فلسطين التاريخ / تاريخ

من روائع أوقاف المسلمين ( 2/10) أوقاف أعادت الحياة للقدس والمسجد الأقصى

 

 

من روائع أوقاف المسلمين

أوقاف أعادت الحياة للقدس والمسجد الأقصى

( 2-10)

 

 

عيسى القدومي

 

 

الوقف بأحكامه وشروطه المتقنة اختص به المسلمون فهو من خصائص الإسلام ؛ قال عنه النووي رحمه الله : وهو مما اختص به المسلمون . وقال الشافعي رحمه الله : لم يحبس أهل الجاهلية دارا ولا أرضا فيما علمت.

فالأمم الأخرى لم تعرف الأوقاف التي تكون خالصة لله تعالى ، ولم تكن بنظام يحافظ عليها وينميها كنظام الوقف في الإسلام ، الذي يعد مجالاً أساسياً  من مجالات استنهاض الأمة والمحافظة على مكانتها وكرامة أفرادها .   

فالوقف يحقق مصالح عظيمة ففيه الحفاظ على المساجد والمعاهد والمستشفيات والخدمات ومساعدة الضعفاء والفقراء وصلة للأرحام والأحباب – الوقف الذري – ورعاية العلم والعلماء وطلبته ، والمحافظة على قوة الأوطان بنماء الاقتصاد والتخفيف من الأعباء ، ومشاركة المجتمع في حل الإشكالات التي تعتري الأمة ؛ وتاريخ حضارة الأمة الإسلامية مليءٌ بالنماذج الرائعة المبدعة في التصدق بأوقاف لترعى مصالح البلاد والعباد .

وسنخصص هذه الحلقة من حلقات روائع أوقاف المسلمين ،  لذكر إبداعات وروائع الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله حينما حرر القدس وفلسطبن من أيدي الصليبيين ، وأراد أن يعيد الحياة للقدس وليهيأ مرافقها لاستقبال من شد الرحال إلى المسجد الأقصى وجاوره بقصد ، وإعادة الطابع الإسلامي لها ، ولا شك أن ما قام به صلاح الدين من الأوقاف الكثيرة التي أوقفها أعادت للمدينة المباركة الحياة ، وساهمت في رجوع المسلمين والاستقرار في القدس .

 

صلاح الدين الأيوبي وإحياؤه للأوقاف في القدس :

 

لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان ، ودخله أهل الإيمان ،

ونودي بالآذان ، وقرئ القرآن ، ووحد الرحمن ، وأقيمت أول جمعة في اليوم الرابع من شعبان ، بعد يوم الفتح بثمان ، فَنُصِبَ المنبر إلى جانب المحراب ، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع ، ولما أذن  المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال ، وعُين للخطابة القاضي محي الدين محـمد بن زكي الدين علي.

وحملت المصاحف ورممت المساجد ، ولكي تستمر وتدب الحياة في المدينة أول ما فكر فيه صلاح الدين الأوقاف ، فحبس الأوقاف - بداية - التي تصرف على إمام المسجد الأقصى والعاملين فيه ، ثم تتالت الأوقاف والتي طالت كل ما يصلح البلاد والعباد ، والتي سأعرضها على سبيل المثال لا الحصر ، لنعي كيف كانت وما زالت الأوقاف تجارة رابحة في الدارين وتنمية وبناء للاقتصاد الإسلامي .    

 

ومن المنشآت التي أقامها صلاح الدين :

1.   الخانقاة الصلاحية : وأوقفت للزاهدين والعابدين إيواءاً وتجمعاً لمجالسهم في 585 هـ ، ووقف عليها السلطان طاحوناً وفرناً وحمام وحوانيت مجاورة وبركة ماء وقطعتي أرض مجاورتين وكذلك صهريجين ، وتضم الخانقاة : مسجداً وغرفاً للسكن ومرافق عامة ، وعين للوقفية ناظرا .

 

2.   المدرسة الصحية : أنشئت عام 583هـ ووقفها السلطان عام 588هـ ، وخصصت لتدريس المذهب الشافعي ووقف عليها الكثير من الأملاك ، ومن ضمنها : سوق العطارين في القدس ووادي سلوان ( جنوب شرق القدس ) – حمام في باب الأسباط ، وقرية عين سلوان وفرن في محلة باب حطة ، ودور متفرقة في القدس ، وبستان بئر أيوب وأراضي أخرى .

3.   البيمارستان الصلاحي : حيث أمر السلطان صلاح الدين بأن تجعل الكنيسة المجاورة لدار الإستبار بيمارستاناً للمرضى – أي مستشفى - ووقف عليه مواضع وزوده بالأدوية والعقاقير ، حيث كان علم الطب يُدّرس فيه إلى جانب ممارسته عملياً ، وأوقفت 40 بيتاً وفرن في محلة القطانين وقبو وطاحون في سوق الزيت وحوانيت عدد 22 ، ودكاكين في سوق الزيت عدد 13 و 6 مخازن وصهريج كبير و 16 قيراطاً من مزرعة حارة الإفرنج وغرس زيتون تعرف بالتربة وحكر خان الزيت مع حكر قبان الزيت وقطعة أرض ( المصرارة ) ظاهر القدس 16 قيراط حصة وقف البيمارستان .

4.      وقف لمصالح المسجد الأقصى المبارك : حيث أوقف صلاح الدين على مصالح المسجد الأقصى سوقاً لبيع الخضروات وسوقاً لبيع القماش .

5.      كتّاب تعليم القرآن الكريم : فقد أنشأ صلاح الدين " كتّاباً " لتعليم القرآن الكريم مقابل المسجد الأقصى ووقف عليه داراً للإنفاق عليه .

6.   المدرسة الخثنية : أوقف صلاح الدين المدرسة الخثنية على رجل من أهل التقوى والصلاح ،  جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد الشاشي ، م من بعده على من يحذو حذوه . وقد وقف على هذه المدرسة في القرن العاشر دار بخط القطانين .

7.   وأوقف مقبرة باب الساهرة : وكانت تسمى في السابق "مقبرة المجاهدين"ولا تزال لليوم مقبرة للمسلمين مع إندثار قسمها الشرقي ، وتعدى اليهود على أراضٍ منها .

8.   المدرسة الميمونية : وقفت سنة 593هـ ، ومن أوقافها قرية بيت دجن الكائنة في جبل نابلس ، وفي عام 1892م جعلها الأتراك مدرسة إعدادية وبعد الاحتلال البريطاني أصبحت مدرسة للبنات وتوجد فيها الآن المدرسة القادسية وهي مدرسة ثانوية .

 

أوقاف في العصر الأيوبي :

9.   المدرسة الجراحية ( الزاوية الجراحية ) : وقفت قبل عام 598هـ وجعل لها وقف ووظائف مرتبة ( وقفها الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحي وهو أحد أمراء السلطان صلاح الدين ) .

10.  المدرسة الأفضلية : وقفت سنة 589هـ على فقهاء المالكية في القدس . وقد أزيلت بعد احتلال اليهود للقدس عام 1967م .

11.  حارة المغاربة : أوقفت الحارة على المغاربة الذين شدوا الرحال إلى القدس .

12. المطهرة : وقفت سنة 589هـ وتتكون من مجموعة من الغرف المخصصة للطهارة وأماكن للوضوء ونزل : قسم للرجال وقسم للنساء ومجموعة غرف تؤجر لوقف المسجد الأقصى .

13.  وكثير من الأوقاف الأخرى : كمقبرة الشهداء ومقبرة ماميلا .

14. المدرسة المعظمية : وقفت على الفقهاء من أصحاب الإمام أبي حنيفة سنة 614هـ ( 1217م) ومن أوقاف هذه المدرسة ( قرية بتير وقرية علاّر الفوقا وقرية علاّر السفلى وقرية دير السد ومزرعة دير السلام بالقرب من قرية رامة . وقد أصبحت – للأسف- تلك الأوقاف في الغالب بأيدي الناس إقطاعاً وملكاً .

 

15. القبة النحوية أو المدرسة النحوية : أنشئت عام 604هـ - 1207م وخُصصت لتدريس العلوم العربية ، ووقف عليها قرية تسمى بيت لقيا بالقرب من  القدس.

16.  المدرسة البدرية : وقُفت على أصحاب المذهب الشافعي سنة 610هـ - 1213م وهي الآن دار للسكن . وقد كان لها أوقاف وقفت عليها .

17.  سبيل شعلان : بني هذا السبيل سنة 613هـ - 1216م وأوقفت لهذا السبيل بئراً وصهريج ماء .

ومن أوقاف العصر الأيوبي أيضاً : قرية دير عامر ، وقرية برير  ( بيت إبرير ) ، وتربة بركة خاتون حيث جددت ووسعت التربة في العصر المملوكي ، وقبة موسى حيث أنشئت عام 647هـ - 1249م لإقامة الشيوخ وهي الآن مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم .

 

امتاز العهد الأيوبي بإنشاء المدارس والمعاهد والمراكز للطبابة والأسبلة والزوايا والمساكن والمقابر ، وأوقفت لتلك الأوقاف أوقاف تدر ريعاً ليصرف عليها ، فكانت مؤسسات خدماتية واقتصادية لخدمة سكان المدينة وزوارها ... فكانت الأسواق والحمامات والخانات ( الفنادق ) التجارية أصل ثابت وريع دائم .

وهكذا أعاد الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة ، ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس ، وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها .

وعادت الحياة إلى القدس سريعاً بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عاماً وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي ، وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى ، وبفضل الله تعالى ثم فقه وحنكة الناصر صلاح الدين أعيدت الحياة الاقتصادية للقدس وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة . 

 

.