازلات من أجل السلام مع دول عربية (الأردن وسوريا) بعد سنة 1948، ليس " دعاية معادية للصهيونية "، وإنما هو إضاءة لجانب من مسارات تاريخية مهمة، عتمت عليه عمداً طوال عشر سنوات من الأعوام "المؤسسة الإسرائيلية" بمن في ذلك الباحثون والصحافة – خدمة للحكومة وللأيديولوجيا السائدة ".

      وبني موريس كما هو معروف بموضوعيته وبقراءاته المتجردة للتاريخ، إلا أن كتاباته لا تخلو من حس يهودي "حيث أنه يحمل إسرائيل مسئولية تهجير الفلسطينيين، ولكنه لا يعتبر أن ذلك حصل وفق خطة مدروسة وموضوعة مسبقاً ويصر موريس على أن هذا التهجير قد حصل بصورة عشوائية بل وبدعم من زعماء محليين!!.

       بل إن بن جوريون نفسه – في السابق -  طالب بحل المنظمة الصهيونية بعد تأسيس الدولة، فقد وصفها بأنها " التي تفقد وظيفتها بعد الانتهاء من البناء، وأن مهمة يهود العالم هي الهجرة إليها وحسب، وبإمكان الدولة الصهيونية الوصول إليهم مباشرة، دون وساطة المنظمة الصهيونية.

         وقد خرج حملة خطاب ما بعد الصهيونية على النهج الصهيوني السائد والذي يقوم على لي عنق التاريخ والواقع من أجل إرساء المزاعم والادعاءات الصهيونية.

         فتحدي "الرواية اليهودية" للأحداث أمر قام به بعض الباحثين من أمثال "إسرائيل شاحاك " من قبل بشكل منهجي شامل، أما يوري افينيري فقد أكد في أكثر من مناسبة أن الصهيونية انتهى دورها، وهناك من قال إن الصهيونية إن هي إلا حركة إنقاذ ليهود أوربا - من الكارثة المحيطة بهم - انتهى دورها مع إعلان الدولة الصهيونية.

      وقد أوكل رابين إلى لجنة من المؤرخون الجدد  ومؤيدوهم مهمة وضع كتب تنقض أساطير الصهيونية السياسية لتدريسها في المدارس، وتابعت هذه اللجنة عملها طيلة خمسة سنوات أصدرت في نهايتها مجموعة كتب منها كتاب المؤرخ الإسرائيلي الجديد "بني موريس" المعنون بـ " ضحايا الحق – تاريخ الصراع الصهيوني – العربي ( 1881 – 1999 ) والعام 1881 هو عام تأسيس أول مغتصبة صهيونية على يد يهود روس، ومع ذلك صوت الكنيست على قرار بحظر الكتاب المدرسي الجديد، الذي كان قد بدأ تدريسه قبلها بسنتين، والذي يقدم للأجيال رواية جديدة لحروب إسرائيل مع العرب.

 حقيقة المؤرخون الجدد :

  • 1-المؤرخون الجدد هم "علمانيون" يهود ، يرون أنفسهم أكثر تبصراً واستشرافاً للمستقبل، من منطلق أن مشروع الدولة " الصهيونية " قد بلغ مرحلة من الثقة بالنفس والاطمئنان على " الوجود " تقبل " ترف " إخضاع المقولات الأساسية والمقدسة في بعض الأحيان للمسائلة البحثية والأكاديمية.
  • 2-وكل الدلائل تشير إلى علاقة هؤلاء المؤرخون بحزب العمل وبملكيتهم لخلفيات ليبرالية "، تنطلق هذه الحركة من دولة يهودية وتعمل لاستمراريتها !!.
  • 3-والقضايا التي يثيرها المؤرخون الجدد لا تصل إلى حد التساؤل عن شرعية وجود الكيان اليهودي " إسرائيل " على أرض فلسطين ، ولكن ما تناقشه هو مسئولية الحركة الصهيونية من تهجير الفلسطينيين وأن الهجرة لم تكن طوعيه أو انصياعا لندوات من الحكام العرب إبان حرب 1948م للفلسطينيين بأن يغادروا أماكن القتال كما دأبت الدعاية الصهيونية على القول .
  • 4-وحركة المؤرخون هي مجرد محاولة لإنقاذ الصهيونية من تطرفها وتمهيداً لمرحلة علمنة الانتماء اليهودي الذي ينقذ إسرائيل من خطر تناقص عدد اليهود في العالم مما أثر سلباً على التركيبة الديمغرافية في فلسطين لصالح أهلها الأصليين، فطرحت المناداة لتخفيف الشروط لتعريف من هو اليهودي.
  • 5-ولم يخرج كون هؤلاء المؤرخون يهوداً يعشون على أرض مغتصبة، ويسهمون بشكل أو بآخر في استمرارية هذا الوجود على أرض فلسطين، ويعملون على أن يخضع للعقل تاريخ الكيان اليهودي منذ التأسيس، دون أن التصدى للأساطير الدينية ولخرافاتها التي أوجدت هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين.
  • 6-والجدير بالذكر أن أعضاء هذا الفريق "الصهيوني" لا ينكرون شرعية ما يسمى "القومية اليهودية" التي أدت إلى إقامة الدولة على أرض مغتصبة اسمها فلسطين، والأهم من ذلك أن الخلاصات النهائية والاكتشافات التي تنقض ما كان سائداً من معرفة لا يترتب عليها مساءلات راهنة على الصعيد السياسي.

      ولعل ما سبق يوصلنا إلى حقيقة المؤرخون الجدد الذين يمكننا وصفهم  "محاربون في إسرائيل" ، "ومن أجل إسرائيل" ، فهم يخدمون الكيان اليهودي في مرحلته الحالية.

 موقف المثقفين العرب من المؤرخون الجدد:

     تبدو للوهلة الأولى أن أعمال المؤرخين الجدد، وكأنها تناصر العرب وروياتهم، ويعتبر "المؤرخون الجدد" بأن عملهم لا يكتمل بدون قيام حركة مؤرخين عرب جدد، بما يوحي إلى الانتقال إلى مرحلة تفاهم ما بعد الصهيونية بين العرب واليهود بما يخدم المرحلة القادمة.

       ولهذا كان الموقف من المؤرخون الجدد متفاوت عند المثقفين العرب، فمنهم من أبدى الاستعداد للتعاون مع هذه الحركة، كونها أماطت اللثام عن الكثير من الأساطير اليهودية، وكشفت النقاب عن كم ضخم من الأكاذيب والافتراءات اليهودية على مر التاريخ وحتى يومنا هذا، ودعوا إلى التعاون المطلق معهم من عمل بحوث مشتركة، وإلقاء محاضرات لطلبتهم، والمشاركة في ندوات ولقاءات مشتركة، بل وإصدار مؤلفات مشتركة !!.  

        وطرف آخر من المثقفين أمثال د. محمد أحمد النابلسي حذروا من الركوب في مقطورتهم، ورفض الاستجابة للدعوة إلى التدوين المشترك ( عربي – إسرائيلي ) للتاريخ ، حيث أن الشيطان يكمن في التفاصيل، التي يجب علينا الانتباه عليها والتحذير من خطرها على مستقبل أجيالنا القادمة، والمرحلة الراهنة.

          حيث يصف د. محمد أحمد النابلسي في كتابه " يهود يكرهون أنفسهم " " المؤرخون الجدد" بأنهم منقبين في الوثائق المعلنة - بعد 30 سنة - من قبل المخابرات في الكيان اليهودي ، ويعيدوا صياغة هذه الوثائق لتسويقها وكأنها آراء ومواقف شخصية، ويقول: لذلك فإن "المؤرخ الجديد" هو مجرد نصاب - برأي المؤلف - ويحذر بشدة من الاستجابة للدعوة إلى التدوين المشترك ( عربي – إسرائيلي ) للتاريخ .

       والبعض يرى أن "المؤرخون الجدد" ليسوا جدداً أو مؤرخين فعليين، بل هم محاربون يسعون إلى إضفاء احترام جامعي أكاديميى على آراء قديمة مغلوطة، فهولاء بنوا آراءهم وتصحيحاتهم على أساطير خاطئة . . . كالذي بنى بيتاً على أرض مسروقة مسلوبة، وعند مراجعته قيل له لا يحق لك أن تحرم جيرانك من حقوقهم !!، أو توسع حديقة بيتك !! .

      ويرى الطرف الأخير أن معرفة حقيقة "المؤرخون الجدد" لا تمنع من ترجمة مؤلفاتهم والاستفادة من مراجعاتهم التاريخية، وفضحهم للممارسات الصهيونية وأعمال القمع والقهر التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وقراءة ما يقدمه لنا المؤرخون الجدد من معلومات ووقائع ودراسات، واستثمارها في كشف أكاذيب اليهود وأساطيرهم ، بنصوص ووثائق واعترافات تثبت حقنا بأرضنا ومقدساتنا.

 ما دورنـا ؟!

         التاريخ وللأسف يكتبه القوي المنتصر!!، وأما الضعيف المغلوب على أمره، لا يكتفى بأن يعيش بهزيمته وآلامه، بل عليه أن يرضى ويصدق بهذا التاريخ، ويقبل بسرد الوقائع التي وقعت أمام عينه بصور مغايرة للحقائق، انطلاقاً من المقولة " التاريخ صنع المنتصرين "!!.

        وخلال مسيرة الصراع غيروا وبدلوا الكثير، فكتبوا التأريخ كما هم أرادوا، لتخدم مصالحهم، وتكرس احتلالهم، وتبرر ممارساتهم، فكان سرد الأحداث صنيعهم، حتى صدقهم الغرب وأيدهم، وصدقهم كذلك إخواننا وبني جلدتنا !!.

        فهم يكتبون التاريخ ثم يقولون بعد أكثر من خمسون سنة قفوا !! هناك مراجعات، ونأسف أن كتبنا الكثير من الأكاذيب وأنصاف الحقائق، دون أن يجرؤ أحد على الكلام !! ، نريد أن نكون منصفين في كتابة التأريخ الجديد، ولا بد من أن نعيد النظر فيما كتب لخدمتنا جميعاً !!،  فهم الذين كتبوه، وهم الآن يعيدوا صياغته .

       فعمدوا إلى التضليل وقلب الحقائق، عبر غارات من الأكاذيب والافتراءات التي تتعرض لها عقولنا وأسماعنا وذاكرتنا، من منطلق " إذا أردت أن تقتل عدواً لا تطلق عليه رصاصة بل أكذوبة" ، ليصبح القمع حرية، والحرب سلاماً، والباطل حقيقةً، والحقيقة باطلاً، والاغتصاب تحرير، ومقاومة المحتل إرهاب ...!!.

        وأطلقوا الكثير من الأكاذيب والإشاعات لتبرير احتلال أرض فلسطين وإقامة كيانهم عليها، وأشاعوا أنهم يهاجرون إلى أرض بلا شعب، صحراء قاحلة،  وعدهم الله إياها، وأشاعوا أنهم لم يأخذوا أراضي فلسطين إلا بيعاً من الفلسطينيين، وشراء من اليهود.

         لا شك أننا أمام تزييف حقيقي للتاريخ المعاصر، حيث أصبح الكذب على تاريخ هذه الأمة وتزييف حقائقه الماضية والمحاضرة خطاً مستمراً ينمو مع الأيام، نعم كان ساذجاً في البداية، ولكنه تعقد مع الزمن، فأصبحت له قواعده وأصوله وأساتذته ومراكزه وجامعاته.

        والتأريخ الذي نحن بحاجة له لا تأريخ اليهود والصهاينة، ولا المؤرخون الجدد"، ولكننا بحاجة إلى تاريخ عربي إسلامي للأحداث المعاصرة وبحاجة إلى رواية ووثائق عربية رسمية تقدم للباحثين والمؤرخين.

     وبحاجة إلى روايات دقيقة موثقة (لدحض) أكاذيب اليهود التي انطلت على الكثير بل أصبحت مسلمات لا مجال لإنكارها أو التشكيك فيها، وهذا ما يدعونا إلى معرفة التحدي الذي نواجهه، تاريخ يسرق ويتم الاستحواذ عليه قطعة قطعة، وحجراً حجراً، إنهم يعاقبون أمتنا بالتدمير والتفكيك، وسرقة ذاكرتها وسلب روحها وتحويلها إلى أمة بلا تاريخ.

      وأمام هذا الواقع المرير ينبغي أن تكون لدينا مراكز دراسات وأبحاث لدراسة تاريخنا الماضي وتحقيقه وتوثيق تاريخنا المعاصر ليكون لدينا تاريخاً مقروناً بالأدلة يغرس في نفوس أبناء الأمة عبر الوسائل الإعلامية المتاحة، كي تستطيع الأجيال أن تحفظ هويتها وتاريخها من  مخطط التشويه والتحريف.

 

     وكذلك الالتفاف حول العلماء المعتبرين، والتعاون معهم لتزويدهم بصفة مستمرة ما يخطط له الأعداء، وحاملوا لواء التأريخ للأمة، وعرض أهم الدراسات التي يقدمها المختصون لتبيان مدى مشروعيتها، والتحذير من مخاطرها.

      والعمل على نشر الدراسات والإحصاءات والتقارير الموثقة حول الجهود المبذولة لتشويه التأريخ، وإعادة الصياغة بما يخدم مخططاتهم التوسعية، للتمكن من السيطرة والتغلغل.

           وعمل منهج تربوي علمي لجميع المراحل التعليمية " الابتدائية - المتوسطة - الثانوي - الجامعي، وحث وزارات التربية والتعليم في دولنا الإسلامية على جعل مساق القدس وتأريخ فلسطين والصراع مع الكيان اليهودي ضمن مناهج التربية والتعليم لدى الطالب في مختلف المراحل وإدخالها كفرع في مادة التربية الإسلامية ومادة التاريخ وفي حصص الثقافة العامة والأنشطة المدرسية.

        إضافة إلى تبني طباعة الكتب المتميزة، والنشرات باللغات الأجنبية التي تخدم قضية الأقصى، وتاريخ فلسطين، والصراع على المقدسات، بوجهة نظر إسلامية موضوعية.

 

والحمد لله رب العالمين  ،،،

العدد الثاني – مجلة بيت المقدس للدراسات

.