فتاوى فلسطينية / الصلح والمعاهدات

فتاوى مقدسية مختارة- من فتاوى الهدنة-العدد الخامس

فتاوى مقدسية مختارة- من فتاوى الهدنة-العدد الخامس

لجنة البحث العلمي في مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

في كل عدد  نقدم نخبة من الفتاوى المقدسية ، التي تعالج الواقع الفلسطيني بكل أبعاده من منظور شرعي تأصيلي، بهدف بيان الرؤية الصحيحة لقضية فلسطين، نحاور فيه علماؤنا الربانيين ودعاتنا العاملين على الساحة، نلتمس منهم معالم فهم الأحداث وتأصيل الواقع وإنزاله على القواعد الصحيحة.

وفي هذا العدد اخترنا مجموعة من الفتاوى والتي صدرت من علماء أجلاء في حكم (الهدنة) التي تعقد بين المسلمين وغيرهم من أعداء الله، والدافع لعرضها تلك الظروف العصيبة التي تمر بها القضية الفلسطينية ، والحصار الخانق في الداخل والخارج الذي يتعرض له الفلسطينيون بصورة تنذر بالسوء ولا حول ولا قوة إلا بالله، والذي شمل كل صور المساعدات والدعم من إخوانهم المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، إضافة إلى تصاعد الاعتداءات على المسجد الأقصى والقدس بوتيرة لم تشهدها الفترات الماضية.

وهذا الوضع المتأزم والمتواصل والذي أدى إلى طرح قضية (الهدنة) مع "اليهود"، لتكون إما مؤقتة أو مطلقة حسب ما تقتضيه المصلحة، في محاولة للمحافظة على المكتسيات التي تمّ تحقيقها على أرض الواقع، ووقف نزيف الدم الفلسطيني المستمر.

الهُدنَةُ المؤقتة والمُطْلَقَةُ

من فتاوى الشيخُ العلاَّمَة/ عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ بازٍ رحمه الله

السؤال: سَماحَةَ الوالِدِ: المنطقَةُ تَعيشُ اليومَ مَرْحَلةَ السلامِ واتفاقياتِهِ، الأمْرُ الذي آذى كثيراً مِنَ الْمُسلمِينَ، مِمَّا حدا ببعضِهِم مُعارضَتُهُ والسعيُ لِمواجَهَةِ الحُكومَاتِ التِي تَدْعَمُهُ عَنْ طَريقِ الاغتيالاتِ أو ضَرْبِ الأهدافِ المَدَنيَةِ للأعداءِ، وَمَنْطِقُهُمْ يَقومُ عَلى الآتي:

( أ ) إنَّ الإسلامَ يَرفُضُ مَبدأَ المُهادَنَةِ.

(ب) إنَّ الإسلامَ يَدْعو لِمواجَهَةِ الأعداءِ بِغَضِّ النَظَرِ عَنْ حَالِ الأُمَّةِ والْمُسلِمينَ مِنْ ضَعْفٍ أو قُوَّةٍ.

نَرْجو بيانَ الحَقِّ، وكيفَ نَتَعامَلُ مَعَ هذا الواقِعِ بِمَا يَكْفُلُ سَلامَةَ الدينِ وأهْلِهِ؟

الإجابَةُ: تَجوزُ الْهُدنَةُ مَعَ الأعداءِ مُطلَقَةً ومؤقَتَةً، إذا رَأى وليُّ الأمرِ الْمَصلَحَةَ في ذَلِكَ لِقَولِهِ سُبْحَانَهُ: "وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم"([1])، ولأنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَهُما جَميعاً، كَما صالَحَ أهلَ مَكَّةَ عَلى تَرْكِ الْحربِ عَشَرَ سِنينَ يأمَنُ فيها الناسُ، ويَكُفُّ بَعضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وصالَحَ كثيراً مِنْ قبائِلِ العَرَبِ صُلحاً مُطلقاً، فَلَما فَتَحَ اللهُ عَليهِ مَكَّةَ نَبَذَ إليهِمْ عُهودَهُمْ وأجَّلَ مَنْ لا عَهْدَ لَهُ أربَعَةَ أشْهُرٍ، كَما في قَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ: "براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ"([2])، وبَعَثَ (صلى الله عليه وسلم) الْمُنادينَ بِذَلِكَ عامَ تِسعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الفتح مع الصديق لمّا حج رضي الله عنه، ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إِلَى الْهُدنَةِ الْمُطلَقَةِ ثُمَّ قَطَعَها عِنْدَ زَوالِ الْحاجَةِ كما فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)؛ وقَدْ بَسَطَ العَلاََّمَةُ ابنُ القيِّمِ _ رَحِمَهُ اللهُ _ القولَ في ذَلِكَ في كِتَابِهِ (أحكامُ أهلُ الذِمَةِ)، واختارَ ذَلِكَ شيخُهُ شَيْخُ الإِسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ وجَماعَةٌ مِنْ أَهلِ العِلْمِ. واللهُ وَليُّ التوفيقِ([3])

 

السؤال: هَل تَعْني الهُدنَةُ المُطْلَقَةُ مَعَ العدوِّ إقرارَهُ عَلى مَا اقْتَطَعَهُ مِنْ أَرْضِ الْمُسلمينَ في فَلَسطينَ، وأنَّها قَدْ أصبحَتْ حَقاً أبدياً لليهودِ بِموجَبِ مُعاهداتٍ تُصَدِّقُ عليها الأمَّمُ المُتحِدَةُ، التِي تُمَثِلُ جَميعَ أُممِ الأرضِ، وتُخَوِّلُ الأُمَمَ المُتِحِدةَ عُقوبَةَ أيِّ دَولَةٍ تُطالِبُ مَرَةً أُخْرى باستردادِ هذهِ الأرضِ، أو قتالِ اليهودِ فيها؟

الجواب: الصُلْحُ بَيْنَ وَلِّي أمْرِ الْمُسلِمينَ في فَلَسطينَ، وبَيْنَ اليهودِ، لا يَقتَضي تَمليكَ اليهودِ ما تَحْتَ أيديِهِم تَمليكاً أبَدياً، وإنَّما يَقتضي ذَلِكَ تَمليكَهُم تَمليكاً مؤقَتاً حَتَّى تَنتَهيَ الْهُدنَةُ الْمُؤقَتَةُ، أو يَقْوى الْمُسلِمونَ عَلى إبعادِهِمْ عَنْ ديارِ الْمُسلِمينَ بالقُوَةِ في الْهُدنَةِ الْمُطلَقَةِ، وهكَذا يَجِبُ قِتالُهُم عِنْدَ القُدرَةِ حَتَّى يَدخُلوا الإسلامَ أو يُعطوا الْجِزيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرونَ، وهَكذا النصارَى والْمَجوسُ لِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في سورَةِ التَوبَةِ: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"([4])، وقَد ثَبَتَ في الصَّحيحِ عَنْهُ (صلى الله عليه وسلم) أنَّهُ أخَذَ الْجِزيَةَ مِنَ الْمَجوسِ([5])، وبذَلِكَ صارَ لَهُمْ حُكْمُ أَهلِ الكِتَابِ في أَخْذِ الْجِزيَةِ فَقَطْ إذا لَمْ يُسْلِموا، أمَّا حِلُّ الطعامِ والنساءِ لِلمُسلِمينَ فَمُختَصٌ بأَهْلِ الكِتَابِ، كمَا نَصَّ عَلَيهِ كِتابُ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالَى في سُورَةِ الْمائِدَةِ.

وقَدْ صَرَّحَ الْحافِظُ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ في تَفسيرِ قولِهِ تَعالَى في سورَةِ الأنفالِ: "وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم"([6])، بِمَعنَى ما ذَكرنا في شأنِ الصُّلْحِ([7]).

 

السؤال: فَهِمَ بَعْضُ الناسِ مِنْ إجابَتِكُمْ عَلى سُؤالِ الصُلْحِ مَعَ اليهودِ، أنَّ الصُّلْحَ أو الهدنَةَ مَعَ اليهودِ المُغتَصِبِينَ للأرضِ والمُعتدينَ، جائِزٌ عَلى إطلاقِهِ، وأنَّهُ يَجوزُ موادَةُ اليهودِ ومَحبتُهُمْ، ويَجِبُ عَدَمُ إثارَةِ ما يُؤكِدُ البغضاءَ والبراءَةَ مِنهُمِ في المناهِجِ التعليميَةِ فِي البلادِ الإسلاميَةِ وفي أجهِزَةِ إعلامِها، زاعمينَ أنَّ السَّلامَ مَعَهُمْ يَقتضي هَذا، وأنَّهُمْ ليْسوا بَعْدَ مُعاهداتِ السلامِ أعداءً يَجِبُ اعتقادُ عَداوتِهِمْ، ولأنَّ العالَمَ يَعيشُ حَالَةَ الوفاقِ الدولِيِّ والتعايُشِ السِلميِّ، فلاَ يَجوزُ إثارَةُ العَداوَةِ الدينيَةِ بَيْنَ الشعوبِ.!  

فَنَرجو مِنْ سَماحَتِكُمْ التوضيحَ ؟

الجوابُ: الْصُلْحُ مَعَ اليهودِ أو غَيرِهِمْ مِنْ الكَفَرَةِ، لا يَلْزَمُ مِنْهُ موادتُهُمْ ولا مُوالاتُهُمْ، بَلْ ذَلِكَ يَقْتضي الأمْنَ بَيْنَ الطَرَفينِ، وكَفَّ بَعضِهِمْ عَنْ إيذاءِ البعضِ الآخَرِ وغَيِر ذَلِكَ كالبيعِ والشراءِ، وتَبادُلِ السُفراءِ، وغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعاملاتِ التِي لا تَقْتَضي موادَةَ الكفَرَةِ ولا مُوالاتِهِمْ.

وقَدْ صالَحَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أهْلَ مَكَّةَ، ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ مَحبَتَهُمْ ولا مُوالاتَهُم، بَلْ بَقِيَتْ العداوَةُ والبغضاءُ بَينَهُمْ حَتَّى يَسَّرَ اللهُ فَتْحَ مَكَّةَ عامَ الفَتْحِ ودَخَلَ الناسُ في دينِ اللِه أفواجاً.

وكَذَلِكَ صالَحَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَهودَ الْمَدينَةِ لَمَّا قَدِمَ الْمَدينَةَ مُهاجِراً صُلْحاً مُؤقتاً، ولَمْ يوجِبْ ذَلِكَ موادتَهُمْ ولا مَحبَتَهُمْ، لَكِنَّهُ (صلى الله عليه وسلم) كانَ يُعامِلُهُم في الشراءِ مِنْهُمِ والتحَدُثِ إليهِمْ، ودَعْوَتِهِمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ وتَرغِيبهِمْ في الإسلامِ، وماتَ (صلى الله عليه وسلم) ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهوديٍّ في طَعامٍ اشتراهُ لأهلِهِ.

ولَمَّا حَصَلَ مِنْ بَني النضيرِ مِنَ اليهودِ الْخيانَةُ، أَجْلاهُمْ مِنَ الْمَدينَةِ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ، ولَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ العَهْدَ ومَالأوا كُفارَ مَكَّةَ يَوْمَ الأحزابِ عَلى حَرْبِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)، قَاتَلَهُمْ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) فقتلَ مُقاتِليهِمْ، وسَبَى ذُرِيَّتَهُمْ ونِساءَهُمْ بَعدما حَكَمَ سَعْدُ بنُ مُعاذٍ رضي الله عنه فيهِمْ، فَحَكَمَ بِذَلِكَ وأخْبَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أنَّ حُكْمَهُ قَدْ وافَقَ حُكْمَ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ.

وهَكذا الْمُسلِمونَ مِنَ الصحابَةِ ومَنْ بَعدَهُم، وَقَعَتِ الْهُدنَةُ بينَهُمْ في أوقاتٍ كثيرَةٍ وبَيْنَ الكفرَةِ والنَّصارى وغَيرِهِمْ، فَلَمْ يوجِبْ ذَلِكَ موادةً ولا مَحبةً ولا مُوالاةً، وقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعالَى:  "لتجدن أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا"([8])، وقال سُبْحَانَهُ وتعالَى: "قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءاؤُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده"([9])؛ وقَالَ سُبْحَانَهُ: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين"([10])، وقال عَزَّ وجَلَّ: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم"([11])، والآياتُ في هذا الْمَعنَى كثيرة.

ومِمَّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الصُّلْحَ مَعَ الكُفَّارِ مِنَ اليهودِ وغَيْرِهِمْ إذا دَعَتْ إليهِ الْمَصَلَحَةُ أوِ الضرورَةُ، لا يَلْزَمُ مِنْهُ موادَةٌ ولا مَحبَةٌ ولا مُوالاةٌ، أنَّهُ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ صالَحَ اليهودَ فيها عَلى أنْ يَقوموا عَلى النخيلِ والزُروعِ التِي لِلمُسلِمينَ بالنصفِ لَهُمْ والنصفِ لِلمُسلِمينَ، ولَمْ يَزالوا في خَيْبَرَ على هذا العَقْدِ، ولَمْ يُحَدَّدْ بِمُدَةٍ مُعَينَةٍ، بَلْ قَالَ (صلى الله عليه وسلم): ( نُقِرُّكُمْ عَلى ذَلِكَ ما شِئْنا )([12]) ، وفي لَفْظٍ: (نُقِرُّكُمْ ما أَقَرَّكُمُ اللهُ)([13])، فَلَمْ يَزالوا بِهَا حَتَّى أجْلاهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه.

ورُوِيَ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ رَواحَةَ رضي الله عنه أنَّهُ لَمَّا خَرَصَ عَليهِمُ الثَمَرَ في بَعْضِ السنينَ قَالوا: إنَّكَ قَدْ جُرْتَ في الْخَرْصِ، فقالَ رضي الله عنه: واللهِ إنَّهُ لا يَحْمِلُني بُغْضي لَكُمْ ومَحَبَّتي لِلمُسلِمينَ أنْ أجورَ عَلَيْكُمْ، فإنْ شِئْتُمْ أخَذْتُمُ الذي خَرَصْتُهُ لَكُمْ، وإنْ شِئْتُمْ أَخذْناهُ بِذَلِكَ.

وهذا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أنَّ الصُّلْحَ والْمُهادَنَةُ لا يَلْزَمُ مِنْها مَحَبَةٌ ولا مُوالاَةٌ ولا مٌوادَةٌ لأعداءِ اللهِ، كَما يَظُنُّ بَعْضُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ بأحْكامِ الشريعَةِ الْمُطَهَّرةِ.

وبِذَلِكَ يَتَضِحُ للسائِلِ وغَيرِهِ أنَّ الصُّلْحَ مَعَ اليهودِ أو غَيرهِمْ مِنَ الكَفَرَةِ، لا يَقْتَضي تَغييرَ الْمَناهِجِ التعليميَةِ ولا غَيْرِها مِنَ الْمُعاملاتِ الْمُتعِلقَةِ بالْمَحبَّةِ والْموالاةِ. واللهُ وَليُّ التوفيقِ([14]).

 

المُعاهَدَةُ الدائِمَةُ عَلى السلمِ

الشيخ العلاّمة/ مُحَمَّدُ بنُ صالِح العُثيمينَ رحمه الله

السؤال: سَماحَةَ الشيخِ: القُدْسُ بِمَا تَحْتلُّهُ مِنْ مَكانَةٍ عَظيمَةٍ في قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي أنحاءِ العالَمِ، وفي ظِلِّ التَعنُّتِ اليهوديِّ والمُحاولاتِ الدمويَةِ للقضاءِ عَلى الأَقْصَى، والمُسانَدَةِ العمياءِ لليهودِ مِنْ قِبَلِ أمْريكا والغربِ فِي المحافِلِ الدوليَةِ، مَا تَصورُ سَماحَتِكُمْ للحلِّ الأمثَلِ لِهَذِهِ القضيَةِ المصيريَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وهيَ قَضيةُ القُدْسِ ؟ نَرجو إلقاءَ الضوءِ ؟ وجزاكُمُ اللهُ عَنَّا خَيراً.

الجواب: يَجِبُ أنْ نَعودَ إِلَى عَهْدِ رَسولِنا (صلى الله عليه وسلم)، فَقَدْ بَلَغَ الْمُسلِمونَ الآنَ ما يَزيدُ عَلى مِليارِ مُسْلِمٍ في أنْحاءِ العالَمِ، لو رَجَعَ اثْنا عَشَرَ ألفاً إلَى الإسلامِ حَقيقَةً ما غُلِبوا، لَكنَّ الْمُتَأمِّلَ للوضعِ بَيْنَ الْمُسلِمينَ وبَعْضِهِمْ يَجِدُ أنَّ الوضْعَ مُتداعٍ بَيْنَ الْمُسلِمينَ، لِذَلِكَ حَصَلَ ما حَصَلَ.

واليهودُ لا يَخْفَى عَليْنا أَنَّهُم أهْلُ غَدْرٍ وخِيانَةٍ، وغَدْرُهُمْ وخيانَتُهُمْ مُسَجَّلَةٌ في التاريخِ، فَقَدْ خانوا العهْدَ وغَدَروا بِهِ مَعَ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم)، فَهُمْ معروفونَ بالغَدْرِ والْخيانَةِ.

واتفاقيَةُ السلمِ التِي وُقِّعَتْ بَيْنَ الفَلَسطينيينَ وبَيْنَ اليهودِ هَلْ نُفِّذَتْ ؟! أبدًا بَلْ صارَ اليهودُ يَتبادَلونَ الأدوارَ بَيْنَ الليكودِ والعَمَلِ وهُمْ كُلُّهُمْ واحِدٌ ونَفْسُ السياسَةِ مَعَ تَبادُلِ الكراسيِّ.

لَكِنْ عَلى كُلِّ حالٍ يَجوزُ لِلمُسلِمينَ مَعَ الضَعْفِ وعَدَمِ القُدْرَةِ، أنْ يُسالِموا العدوِّ إمَّا لِمُدَةٍ أقصاها عَشْرُ سَنواتٍ، وإمَّا مُعاهَدَةٌ مُطلقَةٌ.

وأمَّا الْمُعاهَدَةُ الدائِمَةُ عَلى السلمِ وعَدَمِ الْحَرْبِ، فهذا لاَ يَجوزُ إطلاقاً، والْمُعاهَدَةُ الْمُطلَقَةُ وَقَّعَها الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ الْمُشركينَ.

والْمُعاهَدَةُ الْمُطلَقَةُ لا تَكونُ مُقيَّدَةً لا بِالعَدَدِ ولا بِالقوَةِ وهذهِ جائِزَةٌ، أمَّا الْمُعاهَدَةُ الْمُؤبَّدَةُ، فَهذِهِ لا تَجوزُ أبَداً، لِماذا ؟! لأنَّ هُناكَ فَرْقاً بَيْنَ أنْ نَقولَ: نَضَعُ الْحَرْبَ بَيننا وبَيْنَكُمْ أبَداً، وبَيْنَ أنْ نَقولَ: نَضَعُ الْحَرْبَ لِعشرِ سِنينَ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُعاهَدَةُ الْمُطْلَقَةُ، أوْ الْمُقيَّدَةُ مِنْ دونِ تأبيدٍ، فالْمُعاهَدَةُ الْمُؤبدَةُ غَيْرُ جائِزَةٍ مُطْلَقاً؛ وقَدْ تَعَهَّدَ اللهُ بأنْ يَنْصُرَ مَنْ يَنصُرُهُ، قَالَ تَعالَى: "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز، الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"([15]).

فالوَعْدُ بالنَصْرِ هُنا مَسبوقٌ بِعبادَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ : "يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً"([16])؛ إذاً فالعبادَةُ الْحَقيقيَةُ هِيَ التِي تُحَقَّقُ الْنَصْرَ([17]).

الصلح مع اليهود في فلسطين، والمعاهدات مع الدول الاستعمارية

من فتاوى دار الإفتاء المصرية

الصلح مع اليهود في فلسطين، والمعاهدات مع الدول الاستعمارية المعادية للعرب والمسلمين المؤيدة لليهود في عدوانهم.

 المبادئ:

1- هجوم العدو على بلد إسلامي يوجب على أهلها الجهاد ضده بالقوة، وهو في هذه الحالة فرض عين.

2- يتعين الجهاد في ثلاثة أحوال: عند التقاء الزحفين، وعند نزول الكفار ببلد، وعند استنفار الإمام لقوم للجهاد حيث يلزمهم النفير.

3- الاستعداد للحروب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية .

4- ما فعله اليهود بفلسطين اعتداء على بلد إسلامي يوجب على أهله أولاً رده بالقوة، كما يوجبه ذلك ثانياً على كل مسلم في البلاد الإسلامية.

5- الصلح مع العدو على أساس رد ما اعتدى عليه إلى المسلمين جائز، أما إن كان على أساس تثبيت الاعتداء فهو باطل شرعاً.

6- موادعة أهل الحرب أو جماعة منهم جائزة شرعاً، ولكن بشرط أن تكون لمدة معينة، وأن يكون فيها مصلحة للمسلمين ، فإن لم تكن فيها مصلحة فهي غير جائز بالإجماع.

7- قوله تعالى: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك أخذاً من قوله تعالى: ( ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنت الأعلون ).

8- المعاهدات التي يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة شرعاً إذا كانت فيها مصلحة للمسلمين، أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامي فإنها تكون تقوية لمن اعتدى، وذلك غير جائز شرعاً.

9- لليهود في فلسطين موقف خاص، فهم موجودون بها، بحكم سياسي هو الهدنة التي فرضتها الدول على الفريقين، ونزلت الحكومات الإسلامية على حكمها إلى حين وجود حل عادل للمسألة.

10- ما فعله المسلمون من منع السلاح والذخيرة عن اليهود بعدم السماح بمرور ناقلاتها في بلادهم جائز ولا شيء فيه وإن كان اليهود يعتبرون ذلك اعتداء عليهم.

 

سؤال من سائل قال:

ما بيان الحكم الشرعي في الصلح مع دولة اليهود المحتلة. وفي المحالفات مع الدول الاستعمارية والأجنبية المعادية للمسلمين والعرب والمؤيدة لليهود في عدوانهم؟

أجاب:

يظهر من السؤال أن فلسطين أرض فتحها المسلمون وأقاموا فيها زمناً طويلاً، فصارت جزءً من البلاد الإسلامية أغلب أهلها مسلمون وتقيم معهم أقلية من الديانات فصارت دار إسلام تجري عليها أحكامها، وأن اليهود اقتطعوا جزءً من أرض فلسطين وأقاموا فيه حكومة لهم غير إسلامية وأجلوا عن هذا الجزء أكثر أهله من المسلمين. ولأجل أن نعرف حكم الشريعة الإسلامية في الصلح مع اليهود في فلسطين المحتلة دون نظر إلى الناحية السياسية يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أي بلد من بلاد المسلمين هل هو جائز أو غير جائز. وإذا كان غير جائز فما الذي يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان.

إن هجوم العدو على بلد إسلامي لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه، فدار الإسلام يجب أن تبقي بيد أهلها ولا يجوز أن يعتدي عليها أي معتد، وأما ما يجب على المسلمين في حالة العدوان على أي بلد إسلامي فلا خلاف بين المسلمين في أن جهاد العدو بالقوة في هذه الحالة فرض عين على أهلها. يقول صاحب المغني: يتعين الجهاد في ثلاثة – الأول : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان – الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم – الثالث: إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير. ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أي اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم . قال الله تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )([18])، فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدي عليهم لدينهم، وضد كل من يطمع في بلادهم ، فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها . والخلاف بين العلماء في بقاء الجهاد أو عدم بقائه وفي أنه فرض عين أو فرض كفاية إنما هو في غير حالة الاعتداء على أي بلد إسلامي، أما إذا حصل الاعتداء فعلاً على أي بلد إسلامي فإن الجهاد يكون فرض عين على أهلها. وقد بحث موضوع الجهاد الحافظ ابن حجر، وانتهى إلى أن الجهاد فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، وإلى أن التحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه. وعلى ضوء هذه الأحكام يحكم على ما فعله اليهود في فلسطين بأنه اعتداء على بلد إسلامي يتعين على أهله أن يردوا هذا الاعتداء بالقوة حتى يجلوهم عن بلدهم ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية وهو فرض عين على كل منهم، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين. ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها داراً لكل مسلم فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولاً، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانياً. لأنهم وإن لم يعتد على بلادهم مباشرة إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي هي جزء من البلاد الإسلامية.

وبعد أن عرفنا حكم الشريعة في الاعتداء على بلد إسلامي يمكننا أن نعرف حكم الشريعة في الصلح مع المعتدي هل هو جائز أو غير جائز – والجواب: إن الصلح إذا كان على أساس رد الجزء الذي اعتدى عليه إلى أهله كان صلحاً جائزاً، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحاً باطلاً لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلاً مثله. وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة من أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيها مصلحة للمسلمين. لقوله تعالى ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله )([19])، وقالوا: إن الآية وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآيات أخرى هو قوله تعالى ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)([20])، فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع. ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التي سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم، وليس فيه مصلحة للمسلمين. ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين. أما هذه الشروط والقيود فلا نتعرض لها، لأن غيرنا ممن اشتغل بهذه القضية أقدر على معرفتها وبيانها على وجه التفصيل منا.

والجواب عن السؤال الثاني: إن الأحلاف والمعاهدات التي يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة من الناحية الشرعية إذا كانت في مصلحة المسلمين. أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامي كاليهود المعتدية على فلسطين فإن يكون تقوية لجانب المعتدي يستفيد منه هذا الجانب في الاستمرار في اعتدائه، وربما في التوسع فيه أيضاً، وذلك غير جائز شرعاً ونفضل على هذه الأحلاف أن يتعاون المسلمون على رد أي اعتداء يقع على بلادهم، وأن يعقدوا فيما بينهم عهوداً وأحلافاً تظهرهم قولاً وعملاً يداً واحدة تبطش بكل من تحدثه نفسه بأن يهاجم أي بلد إسلامي. وإذا أضيف إلى هذه العهود والمواثيق التي لا يراد منها الاعتداء على أحد وإنما يراد منها منع الاعتداء والسعي الحثيث – بكل وسيلة في شراء الأسلحة من جميع الجهات التي تصنع الأسلحة والمبادرة بصنع الأسلحة في بلادهم لتقوية الجيوش الإسلامي المتحالفة. فإن ذلك كله يكون أمراً واجباً وضرورياً لضمان السلام الذي يسعى إليه المسلم ، ويتمناه لبلده ولسائر البلاد الإسلامية بل ولغيرها من البلاد غير الإسلامية. ويظهر أن لليهود موقفاً خاصاً فلم يعقد مع أهل فلسطين ولا أية حكومة إسلامية صلحاً ولم تجل بعد عن الأرض المحتلة وهي موجودة بحكم سياسي. هو الهدنة التي فرضتها الدول على الفريقين، ونزلت على حكمها الحكومات الإسلامية إلى أن يجدوا حلاً عادلاً للمسألة، ولم يرض بها اليهود ونقضوها باعتداءاتهم المتكررة التي لم تعد تخفي على أحد. وكل ما فعله المسلمون واعتبره اليهود اعتداء على حقوقهم هو محاصرتهم ومنع السلاح والذخيرة التي تمر ببلادهم عنهم. ولأجل أن نعرف حكم الشريعة في هذه المسألة نذكر أن ما يرسل إلى أهل الحرب نوعان. النوع الأول: السلاح وما هو في حكمه. الثاني: الطعام ونحوه وقد منع الفقهاء أن يرسل إليهم عن طريق بيع السلاح لأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين، وكذا الكراع والحديد والخشب وكل ما يستفاد به في صنع الأسلحة ساء حصل ذلك قبل الموادعة أو بعدها، لأنها على شرف النقض والانقضاء فكانوا حرباً علينا، ولا شك أن حال اليهود أقل شأناً من حال من وادعهم المسلمون مدة معينة على ترك القتال، وعلى فرض تسمية الهدنة موادعة فقد نقضها اليهود باعتداءاتهم ونقض الموادعة من جانب يبطلها ويحل الجانب الآخر منها- وأما النوع الثاني: فقد قالوا إن القياس يقضي في الطعام والثوب ونحوهما بمنعها عنهم إلا أنا عرفنا بالنص حكمه وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه، وقد ورد النص فيمن تربطه بالنبي صلة رحم ولذلك أجابهم إلى طلبهم بعد أن ساءت حالتهم وليس هذا حال اليهود في فلسطين. ولذلك نختار عدم جواز إرسال أي شيء إليهم أخذاً بالقياس ، فإن إرسال غير الأسلحة إليهم يقويهم ويغريهم على التشبث بموقفهم الذي لا تبرره الشريعة. والله تعالى أعلم([21]).

العدد الخامس – مجلة بيت المقدس للدراسات



([1]) [الأنفال : 61].

([2]) [التوبة : 1،2].

([3]) المرجع: مجلة البحوث الإسلامية ، العدد (48) ، ص (134ـ 137) .

([4]) [التوبة  : 29-31].

([5]) رواه البخاري في كتاب ( الجزية والموادعة ) برقم (2923) ، والترمذي في ( السير ) برقم (1512) ، وأحمد في  (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (1569) 

([6]) [الأنفال :61 ].

([7]) المرجع: مجلة البحوث الإسلامية ، العدد (48) ، ص (130 _ 132).

([8]) [المائدة : 82].

([9]) [الممتحنة :4].

([10]) [المائدة : 51].

([11]) [المجادلة :22].

([12]) رواه البخاري في كتاب ( فرض الخُمس ) برقم (2919).

([13]) رواه البخاري في كتاب ( الشروط ) برقم (2528).

([14]) المرجع: مجلة البحوث الإسلامية ، العدد (48) ، ص (127 - 130).

 ([15]) [الحج : 40،41].

([16])   [النور : 55]

([17]) المرجع: كتاب: ( في رثاء الشيخ ابن عثيمين ) ، لمؤلفه: ( مُحَمَّد حامد أحمد ) ، ص (52).

([18]) الأنفال الآية : 60.

([19]) الأنفال الآية : 61.

([20]) محمد الآية : 35.

([21]) المرجع:كتاب مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية جمع وترتيب الشيخ صفوت الشوادفي (جماعة أنصار السنة - إدارة الدعوة والإعلام - لجنة البحث العلمي) فتوى رقم:(22) لفضيلة الشيخ: حسن مأمون – بتاريخ جمادى الأولى 1375هـ الموافق: يناير 1956م.

.