فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول
ملف الأسرى الفلسطينيين .. الجرح النازف في جسد العدالة الدولية

ملف الأسرى الفلسطينيين .. الجرح النازف في جسد العدالة الدولية
يعدّ ملف الأسرى الفلسطينيين في سجون الكيان الصهيوني أحد أخطر وأشد القضايا الإنسانية إيلامًا في الصراع العربي-الصهيوني، إذ تشير الإحصائيات والشهادات إلى تصاعد غير مسبوق في أعداد المعتقلين، وتدهور الظروف والانتهاكات الجسيمة بحقهم ولا سيما بعد السابع من أكتوبر 2023.
أعداد الأسرى حتى منتصف 2025 :
تشير التقديرات والإحصاءات إلى أن العدد الكلي للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بلغ حوالي 11000 أسير حتى مطلع يوليو/تموز 2025، وهو العدد الأعلى منذ انتفاضة الأقصى عام 2000.
ولا يشمل هذا الرقم المعتقلين من غزة المحتجزين في معسكرات الجيش الصهيوني، إذ يعدّهم الكيان "مقاتلين غير شرعيين" ويحتجز قسم كبيرٌ منهم في ظروف غامضة أو غير معلنة.
الإحصاءات التقريبية للأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية:
الفترة الزمنية |
عدد الأسرى |
نساء |
أطفال |
إداريون |
معتقلو غزة " |
قبل 7 أكتوبر 2023 |
5,250 |
40 |
170 |
1,320 |
- |
بداية آذار 2025 |
9,500 |
21 |
350 |
3,405 |
1,555 |
بداية حزيران 2025 |
10,400 |
49 |
440 |
3,562 |
2,214 |
بداية تموز 2025 |
10,800 |
50 |
450 |
3,629 |
2,454 |
الإطار القانوني لقضية الأسرى:
تنص اتفاقيات جنيف – بحسب القانون الدولي الإنساني - ولا سيما الثالثة والرابعة، على حماية حقوق الأسرى، وضمان معاملتهم بكرامة؛ حيث تحظر المادة (3) المشتركة التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة، كما يجرم نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الاعتقال التعسفي والتعذيب كـ"جرائم ضد الإنسانية"، وفي قانون الكيان الصهيوني من المفروض أن يتم اعتماد قوانين الطوارئ البريطانية لعام 1945 كأساس للاعتقال الإداري؛ إلا أن القوانين المحلية المعمول بها هناك تمنح سلطات واسعة لجهاز الشاباك و"مصلحة السجون" في تجاوز الحقوق الأساسية للأسرى!!
شهادات الأسرى ومحاميهم:
وقد وثقت منظمات حقوقية شهادات مرعبة لأسرى أُفرج عنهم مؤخرًا، منهم من تحدث عن شهور من التعذيب الحرمان من الطعام والغطاء في برد الشتاء أو حَرّ الصيف، والتحقيق لفترات طويلة دون تهمة واضحة أو لائحة اتهام، كما ذكرت إحدى الأسيرات المحررات أنه “تم تعريتي لساعات وتعرضت للضرب والإهانة، ولم أرَ المحامي إلا بعد 80 يومًا من الاعتقال”.
كما نقل محامون أن كثيرًا من الأسرى لم يُسمح لهم بلقاء عائلاتهم ولا حتى التواصل هاتفياً، وبعضهم احتُجز في أقفاص خارجية لساعات وأيام، كما تحدث أسرى من غزة عن نقلهم مكبلين معصوبة أعينهم، وتعرضهم لحرمان النوم وفقدان عشرات الكيلوغرامات من أوزانهم إثر سياسة التجويع طويلة الأمد.
ومن اللافت أيضا أن يُلقى القبض على مئات الأطفال سنويًا، ويتعرض قسم كبير منهم لتعذيب نفسي وبدني، من بينها تهديدهم واحتجازهم في ظروف غير مناسبة للأطفال، وحرمانهم من التعليم والرعاية، كما رُصدت حالات إصابة نفسية مثل الإحباط والاكتئاب والكوابيس واضطرابات النوم الشديدة لدى الأطفال
من أشكال المعاناة والانتهاكات:
§ التعذيب الجسدي والنفسي: حيث يتم استخدام العزل الانفرادي لفترات طويلة، إضافة إلى الضغط النفسي عبر منع الزيارات واحتجاز الأقارب، إلى جانب الإهانات المتكررة أثناء التحقيق أو التفتيش.
§ الإهمال الطبي: هو ما يمثل سياسة "الموت البطيء" عبر التأخير المتعمد في تقديم العلاج، إضافة إلى عدم وجود طاقم طبي متخصص، ما يؤدي إلى وفاة عدد من الأسرى نتيجة الإهمال، وقد كان من أبرزهم ناصر أبو حميد في ديسمبر 2022.
§ الحرمان من الحقوق: من خلال المنع المتكرر للزيارات العائلية، وحرمان الأسرى من الكتب والتعليم، ومصادرة المقتنيات الشخصية، والاقتحامات الدورية لغرف الأسرى باستخدام الكلاب والغاز.
§ اعتقال المئات من النساء والفتيان: ومن بينهم قُصَّر لا تتجاوز أعمارهم 12 عامًا، مع تصاعد حالات الاعتقال الجماعي من مناطق الضفة الغربية والقدس.
§ فرض إجراءات تعسفية جديدة: مثل: إلغاء الزيارات العائلية بالكامل، والحرمان من الطعام والتدفئة، واستخدام الكهرباء والتعذيب النفسي خلال التحقيق، ونزع ملابس الأسرى وتركهم عراة لساعات، وذلك بالإضافة إلى توثيق حالات اغتصاب وتهديد بالاعتداء الجنسي داخل مراكز التحقيق، ولا سيما للفتيات والنساء.
ومن الأرقام والحقائق الصادمة ما يلي :
§ يعاني أسرى القدس وأراضي 1948 من تمييز مضاعف وحرمان شبه تام من الحقوق مقارنةً بالباقين.
§ هناك أكثر من 900 أسير مريض بحاجة إلى رعاية صحية دائمة، بينهم مرضى سرطان، فشل كلوي، إعاقات حركية ونفسية.
§ نقص الأدوية ومماطلة إدارة السجون في تحويل المرضى للمستشفيات أديا إلى تفاقم الحالات أو الوفاة.
§ استشهاد الكثير من الأسرى خلال 2024-2025 بسبب تفاقم أمراضهم بفعل الإهمال الطبي وتضييق إمكانيات العلاج.
§ سياسة الاعتقال الإداري تُمثّل أحد أخطر أساليب القمع؛ إذ تُحتجز المئات من الحالات دون تهمة أو محاكمة ولفترات تتجدد تلقائيًا.
§ تزايد الإضرابات الفردية والجماعية احتجاجًا على الاعتقال الإداري، مع تسجيل تدهور صحي خطير للمضربين، والعديد يخرجون بعد الإفراج بعجز صحي حاد.
§ القوانين الإسرائيلية تمنح سلطات واسعة للأجهزة الأمنية في احتجاز الفلسطينيين بناءً على "ملفات سرية"، ما يصعب الطعن فيها قانونيًا.
المستشفيات .. سجون وأماكن احتجاز:
من الممارسات التعسفية التي تقوم بها سلطان الكيان الصهيوني الغاصب بحق الفلسطينيين استخدام مراكز طوارئ ومستشفيات ميدانية كسجون للطوارئ، واحتجاز مئات الجرحى والمصابين لفترات طويلة دون علاج حقيقي أو رقابة حقوقية، كما أوضحت إفادات بأن بعض الأسرى الجرحى بقوا مكبلي الأيدي والأرجل مع نزيف جروحهم لساعاتٍ أو أيام، مما فاقم من حالتهم الصحية وأدى لوفاة بعضهم.
تحديات التوثيق والفجوات المعلوماتية :
وفي المقابل تفرض سلطات الكيان الصهيوني تعتيمًا إعلاميًا وأمنيًا حول أوضاع الأسرى ولا سيما من غزة، وتمنع الزيارات حتى على الصليب الأحمر وتبقي أسماء ونُزلاء بعض السجون طي الكتمان.
ولا شك أن مثل هذا التعتيم يصعب رصد الأعداد الدقيقة، ويجعل توثيق الانتهاكات أكثر صعوبة، لكن الشهادات والتقارير الحقوقية المستقلة تبقى المصدر الأوثق في هذه المرحلة.
ردود الفعل الحقوقية والدولية:
وقد وصفت تقارير حقوقية دولية وضع الأسرى الفلسطينيين بأنه "نموذج للإبادة الجماعية والتعذيب الممنهج"، ورفعت توصيات لتحقيق جنائي دولي بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقيات جنيف، كما دعت منظمات مثل الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى السماح الفوري للجهات المحايدة بزيارة المعتقلين، ووقف الإجراءات العقابية الجماعية، ومحاسبة المسؤولين الصهاينة عن تلك الجرائم دوليًا، ومن بين أهم المؤسسات الحقوقية الشاهدة على ذلك : مؤسسة الضمير وهيئة شؤون الأسرى، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش.
الملاحقات القانونية والإعلامية العالمية:
هناك محاولات جادة لملاحقة مسؤولين صهاينة مسؤولين عن مثل تلك الممارسات بحق السجناء أمام المحاكم الدولية، وقد قبلت المحكمة الجنائية الدولية بعض الشكاوى المتعلقة بتعذيب الأسرى وجرائم ضد الإنسانية بعد 7 أكتوبر؛ كما حظيت بعض حالات الأسرى بتغطية إعلامية دفعت جهات حقوقية أوروبية وأمريكية لرفع تقارير خاصة للبرلمانات الدولية، والمطالبة بإدراج تلك الانتهاكات ضمن تقارير الأمم المتحدة الرسمية.
الخلاصات والتوصيات:
§ تضاعف أعداد المعتقلين الفلسطينيين بشكل غير مسبوق بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، مع استمرار تصاعد عمليات الاعتقال خاصة من غزة.
§ تدهور مروع في ظروف الاحتجاز وممارسات تعذيب وإهمال ممنهج تقارب معايير معسكرات التعذيب وفق الشهادات الحقوقية والأممية الموثقة.
§ المجتمع الدولي مدعو لتحمل مسؤولياته والتحرك الفوري لإغلاق هذا الملف الكارثي، تحقيقًا للعدالة ومنع تكرار الانتهاكات، ولا سيما في ظل ردود الفعل الخجولة المقتصر على بيانات التنديد المحدودة من الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، وغياب القرارات الملزمة، والانحياز الغربي الواضح للكيان الصهيوني!
§ الأسرى المحررون يعانون غالبًا من متلازمات نفسية معقدة؛ تشمل اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، فقدان الثقة بالآخرين، واضطراب العلاقات الأسرية نتيجة سنوات الغياب أو التعذيب والانقطاع عن المجتمع.
§ تمثل عائلات الأسرى شريحة منكوبة؛ تشكو نقص الدعم النفسي والمادي، وغالبًا ما تتعرض للملاحقة (اقتحامات واعتقالات أو منع تصاريح العمل والتنقل).
§ لوحظ أن بعض الأطفال الذين عاشوا تجربة اعتقال أو استشهاد أحد الوالدين يعانون تدني التحصيل الدراسي وصعوبات سلوكية شديدة.
ويقتضي ذلك ما يلي:
§ تعزيز وحدة المرافعة القانونية عالميًا: خلق لجان توثيق مركزية تربط الأسرى السابقين بمحامين دوليين وخبراء قانونيين عبر منصات رقمية مؤمنة.
§ إنتاج محتوى إعلامي دولي باللغات الحية: نشر أفلام وثائقية وشهادات موثقة مستهدفة الرأي العام وصناعة القرار في أوروبا وأمريكا.
§ فتح ملف الاعتقال الإداري والنساء والأطفال في المحافل الأممية بشكل دوري، وربطه بملفات الإبادة وتعطيل العدالة.
§ توظيف شبكات التضامن مع قضايا الأقليات والتمييز العنصري عالميًا لصالح ملف الأسرى الفلسطينيين، وابتكار حملات المقاطعة الحقوقية ضد شركات متورطة في دعم السجون أو أدواتها.
§ دعم الصمود النفسي والإعلامي للأسرى وعائلاتهم، وتحشيد الضغط الدولي والدبلوماسي.
§ إطلاق حملات دولية متواصلة لتسليط الضوء على معاناة الأسرى ووقف الانتهاكات المتواصلة بحقهم.
§ تشجيع الإدانات العلنية من قبل المؤسسات الطبية العالمية لمسألة الإهمال الطبي.
§ استمرار التصعيد والاعتقالات يهدد بموجة أزمات إنسانية أكبر في أوساط المعتقلين الفلسطينيين.
§ مواصلة الضغط الدولي لإعادة إدراج ملف الأسرى ضمن أولويات المجتمع الدولي، وخاصة في مفاوضات الحل النهائي.
§ تثبيت قضية الأسرى على أجندة الإعلام الحقوقي، ودعم وتطوير منصات توثيق الانتهاكات باللغات العالمية.
§ ضرورة بناء تحالف حقوقي- قانوني عابر للحدود، لتحويل الشهادات الفردية إلى قضايا عمومية أمام المحاكم الأوروبية والدولية.
حقوق الأسرى في الإسلام:
وعلى النقيض من ذلك نجد أن الأسرى والسجناء يتمتعون في ظل الشريعة الإسلامية بحقوق إنسانية راسخة تعكس أبعادًا حضارية متقدمة مقارنةً بمعايير العصور القديمة؛ بل وحتى مقارنة بكثير من القوانين الدولية الحديثة؛ فقد حرصت الشريعة الإسلامية على كرامة الأسير، وحثت على معاملته بالعدل والرحمة، انطلاقًا من قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).
ومن أبرز حقوق الأسرى في الإسلام العطف والرحمة حيث أوصت الشريعة بحسن معاملة الأسرى واحترام إنسانيتهم وعدم تعذيبهم أو إيذائهم بأي شكل، وألزمت المسلمين بتوفير الطعام والشراب، وأن يكون ذلك من نفس مستوى طعامهم أو أفضل، وكذلك توفير الملابس المناسبة التي تحفظ كرامة الأسير من حرّ أو برد، هذا بالإضافة إلى توفير الرعاية الصحية والعلاج للأسير وعدم تركه فريسة للمرض أو العجز، كما ضمنت له الحرية الدينية بحيث لا يُجبَر الأسير على اعتناق الإسلام، ويضاف غلى ذلك واجب توفير المأوى الكريم للأسير، فلا يُرمى في أماكن مهينة أو غير آدمية، مع الحرص على تخفيف القيد وعدم الإيذاء.
وقد أتاحت الشريعة الإسلامية أيضا الفداء والإفراج بوصفها خيارات إنسانية حضارية ؛ كالمنّ على الأسير (إطلاق سراحه دون مقابل)، أو الفداء (مقابل مال أو تبادل أسرى)، أو المفاوضة لتحريره، وكلها تهدف في بنيتها الأخلاقية إلى إنهاء معاناته متى تحققت المصلحة، وبذلك يُعد تشريع حقوق الأسرى في الإسلام نقلة نوعية في تاريخ تعامل البشرية مع الأسرى، إذ قُدّمت الرحمة والعدالة فوق الدوافع الانتقامية السائدة آنذاك.
خلاصة القول :
وهكذا يبقى ملف الأسرى الفلسطينيين جرحًا نازفًا في جسد العدالة الدولية؛ إذ تعكس معاناتهم تجليات فلسفة العقاب الجماعي، وانهيار منظومة الحماية القانونية في النزاعات، ولا شك أن استمرار الاحتلال الصهيوني في ممارساته القمعية بحق الأسرى الفلسطينيين يُعد خرقًا صارخًا للقانون الدولي والمواثيق الحقوقية، وتكشف التطورات بعد 7 أكتوبر عن دخول مرحلة جديدة من الانتقام والوحشية، ما يفرض مسؤولية مضاعفة على المجتمع الدولي والحقوقيين والإعلاميين - ولا سيما في العالمين العربي والإسلامي - لفضح تلك الجرائم وكسر الصمت العالمي المهين.
يمكن تحميله PDF من هنا 👇
. تحميل الملف المرفق