دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

مراكز الدراسات وإدارة الصراع بين الشرق والغرب (2/3)

 

مراكز الدراسات وإدارة الصراع بين الشرق والغرب (2/3)

 

بقلم: وائل رمضان

 

استكمالا لما بدأناه في العدد السابق من أهمية مراكز الدراسات ودورها في إدارة الصراع بين محوري الخير والشر– الشرق الغرب – نقول أنَّ هذا الصراع مهما تعددت ألوانه وأشكاله، ومهما اختلفت ميادينه وساحاته، فإنه يُخْتَزَل في بؤرة واحدة وقضية مركزية هي القضية الفلسطينية، وإنَّ ما نراه من أشكال مختلفة لهذا الصراع في مناطق مختلفة من العالم إنما هو مقدمات للمواجهة الحتمية مع العدو الحقيقي للمسلمين – اليهود – ولا شك أن ما تقوم به الدولة الراعية للإرهاب من بسط نفوذها على العالم إنما هو مقدمات لهذا الصدام الحتمي مع الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المباركة، مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ) رواه مسلم، والذي ينظر لطبيعة العلاقة بين هذه الدولة المتسلطة وهذا الكيان المتطفل يكاد لا يستطيع التفريق بين مَنْ يستخدم مَنْ  لتحقيق أهدافه من كلا الفريقين؟

وكما أشرنا من قبل عن أهمية مراكز الدراسات في إدارة هذا الصراع نجد أن المؤسسة الأمريكية العسكرية تعتمد بشكل كبير جدًا على نتائج الأبحاث والدراسات التي يقوم بها الباحثون اليهود سواء داخل أمريكا أو خارجها، كذلك فإنَّ مراكز الدراسات اليهودية تشكل قاعدة البيانات الأساسية التي تعتمد عليها الإدارة الأمريكية في إدارة هذا الصراع، حيث نجد أن الإعلام الأميركي يعتمد بشكل واسع على خبرة هذه المراكز ودراساتها، ولن نكون مُغالين إذا قلنا إن أغلب النظريات السياسية الأميركية واليهودية تجاه العرب والقضية الفلسطينية بالذات قد وجهتها وبلورتها دراسات وأبحاث مشتركة قامت وتقوم بها المراكز الإستراتيجية في البلدين.

وبلغت إمكانيات هذه المراكز وارتباطاتها وآثارها في خارج الكيان اليهودي بحيث نلمس أن الرسميين في الغرب وأميركا على وجه الخصوص وغيرهم من السياسيين يرددون في مقولاتهم حول قضايا العالم العربي والقضية الفلسطينية نفس المنطق الصهيوني.

وقد أشار إلى ذلك اثنان من الكتاب اليهود المعروفين هما سيمور ليبست وإيرل راب بكتابهما "اليهود والحال الأمريكي الجديد" المنشور عام 1995 حيث يقولان: ( شكل اليهود خلال العقود الثلاثة الماضية 50% من أفضل 200 مثقف  بالولايات المتحدة، 20% من أساتذة الجامعات الرئيسية ).

ولا نستطيع إنكار قوة المراكز اليهودية ، فالدولة التي تنفق ما مقداره 4.7%  من إنتاجها القومي على البحث العلمي - وهذا يمثل أعلى نسبة إنفاق في العالم - لابد أن تصل إلى هذا المستوى، في الوقت الذي تنفق فيه الدول العربية مجتمعه ما مقداره 0.2 % فقط من دخلها القومي على البحث العلمي.

كما أشار إلى ذلك العالم المصري د./ أحمد زويل الحائز على جائزه نوبل في الكيمياء من أن إنتاج العالم العربي من المعارف الانسانية لا يتجاوز 0.0002% من إنتاج العالم، بينما ينتج اليهود 1.0% من المعارف العالمية، أي إن اليهود ينتجون أبحاثًا ومعارف 5000 مرة أكثر من العالم العربي.

وقد كشف مجلس التعليم العالي في الكيان المغتصب، في مؤتمر عقدته جامعة "بير إيلان" العبرية الاثنين 16-11-2009 ، أن هذا الكيان يحتل المرتبة الرابعة في العالم من حيث النشاط العلمي عبر نشر علمائه لمقالات علمية في دوريات غربية مرموقة.

وهذا ليس دليلا فقط على ضآلة إنتاج البحث العلمي العربي وإنما أيضا إشارة إلى تدني كفاءة الباحثين العرب بالمقارنة مع الباحثين من الدول الغربية والكيان اليهودي على وجه الخصوص.

 

ويعتمد اليهود بشكل كبير على مراكز البحوث والدراسات في كافة القطاعات الفاعلة للكيان اليهودي وهذا ما أشار إليه مأمون كيوان الباحث السوري في بحث له بعنوان (مؤسسات الأبحاث وصناعة القرار السياسي) نشر في موقع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org  العدد : 2658  الأربعاء 16 ديسمبر 2009م الموافق 29 ذي الحجة 1430هـ.

فذكر أن الأبحاث والدراسات المعمَّقة من أهم الركائز التي يعتمد عليها السياسيون ومتخذو القرارات في الدول الديمقراطية في رسم وتخطيط سياستهم واتخاذ قراراتهم، حيث إن دراسة القضايا والمعضلات السياسية هي المحور الأول في رسم وبناء الاستراتيجيات في جميع المجالات في العصر الحديث الذي تشكل مناهج البحث العلمي فيه مصدرًا أساسيًا للتعامل مع القضايا والشئون الحياتية.

ويأتي الكيان الصهيوني في مقدمة تلك الدول التي تعتمد بشكل أساس على مراكز البحوث والدراسات في رسم السياسات واتخاذ القرارات، وتنتشر تلك المراكز في كافة قطاعاته كما يلي:

1 - القطاع الجامعي:

حيث تُعَدَّ الجامعات اليهودية الأطر الأكثر اتساعًا في العملية البحثية، إذ تتوافر لها وفيها الكفاءات والخبرات العلمية والظروف الأكاديمية، فضلاً عن توافر الإمكانات المادية والمعنوية اللازمة لعمليتي التدريس والبحث.

ومن أبرز تلك الجامعات: الجامعة العبرية، وجامعة تل أبيب، وجامعة حيفا، وجامعة بار إيلان، وجامعة بن غوريون.

ويتبع الجامعة العبرية عدد من المعاهد والمراكز ومؤسسات الأبحاث المنوط بها إنجاز الأبحاث المتنوعة في شئون الاستشراق والصراع العربي - الصهيوني، منها على سبيل المثال: مؤسسة الأبحاث الشرقية (الاستشراقية)، « المعهد الإسرائيلي للأبحاث الاجتماعية التطبيقية »، « معهد بن تسفي للدراسات اليهودية »، معهد الدراسات الاقتصادية - باسم موريس فالك، مركز دراسة أوضاع عرب (أرض «إسرائيل») في معهد ترومان، معهد ليفي أشكول للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، معهد ليونارد ديفيس للعلاقات الدولية»، معهد مارتن بوبر للتقارب اليهودي – العربي، وغيرها الكثير.

وتضم جامعة تل أبيب أيضًا عدة مؤسسات بحثية مشهورة، تعنى بالشئون العربية واليهودية وبشئون الصراع وغير ذلك، أبرزها:

1. « معهد شيلواح للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية ».

2. مركز موشي ديان (في معهد شيلواح).

3. مركز جافي (يافيه) للدراسات الاستراتيجية ».

(2) القطاع الحكومي: والذي يَعتبر مراكز الدراسات الركيزة الأساس التي تقوم عليها أبحاثه وفقًا للاعتبارات السياسية والأمنية (العسكرية والاستخبارية)، حيث إن حصيلة هذه الأبحاث تجد طريقها إلى دوائر الاستخبارات بأقسامها وفروعها، وهناك يجري تقدير أهمية المادة لتعتمدها المؤسسات الحكومية، وهكذا يحدد الصراع والتوجهات السياسية والأمنية اليهودية الأطر للعمل البحثي في هذه المؤسسات.

 (3) مراكز الفكر الخاصة بالأحزاب:

حيث تعمل لجان وهيئات بحثية في غالبية الأحزاب والحركات اليهودية على تزويد قيادات الأحزاب وكوادرها بالتقديرات التحليلية والتقارير حول الأوضاع الداخلية والإقليمية، ومن أبرز مراكز الأبحاث الحزبية: ( معهد الدراسات العربية - جعفات حفيفا).

(4) مؤسسات البحث « الخاصة »:

وهي مراكز مستقلة لا تتبنى في الغالب توجهات القائمين والداعمين لها ، ويتصدر هذه المراكز مركز فان لير في القدس، والمركز اليهودي للديمقراطية، ومركز بيغن - السادات للبحوث الإستراتيجية.

 

ولا شك أن المقارنة ستكون مُجْحِفة إذا ما أردنا التعرف على حقيقة هذه المراكز في عالمنا العربي والإسلامي، فقد ذكر الكاتب/ فاضل السلطاني في مقال له بجريدة الشرق الأوسط [العدد 8678 الأحـد 23 جمـادى الثانى 1423 هـ 1 سبتمبر 2002]

(أنه لا توجد كالعادة إحصائية دقيقة، سواء عن مراكز الأبحاث الرسمية أو الأهلية في العالم العربي؛ وهي على أية حال قليلة جدًا بالنسبة لكثافة السكان، وقياسًا بالحاجة إليها في مجتمعات نحب أن نسميها بالمجتمعات النامية).

وفي ندوة عقدها مركز البحوث والدراسات الإنسانية بوجدة بالمغرب تحت عنوان: (مراكز الأبحاث إنتاج المعرفة ومسئوليات المثقف) أشار الدكتور/ نصر محمد عارف أستاذ العلوم السياسية إلى واقع مراكز الدراسات العربية فقال: (إن عدد المراكز البحثية أقل بكثير من حاجات المجتمع؛ فالعدد ضئيل جدًّا من حيث الكَم، ومن حيث التمويل، فالإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي يقل عن 1%.)

وحدد عارف عددًا من السلبيات التي تتصف بها المراكز البحثية العربية منها:

- عدم وضوح الوظيفة:  فمعظم هذه المراكز العربية لا يوجد لديها وضوح في الوظيفة، أي أنها تتصف بغياب وجود مجال معين للتخصص.

- عدم وضوح الهدف:  حيث تفتقد هذه المراكز بدرجات متفاوتة وضوح الأهداف؛ فهي لم تحدد أهدافها سواء كانت أكاديمية فكرية أم سياسية أم هما معا وبأية نسبة.

- الفساد الإداري:  حيث تعاني هذه المراكز من الفساد الإداري، وتفتقد قيم المحاسبة والمراجعة، فمن النادر أن تجد مركزًا واحدًا في العالم العربي ينشر ميزانيته.

-  فقدان الاستقلال المالي: فهذه المراكز مفتقدة للاستقلال المالي؛ لأنها لا تبنى برأي الباحث، لا على أوقاف ولا على مؤسسات تمويل مستقلة، ومن ثم تكون خاضعة لعلاقات تبعية حزبية أو سياسية.

- البعد عن الواقع: فهذه المراكز مقطوعة الصلة بالواقع وهو ما يشكل الداء القاتل لهذه المؤسسات؛ لأنها لا تستطيع أن تقنع المجتمع بخلاصاتها، ولا صانع القرار بتوصياتها، ولا تستطيع أن تجذب رجل الأعمال أو الإداري أو صاحب الرأسمال؛ لأنها لا تستطيع أن تقدم له مصلحة، فيساهم في تمويلها.

هذا الفرق الكبير والبون الشاسع بين اهتمام الدول العربية بهذه المراكز وبين اهتمام الكيان الصهيوني بها، يوضح لنا من هو الأجدر بتوجيه دفة هذا الصراع وحشد الرأي العام لتبني قضيته والوقوف جنبًا إلى جنب معه، بل والتحدث بلسانه ومنطقه، وإن كان هو السارق للأرض والمزيف للحقائق والتاريخ.

 لذلك نقول إن وجود مراكز الأبحاث والدراسات أصبح من الضرورات الملِّحة في الوقت الراهن؛ فالتحديات الكبرى التي تواجهها الأمة على جميع المستويات والمجالات، داخليًا وخارجيًا تفرض علينا ضرورة المواجهة والارتفاع إلى مستوى العصر الذي نعيش فيه، ومواكبة تطوره، وامتلاك القدرة على المساهمة في صياغة مستقبل هذا الصراع، وألا نعيش في وضعية أنَّ الآخر هو الذي يضع لنا أجندتنا؛ فأجندتنا للحين ليست من أنفسنا، وإنما مما يمليه علينا الآخر، ولا شك أن مواجهة هذه التحديات لا يتأتى من خلال مجهودات ومبادرات فردية، ولكن من خلال عمل مؤسَّس وممنهج وفق رؤية وتصور واضحين من جهة، وتضافر جهود كافة الطاقات والكفاءات العلمية والفكرية في مختلف المجالات من جهة ثانية، وهو ما يتطلب إيجاد بنية مؤسسية بحثية حاضنة ومستوعبة لهذه الكفاءات والطاقات، تكون كفيلة بتوفير الظروف والشروط المناسبة لتفعيل مثل هذه المراكز لتدخل كمنافس قوي في إدارة هذا الصراع؛  وللحديث بقية إن شاء الله.

 

 

.