أنشطة المركز / للمركز كلمة
العلمانيون الجدد ... وفرض الاستسلام !!
العلمانيون الجدد ... وفرض الاستسلام !!
استوقفتني مجموعة من المقالات المنثورة في الصحف العربية لكتّاب يدَّعون الحداثة والعقلانية، جندوا أقلامهم لتقديم الدعم والمبررات للكيان اليهودي يعجز عنها كتّاب الصحف العبرية!!
كُتّاب تلك المقالات يصفون أنفسهم بأنهم مثقفين ومفكرين وحداثيين وليبراليين جدد ، ويرون أنفسهم أكثر تبصراً واستشرافاً للمستقبل ، وكتاباتهم تدل على أنهم مجموعة من العلمانيين الجدد ؛ لكنهم أصحاب طرح جديد بثوب جديد ، لم تعهده الأمة في عصرها الحاضر ، يقف المسلم مذهولاً من سوء ما يكتبون ويقولون.
هم علمانيون ولكنهم من أجل الدفاع عن اليهود ووجودهم في أرض فلسطين ، يستدلون بآيات من كتاب الله تعالى ، وإن دعت الحاجة بنصوص من التوراة المحرفة ، فالتأريخ المعاصر عندهم هو ما كتبه اليهود والصهاينة فهم أصحاب الرواية التي تصدق ، أما التاريخ العربي والإسلامي للأحداث المعاصرة ، والرواية العربية فمشكوك فيها !!
ومن أجل اليهود توسعت دائرة عداءهم ليوجهوا سهامهم لكل من دافع عن حقوق الفلسطينيين، أو طالب بإرجاع الأرض إلى أهلها ، ولا مانع لديهم أن يوجهوا سهامهم أيضا للعلمانيين القوميين أو الناصرين أو البعثيين إن خالفوهم في تنظيرهم !!
لم يتركوا شبهة وأسطورة من أساطير اليهود ألا حملوها وأشاعوها كما يشيعها اليهود ؛ ينتقمون من أمتنا بدعم أعداءها ، ويبررون ممارسات اليهود كما يبررها المتحدثون الرسميون للكيان الغاصب ، ويثنون على كل ما في الكيان اليهودي بمؤسساته وممارساته !! وصدق فيهم قوله تعالى: " إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ " (آل عمران/120)
لم يبقوا ثناءاً ولا ودفاعاً إلا قالوه في الكيان اليهودي ؛ مدحوا قادته ودستوره وديمقراطيته وعدله وإنصافه ، وأعطوه الحق في إقامة دولته على أرض فلسطين ، والحق في الاحتفال بقيام كيانه ، وأن من يقاتلهم ويعاديهم هو إرهابي ظالم ؛ وتحدوا الأمة الإسلامية بأكملها، فقالوا: أن هذا الكيان باق لأنه وجد ليبقى؛ وبرروا لقادة اليهود كل ممارساتهم بدءاً من تهويد القدس وهدم أجزاء من المسجد الأقصى ، وإقامة الجدار العازل ، وقتل النساء والأطفال ، والاجتياحات وهدم المنازل على اعتبار أن ما يمارسه اليهود هو دفاع عن النفس وحفاظاً لدولتهم ومواطنيهم !! وأنكروا المجازر التي اقترفتها عصابات اليهود !! ومجدوا ذكرى المذبحة النازية والتي يطلقون عليها مسمى "الهولوكوست" ، واعترضوا على تسمية ما حدث في 1948م بالنكبة ، بل عدّوا أن النكبة الحقيقية ليس ما حدث في عام 1948م حينما سقطت فلسطين بيد اليهود وأعلنوا قيام دولتهم ، بل النكبة بوصول حركة إسلامية إلى سدة الحكم في غزة!! ويروجون كذلك للمصطلحات اليهودية ليطمسوا المسميات والمصطلحات الأصيلة التي طالما حافظت عليها الأمة.
ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا تعميم "السلام" ، وذلك بأن نحسن التعامل مع اليهود مهما تجبروا أو تكبروا أو مارسوا أو ساسوا !! لأنهم " الشعب المختار " الذي ينبغي مصادقته مهما كان !! وطالبونا أن نبتعد عن تخوفنا من اليهود ، ومن هواجس التآمر ، ومن وسواس الخيانة ، واتهمات العمالة !!
كانت كتابات هؤلاء في السابق أكثر تورية وتقية لأن الأمة الإسلامية لم تكن بهذا الانكسار والضعف كما عليه الآن ، فصوت هؤلاء وظهورهم يخفت حين تكون الأمة في قوتها ومكانتها التي كانت عليها ، فأصواتهم مرهونة بضعف الأمة وتكالب أعداءها عليها !!
وتطاول بعضهم على القرآن بمطالبته حذف الآيات التي تعرضت لليهود والنصارى ؛ وعادوا قضية فلسطين بجميع حيثياتها ، وأعطوا لليهود حقوق في أرضنا ومقدساتنا ، حتى مصطلح النكبة اعترضوا عليه ، وقالوا أن النكبة الحقيقية نكبة سيطرة الحركات الإسلامية على زمام الأمور في غزة . ويحاربون أي سلاح يرفع بوجه اليهود ، وأي مقاومة حتى لو لم تكن مسلحة ، لا يريدون قول "لا" لليهود !!
ويبررون إسقاط حق العودة لأن رجوعهم إلى أرضهم سيربك " إسرائيل " !!وكذلك السلطة الفلسطينية !! وكتب أحدهم بأن العودة سترفع أسعار الأراضي والعقارات إلى درجة لا يقدر الفلسطيني على العيش بأكثر من مائة سنتمتر مربع !!
وتحت مبرر أن القضية الفلسطينية طالما استغلت من الإسلاميين والقوميين لتأجيج المشاعر الشعبية، يدعو هؤلاء الشعوب العربية للاستيقاظ من رقادهم ليمدوا أيدي السلام إلي إسرائيل التي باتت تمثل واقعاً يجب القبول به !!
ويكتبون "أنه في عام 1948 قامت دولة عبرية علمانية ديمقراطية حداثية ولو تعقلنا - أي أهل فلسطين - لانتفعنا قليلاً أو كثيراً بعلمانيتها وديمقراطيتها وحداثتها بحكم ( الجوار ووحدة المصير ) !! ويدّعون أن الفلسطينيين بوقوفهم ضد قرارات التسوية الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة ، قد أضروا بحق العودة ، ولولا معارضتهم لتلك القرارات لكانوا الآن ينعمون في أرض فلسطين"!!
فجعلوا من دولة "إسرائيل" – عصابات العدوان - نموذجاً يحتذى ، وأعطوا المبررات للممارسات اليهودية كونها تعمل لضمان الوجود والبقاء !! وبرروا للكيان اليهودي تعثره في عملية السلام مع من حوله في العالم العربي بسبب: أن المعاهدات لا تحقق الأمن المطلوب للكيان اليهودي !!
فلم يكتفوا بقوة الدولة العبرية النووية ، ولا بتوفير الحماية الأمريكية والغربية ، بل طالبوا العرب بتوفير الأمن للكيان اليهودي ، ولن يتحقق ذلك – حسب كتاباتهم - إلا حين يتغير العرب كلية ، بقوانينهم وأنظمة حكمهم وثقافة شعوبهم ، لكي نطمئن اليهود على أمنهم !!
جعلوا تبعاً لذلك أن صراعنا مع الكيان اليهودي صراع مرفوض ، وليس من باب المصالح والمفاسد أو لأسباب سياسية ؛ فقالوا: " لا بد أن نقبل اليهود كما هم ونقبل كيانهم على أرض فلسطين كما هو لأنهم رمز الحداثة والرقي والتجديد والعقلانية" !! وأوغلوا في تنظيرهم حتى قالوا بضرورة إعادة صياغة التاريخ المعاصر وسرد أحداث نكبة فلسطين ونكستها بطريقة مغايرة ، لأنهما حدثا بسبب أننا لم نستطع أن نتعامل مع حداثة وتطور الكيان اليهودي !!
وقالوا : لابد أن نعمل لتغيير ثقافتنا العدوانية ، وبناء ثقافة بديلة وهي ثقافة السلام !! لأن الخلل حسب وجهة نظرهم يكمن في الثقافة الإسلامية التي يجب أن تتغير !! ولا تتغير إلا بفتح النوافذ والأبواب لهذا لمحتل وهدم والثقافة وقبول المستعمر بكل ما عنده !!
ويجب استبدالها برواية تتحدث عن مسؤوليتنا نحن عن قيام دولة إسرائيلية بهذا الحجم ، وعن تشريد شعب فلسطين فلو تعاونا مثلاً مع الاستعمار البريطاني لما حدث لنا ما حدث ، ولو وافقنا على الهجرة اليهودية واستقبلناهم بالترحاب والورود ، ولو قبلنا قرار التقسيم عام 1947، الذي أعطى اليهود 55% من أفضل أراضي فلسطين لكان التاريخ قد سار بشكل أفضل ، ولكان الفلسطينيين ينعمون منذ ذلك الحين إلى الآن بالدولة الفلسطينية الآمنة المستقرة!!
نماذج من مقالاتهم :
كتب بعضهم أن لابد من الفصل التام بين يهود اليوم ويهود الأمس، لأن ما جاء في ذكر اليهود من نصوص شرعية هو تفسير لأحداث خاصة في تاريخ معين لا تنطبق على واقعنا اليوم!! وأضاف أحدهم: " أن التوجه لبيت المقدس سببه العامل الاقتصادي !! وأن تحريم الربا سببه توجيه ضربة مالية لليهود !! وأن جانباً من خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة وطردهم منها كان لأسباب مالية بحتة " !!
ليصلوا في النهاية للترويج أن الخطاب الإسلامي حول اليهود واليهودية وكيانهم هو خطاب سطحي ، يضع اليهود في سلة واحدة وقالب "الشيطنة"، وأطلقوا على الخطاب الإسلامي مصطلح "الخطاب التآمري".
وعن مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين كتب أحدهم: " أن القدس بمسجدها الأقصى مدينة مقدسة عند اليهود، ذلك أمر لا مجال للجدال فيه ... وقدسية القدس والمسجد الأقصى في الإسلام حديثة العهد جداً ، وكتب الحديث لا تذكر للرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً يطالب فيه بتحرير المسجد الأقصى أو فتح مدينة القدس أو غزو فلسطين ، وكتب التاريخ لا تذكر أن أحداً من الخلفاء الراشدين قد فكر أو ادعى قدسية القدس" !!
ومن المفارقات العجيبة حين عبر الرئيس بوش عن انبهاره بـ"إسرائيل" ومستقبلها الزاهر "في ذكرى مرور 60 عاماً على قيامها، فإن عدداً غير قليل من الكُتاب اليهود خالفوه في الرأي ، معتبرين أنهم يعيشون في بلد لا مستقبل له !!
إلا أن أحد هؤلاء العلمانيين الجدد كتب: " أن دولة إسرائيل الحديثة نشأت لتدوم وتستمر ، ويحق لدولة إسرائيل أن تحتفل بالذكرى الستين" !! لأنها حق لبني إسرائيل قبل أن ينتشر فيها أهل فلسطين " !!
وفي مقال آخر عدد كاتب منهم تحت ذلك العنوان السبب الحقيقي الكامن - حسب رأيه- وراء قصة النجاح الإسرائيلية والتقدم الإسرائيلي في جميع المجالات هو الديمقراطية في إسرائيل، ويعتبر الكاتب أن "الفرق بين العرب وإسرائيل يتمثل في انعدام الحرية لدى العرب وتوفرها في إسرائيل وبمقدار ما لديهم من عدل, ولدينا من ظلم" !!.
وهؤلاء كذبوا حدوث مذبحة دير ياسين على الرغم ما جاء في كتاب الثورة لمناحم بيغن: "بأن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي، وأضاف "لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل".
وفي مقالة عن اليوم العالمي لضحايا المجزرة النازية كتب أحدهم: " من حق البشرية وواجبها الوجداني والأخلاقي الاحتفال باليوم العالمي لضحايا الكارثة "الهولوكوست" التي راح ضحيتها ستة ملايين إنسان يهودي بريء.. وبهذا يكون ضحايا الهولوكوست هم شهداء الإنسانية قاطبة". وكتب زميله في الفكر: " ما هو الخطر من الاعتراف بالهلوكوست كواقعة تاريخية؟!
كيف نصل لكتاباتهم ؟!
وإذا أردت أن تعرف عن الكثير من تلك الكتابات ما عليك إلا تصفح الكثير من الصحف العربية وكذلك تصفح موقع "وزارة الخارجية "الإسرائيلية" على الشبكة العالمية "الإنترنت" وعنوانه www.altawasul.net والدخول إلى بوابة " كتّاب رأي عرب" ، وستجد العجب العجاب في مدح هذا الكيان وديمقراطيته وعدله وإنصافه وإنسانيته !! حتى ظننت أنني أقرأ عن دولة العدل في عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .
وهؤلاء ولله الحمد والمنة هم فئة قليلة ولكنها دعمت لتكتب وتتكلم فكشفوا عن أنيابهم وأظهروا عداءهم ظناً منهم أن هذه الأمة ستزول ، وبعدها سيكون لهم الجولة والصولة ولكن أنى لهم ذلك وقد تعهد الله تعالى بحفظ الأمة وكتابها المنزل إلى يوم الدين .
خطورة هذه الكتابات ومواجهتها :
خلافنا مع أفكار من نوع آخر تعمل بمنهجية من أجل فتح الأبواب للمحتل، وتمهد الطريق لهيمنته وسيطرته. يدعون في الظاهر أنهم أصحاب رؤية حديثة تجلد الذات ، وتكشف مواطن الضعف فينا ، وتضع الحلول المناسبة ؛ ولكنها في الواقع تذم كل ما عندنا ، وتدمر ثوابتنا للانحناء أمام المستعمر !!
في الختام : نريد أن نكشف زيف هؤلاء ، وتوجهاتهم ، وما يكتبون وينظّرون ، فلابد من مواجهة هذا الخطر ، ومعرفة حقيقته وأبعاده ، ومقاومته مقاومة شاملة ، لأنه عدوان ممنهج على الأمة أرضاً وعقيدتاً وتاريخاً ومستقبلاً ... ولا بد أن توضح حقيقة هؤلاء لكي تكشف الأمور بأن هذا موقف فئة قليلة لا تعبر عن موقف شعوب طالما قدمت لهذه القضية ما تستطيع وما زالت بعطائها متى سنحت لها الفرص ؛ وتعرية فكرهم بمتابعة كتاباتهم ، وفضح أهدافهم ، وكشف حيلهم ومكرهم ، وتوعية الأمة بخطورتهم ، وكشف انتماءات وأبعاد كتاباتهم وما وراءها ؛ والرد على تلك أقوالهم وكتاباتهم ، ودحض شبهاتهم وأكاذيبهم ، ونشر كل ما يثبت حق المسلمين في فلسطين وحقوق أهلها الصامدين ؛ مع التركيز دائماً على ثوابتنا الشرعية والحقوقية .
عيسى القدومي
24/6/2008