دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

خطوات في بناء الشخصية المسلمة من أجل بناء جيل تحرير فلسطين

 

 

 

 

 

 

خطوات في بناء الشخصية المسلمة

من أجل بناء جيل تحرير فلسطين

 

 

 

الحمدلله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي المختار الذي ملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، وأقام الدين صراطاً مستقيماً لا اعوجاج فيه، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين الذين رباهم على عينيه ففتحوا الدنيا وأقاموا الشرع والدين، حتى أضحوا منارات الهدى على مر الأزمان والعصور.

 

وسط زحمة الانشغالات والانخراط في متاهات الدنيا تظهر تساؤلات على الطريق:

- هل بدأت تفقد اللذة في العبادة؟ وتشعر بثقلها؟!

- كيف هي علاقتك بكتاب الله؟! ما هي حالك مع صلاة الفجر؟  أين أنت من الصف الأول من الجماعة؟!

- هل تذكر آخر مرة فاضت عينيك من خشية الله؟! وهل فقدت هذه القيمة في خاصة نفسك وخلواتك؟!

- كم هي النسبة التي تعطيها لله عز وجل في يومك وليلتك؟ هل يقل معدلها مع مرور الأيام أم يزيد؟!

- كم تحتل مساحة الدنيا في حياتك؟ هل تأنس لها وتطيب نفسك بها؟ هل ترى أنها استهلكتك، أم أنك ما زلت ممسكاً بزمامها!!

- هل تهتم بأمر المسلمين ومصابهم؟ وهل تتابع ما يحدث لهم؟ وهل تحاول أن تكون فاعلاً في نصرتهم؟

- كم هي مكانة المسجد الأقصى في قلبك؟ وهل تحتل فلسطين جزءاً من اهتماماتك؟

 

المقدمة:

          أوصى الصدّيق أبو بكر الفاروق عمر رضي الله عنهما فقال: (إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك)، وعلق الإمام ابن رجب على ذلك فقال: ( فهذا الجهاد (أي جهاد النفس) يحتاج أيضًا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه، وحصل له النصر والظفر، وملك نفسه، فصار ملكًا عزيزًا، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك، غُلب وقُهر وأُسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يد شيطانه وهواه) [جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، (1/196)].

          إن هذا الموضوع الذي نحن بصدده يعد واحدًا من أخطر المواضيع التي تمس واقع المستقيمين اليوم وتهمهم، لأنه إذا آتى ثماره، فإنه سيمثل نقلة بعيدة في حياة الكثير منهم، إن ما نتحدث عنه معكم في هذه الصفحات، هو كيف تربي نفسك لتكون جندياً من جنود الله تلبي داعي الجهاد إذا ما نادى يوماً لتحرير المقدسات؟

إن الحديث عن تربية النفس وترويض الذات من الأهمية بمكان... أتدري لماذا؟ لأن أول مسئولياتك هي مسئوليتك أمام نفسك، ومن هنا كان حري بك أيها الحبيب أن تعتني بتربية نفسك وإصلاحها، والسعي لما فيه سعادتها بإذن الله في الدنيا والآخرة. قال تعالى: " ... لا تكلف إلا نفسك.." النساء/84 ، وقال تعالى: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" محمد/17

 

ماذا نقصد:

          وربما يقفز إلى ذهنك الآن سؤال يقول: ترى ما المقصود بالضبط بتربية الذات، والإجابة عن هذا السؤال تكمن في أننا حينما نتحدث على وجه الخصوص عن دور المستقيم في تربية نفسه؛ (فإننا نقصد بها ذلك الجهد الذي يبذله المستقيم من خلال أعماله الفردية، أو من خلال تفاعله مع برامج عامة وجماعية لتربية نفسه؛ فهي تتمثل في شقين: الأول: جهد فردي بحت يبذله المستقيم لنفسه، والثاني: جهد فردي يبذله من خلال تفاعله مع برامج عامة) وفي كلا الشقين يحاول أن يرقى بها للأفضل [بتصرف من التربية الذاتية، د.محمد الدويش].

قال تعالى: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً" الإسراء/19، وقال صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" رواه مسلم.

إنها الغاية التي نريد أن نبلغها لنكون عباد الله تعالى الربانيين الذين يستقيمون على الوحي الإلهي، قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" الجمعة/2

 

لماذا نربي أنفسنا؟

          إننا في أمس الحاجة لتربية أنفسنا؛ وإلا انطبق علينا وصف الشيخ المربي ابن القيم رحمه الله حينما تحدث عن هذا الذي أهمل في نفسه، ولم تنهض همته للعيش بنفس طيبة طاهرة ثابتة تطلب العز ومعالي الأمور، فقال: (فلا يزال في حضيض طبعه محبوسًا، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدرًا منكوسًا، وقد سأم نفسه مع الأغنام راعيًا مع الهمل، استطاب لُقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل) [ابن القيم، مفتاح دار السعادة، (1/46)].

وهنا ربما يقفز إلى الذهن سؤال آخر، حول أهمية مطالبة المستقيمين ببذل الجهد واستفراغ الوسع في تربية نفسه، فيا ترى ما أسباب هذه المطالبة وما أهميتها ومسوغاتها؟

          لا ريب أن هناك أسباب عدة تدفعنا نحن المستقيمون لحمل مسئولية أنفسنا وبذل الجهد في تربيتها، ومن ذلك:

 

أولًا: لا تزر وازرة وزر أخرى:

          إنه قانون المسئولية الفردية الذي يربينا عليه القرآن، فكل منا، بل كل إنسان خلقه الله وبراه مسئول، نعم إنه مسئول مسئولية فردية، وها هو القرآن واضح البيان في هذه القضية فاسمع أيها الحبيب: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]، وقال جل في علاه أيضاً: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].

          (إنك حين تقرأ في نصوص القرآن الكريم أو في نصوص السنة النبوية؛ تجد التأكيد الواضح على أن كل فرد مسئول مسئولية خاصة عن نفسه، حتى ذاك الفرد الذي يتعرض إلى الإضلال والغواية من خلال الضغط الذي يمارسه عليه غيره، سواء أكان ضغطًا نفسيًا أم ضغطًا اجتماعيًّا ـ أيًا كان مصدر هذا الضغط ـ فإنه لا يعفيه ذلك من المسئولية) [التربية الذاتية، د.محمد الدويش].

وإذا طالعنا القرآن الكريم نجد في آيات عديدة نماذج من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الذين اتَّبَعوا وبين الذين اتُّبِعوا، أو بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، فيأتي المستضعفون يطالبون أولئك المستكبرين الذين كانوا سببًا في إضلالهم وغوايتهم أن يتحملوا عنهم جزءًا من العذاب، فاسمع معي لهذا الحوار: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21].

وﭧ ﭨ ﭽ                            البقرة

          فهل يا ترى ستعفى من المسئولية أمام رب البرية سبحانه وتعالى، وهل سيغنيك أن تتلفت يمنة ويسرة يوم القيامة تطلب من تستعين به!

         

ثانيًا: ستأتي يوم القيامة فردًا:

          وهنا نقف مرة أخرى مع كتاب ربنا المعجز، الذي والله لو تدبرناه ووعينا ما فيه لكان لهذا التدبر وهذا التأمل أعظم الأثر في هداية نفوسنا ووضوح طريقنا، فها هو القرآن يطل علينا من جديد يبث فينا الأهمية حول نفس القضية، قضية تربية الذات وتحمل المرء لمسئولية نفسه والعمل الجهيد على تربيتها، فهذه المرة يخبرنا القرآن أن كل إنسان سيحاسب يوم القيامة فردًا أمام الله تبارك وتعالى، وهذا مما يعمق لدى الإنسان بلا شك قضية تحمل المسئولية وأهمية تربية الذات؛ إذ أنها ستقف يوم القيامة لتُسأل عما قدمت في حياتها الدنيا كما حكى المنان في آي القرآن: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123]، وفي آية أخرى يقول عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93-95], فكل إنسان سيقدم على الله فردًا وحيدًا، وسيحاسب محاسبة فردية؛ فلابد أن يتحمل مسئولية نفسه في تربيتها وتزكيتها وقيادتها إلى طريق الخير والاستقامة، حتى يجد ما يسره في يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

          وهذا هو المربي الأعظم، والمعلم الأول خير الورى صلى الله عليه وسلم يطل علينا من شرفات الآخرة: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم من عمله، وينظر تلقاء وجهه فيرى النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة) [رواه البخاري ومسلم].

وتذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل وبماذا ستنجو من عذابه عند السؤال؟! ما هو العمل الذي سيكون شافعاً لك بين يديه سبحانه.

 

  ثالثًا: الإنسان أعلم بنفسه:

          أما الأمر الثالث والخطير الذي يكشف لك أيها المستقيم عن هذا السؤال الجوهري الهام، لماذا نربي أنفسنا؟ فتأتي الإجابة فيه منطقية تتوافق والعقل السليم والفكر المبصر الصحيح، إذ أن الإنسان يقوم بتربية نفسه وذاته لأنه أعلم بمداخل النفس التي يحويها بين جنبيه، وأعلم بجوانب الضعف والقصور فيها، ومن هنا فهو الأصلح والأقدر على التعامل مع نفسه بالأسلوب الأقوم.

فإنه من الممكن أن يتصنع المرء أمام الناس ويتظاهر أمامهم بالخير، أو ربما يدعوه لذلك الحياء والمجاملة، أما ما في نفسه فهو أعلم بها من سائر البشر، حينئذ فهو أقدر من غيره على علاج جوانب القصور في نفسه، والأخذ بها إلى شاطئ الأمن والأمان محافظًا عليها قدر المستطاع من كل ذَلَّة مذلة، أو فتنة مضلة.

          فالله عز وجل (لم يخلق الإنسان عبثًا ولم يتركه هملًا، فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه أسجد له ملائكته المقربين، ثم أهبطه إلى الأرض مع الجان ليكون الابتلاء والامتحان، واستخلفه في الأرض ليعمرها بطاعته، والخليفة لله في أرضه هو المكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غيره) [صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم: عبد الرحمن بن محمد الدوسري، (2/72)].

"إن هناك أسلوبًا آخر لتلقي التربية وتشرب المعرفة من دون المدرس، وهو ما يعرف بالتربية الذاتية أو التلقائية، حيث يربي الفرد نفسه ويوجهها وجهة سليمة بما يوافق الغاية التي من أجلها أوجده الله عز وجل على هذه البسيطة وصيره فيها خليفة.

   ولذا فإن للفرد مسئولية عظمى تجاه نفسه وتربيتها، فهو مطالب ببلوغ الكمال البشري الذي ينبغي أن ينشده كل إنسان بلغ مرحلة الرشد والتكليف، ولن يتأتى له ذلك إلا بإتباع المنهج الإلهي، قال تعالى: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}  [الأنعام: 162-163]) [بتصرف التربية الذاتية، د.هاشم علي الأهدل].

 

وسائل على الطريق:

إن قضية تربية النفس وحملها للاستعداد للمرحلة المقبلة ينبغي أن تحتل مكانة وأهمية لدى كل منا، لأن المستقيم إذا ملك زمام نفسه وقدر عليها كان بعون الله على غيرها أقدر، وفي ارتقاء سلم المعالي أسرع، أما إن كانت الأخرى فعجز أمامها وأفلت منه زمامها كان على غيرها أعجز، وفي مشيته يتلكأ، حتى يقعد عن الخيرات ويفرط في الصالحات، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

وهنا سنعمد إلى بناء جوانب التربية الذاتية، ووسائلها التي تعين السالك لكي يعد نفسه، وهي بصورة مختصرة تكفي اللبيب منها الإشارة:

 

أولاً: صلتك بالله:

إنها الصلة بالله تبارك وتعالى فإنها ولاشك أهم هذه الجوانب؛ فتربية الذات على الصلة بالله إنما هي أصل الأصول في قضية التربية الذاتية وعلى إثر هذه الصلة بالمولى عز وجل يأتي ما بعدها من ثمرات.

 أما عن وسائل تحقيق هذه الصلة بالله تبارك وتعالى، فأولها في اهتمام المستقيم بالفرائض والطاعات والثبات على اجتناب النواهي والمحرمات، ومحاسبة النفس على مدى المحافظة أو التقصير في هذه الطاعات والفرائض ليصل بها لدرجة الكمال ما استطاع.

فإن المرء بذلك يبني صلته بالله ويضع أسسها، ثم تأتي بعد ذلك الاستزادة من النوافل كنوافل الصلاة والصيام والصدقة وغيرهما لتشد هذه الصلة وتوطد هذه العلاقة بعلام الغيوب سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) [رواه البخاري].

ونحن نتحدث عن صلة المرء بالله عز وجل نشير إلى ضرورة سعي المرء لتطهير القلب من التعلق بغير الله، فصلاح القلب مناط تربية الصلة بالله عز وجل، بل هو مناط النجاة يوم القيامة، قال الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87-88]، وفي الآية الأخرى وصفه تبارك وتعالى بأنه جاء ربه بقلب سليم  {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83-84].

     أليس صلاح الجسد كله وفساده كذلك يتوقف على تلك المضغة الصغيرة، ألا وهي القلب وبذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، حينما قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [متفق عليه].

     وإذا ظفرت بهذه (صلة قوية بالله)، فإن الحال يستقر والأمور تستقيم، والنفس تطمئن، والقلب يضيء.

 وتأمل في قول أبي بكر رضي الله عنه عندما جاء بصدقته ووضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... تركت لهم الله ورسوله".

ألا ترون إخواني إن الأمة تحتاج إلى من إذا أقسم على الله أبره، إلى من إذا رفع يديه إلى السماء داعياً انفتحت له أبواب القبول، ومن إذا ألح على الله تعالى نزل التأييد عاجلاً غير آجل، إلى من يبذل بذل من لا يخشى الفاقة، إلى من طلق الدنيا رغبة بجنة عرضها السماوات والأرض.

قال تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" الشمس 9-10 ، إن كل واحد منا يستطيع أن يخدم هذا الدين بأن يكون عبقرياً في درب من دروب الاستقامة. وتدبر معي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى". رواه أبو داود/ عن أبي ذر، صحيح الجامع/8097 وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وهنا يجدر الإشارة إلى العبادة الخفية التي لا بد للمستقيم أن يجعلها بينه وبين ربه جل في علاه، وأسماها وأعلاها (الصلاة في جوف الليل وصدقة السر)، وتأمل في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ..... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". متفق عليه.

 

ثانياً: تحصيل العلم:

وثاني هذه الجوانب هو العلم الشرعي، ومن فضل الله ومنته أن وسائل تحصيل العلم الشرعي ميسرة لمن أراد لذلك سبيلًا، فإما من خلال حلقات ومجالس العلم التي تعقد في بيوت الله جل وعلا، أو من خلال الدراسة المتخصصة، هذا بالإضافة للأنشطة المختلفة التي تقام فيها الدروس العلمية ، وإلى جانب ذلك يلعب الجهد الفردي الذي يبذله المستقيم دورًا كبيرًا في تحصيل العلم، سواء من خلال مداومة القراءة والاطلاع، أو الاستماع مثلًا للأشرطة التي تحوي المواد العلمية.

وها هو الإمام ابن الجوزي يوصي ابنه فيقول: (وأول ما ينبغي النظر فيه معرفة الله تعالى بالدليل... ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وأكبر الدلائل القرءان الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله... ثم ينبغي له أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة، والزكاة إن كان له مال، والحج، وغير ذلك من الواجبات، فإذا عرف قدرَ الواجب وقام به فينبغي لذي الهمة أن يترقى إلى الفضائل، فيتشاغل بحفظ القرءان وتفسيره، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة سِيَرِه وسِيَر أصحابه والعلماء بعدهم، ليتخيَّر مرتبة الأعلى فالأعلى) [لفتة الكبد في نصيحة الولد، ابن الجوزي، ص (3،2)].

ومقصودنا هنا كل علم يعين على إعزاز الدين ورفع راية الحق، ولا يكون إلا بثلاثة أمور:

1- تعظيم العلم وإجلاله وأهله واعتقاد خطورته.

قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله:

وقدس العلم واعرف قدر حرمته ... لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم.

2- الجد في طلبه وترك الدعة والكسل ومسابقة الغير فيه.

3- الالتزام بمنهج جاد يسار عليه ويعول.

 

ثالثاً: العلم يهتف بالعمل:

وثالث هذه الجوانب هي تربية الذات على العمل الصالح في كافة جوانبه وشعبه، لأن الإنسان لا ينبغي أن يعتمد في تربيته لنفسه على الجانب النظري فحسب دون العمل الذي يرقى فيه نحو منازل عليين، إذ الإنسان لو أراد أن يتدرب على مهنة أو حرفة معينة، ويبلغ فيها حد الإتقان فإنه لا يقتصر على سؤال من يجيدها أو سؤال ذوي العلم من هؤلاء، بل ينزل هو بنفسه للميدان ويخوض التجربة ويعمل ويزاول ومن خلال التدريب والممارسة يتقن الفن ويتعلم المهنة.

ﭧﭨ ﭽ                                     آل عمران: ١٠٤ عمل متواصل ودؤوب من أجل إقامة هذا الدين.

وجماع ذلك في تأمل قول الله عزو وجل: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

وانظر للعباد والعلماء فلولا مكابدتهم العمل وصبرهم عليه بعد توفيق الله، لما هان عليهم الطريق وسهل عليهم سلوكه حتى بلغوا ما بلغوا.

 

رابعاً: خلقك الرفيع:

(فما عرف الإسلام يومًا المسلم الذي ينجح في اختبار أداء العبادات الظاهرة، فيحافظ على الصلاة والذكر والتلاوة، ثم يرسب رسوبًا ساحقًا في اختبار معاملة العباد بأخلاقيات الإسلام، حتى سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فلانة من النساء، تصلي الليل وتصوم النهار وتؤذي جيرانها، فقال صلى الله عليه وسلم: (هي في النار) [صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2560)]، وكيف لا نسعى لتربية أنفسنا على الخلق الرفيع، وقائدنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم خاطبه ربه قائلًا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ووصفته الصديقة عائشة رضي الله عنها؛ فقالت: (كان خلقه القرآن) [صححه الألباني في صحيح الجامع، (4811)]، وهكذا كان صحابته الكرام الأبرار، كبيرهم وصغيرهم، شبابهم وشيوخهم، رجالهم ونسائهم وأطفالهم، مجتمع بأكمله متمثل بالأخلاق النبوية الرفيعة، التي علمهم إياها محمد صلى الله عليه وسلم، جيل فذ فريد يحار الكلم في وصف سمو أخلاقه، ورفعة شمائله) [الفجر القادم، محمد السيد عبد الرازق، (19-20)].

وتذكر أخي الحبيب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" رواه أبو داود عن عائشة/ 4798 ، فكيف بنا ونحن ندّعي السير على منهجهم.

 

 خامساً: أنفاسك المعدودة:

(ويتأكد هذا الأمر في حق من اشتغلوا بدعوة غيرهم وتربيتهم؛ فهذا العمل يأخذ عليهم زبدة أوقاتهم، لكن الاعتناء بتنظيم الوقت والحزم مع النفس في ذلك مما يعينهم على أن يوفروا لأنفسهم قدرًا من الوقت كان يضيع سدى؛ فيستثمروه في تربية أنفسهم والرقي بها، إن استغلال الوقت مهارة وقدرة يحتاج المستقيم أن يربي نفسه عليها، وليست مجرد اقتناع من الإنسان بأهمية الوقت) [بتصرف تربية الذات، د.إبراهيم الدويش].

فالحذر الحذر من إهدار الوقت (ولذا كان يقال: (أن من علامة مقت الله سبحانه وتعالى إضاعة الوقت)، وكذلك قيل: (الوقت كالسيف؛ إن لم تقطعه قطعك)، ويقول الحسن البصري عليه رحمة الله: (يا ابن آدم: إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم، ذهب بعضك) [شباب بلا مشاكل، د.أكرم رضا، (272)].

وإن تعجب فاعجب من إهدار الأوقات الثمينة عند المستقيمين في مواسم الخيرات، وهم يحسبون أنهم بما معهم من تدين قد بلغوا شاطئ الأمان!

 

سادساً: صناعة الإنجاز: (من خلال الرصيد الذي تجمعه)

إن إنجازًا كبيرًا يمكن أن يصنعه المرء، فهناك برامج عامة يتلقاها الإنسان مع إخوانه، كحلق العلم ومجالس حفظ القرآن والتجمعات الخيرية إلى آخر ذلك، ولاشك أن هذه الأنشطة تحتاج من المرء تفاعلًا كبيرًا وحقيقياً، وذلك من خلال التركيز والاستيعاب، ومن خلال أخذ النفس بالعمل والتطبيق بعد ذلك، ومن ثم تكون هذه الأنشطة بناء حقيقيًا في شخصية المستقيم ودفعًا به نحو الأمام، إذا أحسن التفاعل معها والاستفادة منها، بما يرجع ببالغ الأثر على نفسه خاصة في مجال تربيتها وصقلها.

إنها الطريقة التي ننشدها لكي يعد المستقيم نفسه أن يكون مرجعاً لكل أحد فيما يريد أن يتميز به.

 

 سابعاً: الجماعية:

إن المتأمل الحاذق في قضية التربية يعلم ما للجماعية من أهمية، (وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسية الصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين ، كيف يتدرب الإنسان على الأخوة إذا لم يمارس الأخوة بمشاعرها؟ مع الإخوة الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذا لم يقم بهذا الفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إذا لم يكن هناك إلا نفسه؟ إن الوجود في الجماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر وهذه الألوان من السلوك، والشاب الذي يعيش في عزلة عن الآخرين وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم تنمو بعض جوانب نفسه وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل) [بتصرف ، منهج التربية الإسلامية، محمد قطب].

إن بعض الناس يقول: علي أن أنعزل لوحدي لأهتم بتربية نفسي، وهذا غير صحيح فالجماعية مهمة للتربية الذاتية لأمور:

(أولًا: هناك أمور جماعية لا يمكن أن تؤديها إلا من خلال الجماعة، كمشاعر الأخوة والتعاون والإيثار والصبر على جفاء الآخرين.

ثانيًا: من خلال الجماعة تجد القدوة الصالحة، وهي مهمة للتربية.

ثالثًا: من خلال الجماعة تجد القدوة السيئة وهي أيضًا مهمة للتربية؛ فحين ترى فردًا سيء الخلق تدرك كيف يخسر الآخرين، ومن ثم تدرك شؤم سوء الخلق، وترى إنسانًا كسولًا فتدرك أثر الكسل والتفريط، إذًا أنت تحتاج إلى القدوة السيئة لا لتلازمها وتعاشرها ولكن عندما ترى هذا النموذج تجتنبه.

عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه 

 ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه

 

رابعًا: اكتشاف أخطاء النفس، وترويضها؛ فالإنسان الذي يعيش في عزلة يكون في الأغلب إنسانًا حادًا في تعامله مع الآخرين، مثاليًّا في أحكامه وفي المشروعات التي يطرحها وعندما ينتقد الآخرين وعندما يوجههم، فهو مهما امتلك من القدرات تبقى لديه جوانب قصور واضحة من خلال العزلة والسياج الذي فرضه على نفسه، ومن هنا نقول لابد من الجماعة في التربية الذاتية) لأنه بها يستطيع تقييم نفسه على الحقيقة وتصحيحها [بتصرف، تربية الذات، م د.محمد الدويش].

 

ثامناً: الثقة بالنفس:

دعونا نتفق بداية أن المرء الذي يمتلك شعورًا بأنه قادر على أن يرقى بنفسه في درجات الكمال البشري، يستطيع أن يحقق كثيرًا من الإنجازات، ويكون أقدر بعون الله على تربية نفسه، أما المنهزم نفسيًا الذي لا يثق بنفسه فإنه من العسير عليه أن يصنع إنجازًا أو يرقى بنفسه، لأنه يضع الحواجز والمعوقات دائماً أمامه.

ومن لا يحب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر.

فالكثير منا يرهق نفسه، دون قصد بوقوعه في خطأ التقليل من شأن نفسه، مما يدفعنا إلى الشعور بالفشل في الثقة بقدراتنا وحكمتنا، ومن ثم يكون الإحباط، ونبقى في محلنا نراوح.

كما ينبغي أن نراعي الوسط الذي هو الحق بين الطرفين طرف الإفراط والآخر التفريط، فالإنسان يجب أن يثق أن قادر على أن يفعل هذا الشيء بعون الله ومدده، مما يحول بينه وبين إصابته بغرور مدمر أو إعجاب مزلزل، بل مع ثقته بنفسه، يعلم يقينًا من نفسه التقصير والخطأ.

 

تاسعاً: محاسبة النفس (ومراجعتها أولاً بأول):

وذلك رأس الأمر وتحقيق إخلاصه، أثناء العمل وبعده، فتكافئ نفسك إن أحسنت وتحاسبها إن قصرت، كما كانت وصية فاروق الأمة رضي الله عنه "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا"، ويروى عن ميمون بن مهران أنه قال: (لا يكون العبد تقيًا حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، من أين مطعمه وملبسه) [حلية الأولياء، أبو نعيم، (2/114)].

 

عاشراً: حدّث نفسك بالجهاد دائماً:

عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله تعالى بقارعة قبل يوم القيامة" رواه أبو داود/ السلسلة الصحيحة: 2561، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق" رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة/ صحيح الجامع: 6548.

إن ما نرومه اليوم هو تلك النفس التواقة للجهاد التي تتربص الدقائق والساعات من أجل المشاركة في ميادين البطولة والإباء لترفع عن أمتها الذل والهوان وتعيد لها مجدها التليد ويستعيد لها ما انتزع من مقدساتها وحرماتها. وهي دون ذلك تعد العدة لبلوغ هذه الغاية أو تساهم بمالها ووقتها وخبرتها في دفع مشروع الأمة نحو بلوغ التمام.

ﭧ ﭨﭽ                                                                          الأنفال: ٦٠    وﭧﭨ                         آل عمران: ٢٠٠

 

وأخيراً:

هذه ومضات على الطريق تأخذ بأيدينا لبلوغ شط الأمان، لنلقى الله ونحن نبذل الجهد في تحقيق وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أبو داود عن ثوبان/ صحيح الجامع: 423 .

 

مبتسم الأحمد

 

 

.