فلسطين التاريخ / تهويد وتزوير وإجرام

سياسة الاغتيالات منذ مائة عام ... ماذا تغير؟!!

عيسى القدومي

 

الحقيقة التي يجب أن تُعرف لمن يقرأ التاريخ المعاصر أن مأساة فلسطين لم تبدأ بقيادة فلسطين من هذا أو ذاك، بل هي مسيرة ظلم عانى منه الفلسطينيون لأكثر من مائة سنة، فمأساة فلسطين بدأت منذ اقتلاع أهلها من أرضهم، وإحلال شتات اليهود في مساكنهم وممتلكاتهم وأرضهم.

 فقادة الاحتلال في فلسطين أصحاب مشروع واحد" وهو تمكين ذلك الكيان الغاصب من أرض فلسطين ولن يكون ذلك إلا بتلك الممارسات الوحشية، من قتل الرموز القيادية للشعب الفلسطيني، وهدفهم واحد هو الإذلال الذي عبر عنه رئيس حكومة الاحتلال الأسبق إيهود باراك بقوله: "إسرائيل تعلمت أنه ليس ثمة سبيل لتحقيق النصر بالاحتلال، وإن الطريق الوحيد هو اختيار شدة المهانة "!!

فمنذ بداية المشروع البريطاني (الانتداب) عام ١٩١٧م وامتداده إلى عام ١٩٤٨م؛ كانت هناك مقاومة فلسطينية تهدأ أحيانا وتتصاعد أحياناً أخرى؛ وكان أهل فلسطين لا يواجهوا بريطانيا واليهود فقط بل كانوا يواجهوا القوى العالمية الداعمة بكل أشكال الدعم لقيام دولة يهود على أرض فلسطين.

وقامت خلالها عدة ثورات واشتباكات منها ثورة البراق عام ١٩٤٨ - ١٩٢٩ إلى الاضراب العام وأطول اضراب من ١٩٣٦م إلى ١٩٣٩م، وتخللتها ثورة عز الدين القسام ١٩٣٤ - ١٩٣٥م مروراً بحراك ومقاومة المجاهد عبدالقادر الحسني إلى عام 1948م، بل كان يحاسب ويحاكم بأشد الأحكام من وجد عنده رصاصة عوضاً عن البندقية لإضعاف إمكانية المقاومة المسلحة، ومع ذلك وجدت تلك المقاومة.

وقد تخللت تلك السنوات أحكام الاعدام شنقاً على النشطاء من قادة الحراك الفلسطيني وقد خلد التاريخ الفلسطيني تلك الأسماء؛ كالشيخ فرحان السعدي ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، ومنهم من غيب بسبب ضعف التوثيق لأحداث التاريخ الدقيق، على الرغم من وجود مجلات وصحف فلسطينية وعربية كانت فاعلة لحد ما كمجلة الفتح ومجلة المنار والزهراء وغيرها من المجلات، وكذلك بيانات وإصدارات الهيئة العربية العليا والإسلامية؛ ولا شك أن الجهد الكبير الذي بذله قادة المؤسسات والهيئات والعلماء في فلسطين، يجيب على سؤال: هل كان أهل فلسطين وأعيانها وعلماؤها مغيبين عن ذلك المشروع وخداعه؟ والحقيقة أن معظم الفلسطينيين، مثقفين وقادة وصحفيين، كانوا ما يزالون غير مدركين لمدى تصميم الحركة الصهيونية على إخراجهم من فلسطين، وتواطؤ الانتداب معهم.

وعلى الرغم من تواطؤ بريطانيا مع العصابات الصهيونية إلا أن تلك العصابات مارست الإرهاب ليس على الفلسطينيين فحسب بل على حكومة الانتداب، فقد اختطفوا القضاة الذين أصدروا أحكاماً ضد بعض أفراد العصابات اليهودية، وهذا ما دفع بريطانيا إلى إعلان الأحكام العرفية في تل أبيب؛ ومع ذلك لم تتخذ حكومة لندن أي إجراءات رادعة ضد المسئولين عن اختطاف القضاة، علماً بأن الوثائق البريطانية تشير إلى وجود صلة قوية بين الوكالة اليهودية وبين الأرجون التي ارتكبت الحادث.

واكتفى باركر القائد العسكري بأن أصدر الأوامر إلى ضباطه بألا يقيموا علاقات اجتماعية مع اليهود وكانوا كثيراً يلجؤون إلى وساطة وايزمان وغيره من الدبلوماسيين أصدقاء انجلترا لكي يفرج عن المعتقلين.

     ومسألة التطهير العرقي في فلسطين لم تكن طارئة، أو وليدة الأحداث التي جرت قبل عام 1948، وإنما هي فكرة مبيّتة نشأت وتبلورت منذ إقامة الحركة الصهيونية على يد تيودور هرتزل وتلاميذه، الذين اعتبروا أنّ تطهير الأرض من سكانها الأصليين هو أمر مشروع.

وعلى الرغم من تفنن جنود الاحتلال اليهودي في اتباع الأساليب المبتكرة وغير المألوفة على مدار 100 عامٍ بهدف التغييب والإذلال والقهر للنيل من كرامة أهل فلسطين وإلحاق الأذى النفسي بهم، بدءاً من احتلال الأرض، وعمليات القمع والإرهاب، إلى قتل قادتهم وقلع أهل فلسطين في عملية إبادة جماعية تنقل على الهواء مباشرة، لم يتحقق لليهود وأعوانهم كسر إرادة هذا الشعب على أرضه وأرض أجداده.   

وهذا يؤكد ما قاله المؤرخ البريطاني العالمي أرنولد توينبي: "إن مأساة فلسطين ليست مأساة محلية إنها مأساة العالم لأنها ظلم يهدد السلام العالمي". وما خطته روز ماري في كتابها (الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة). "إن جذور هذا الشعب ما زالت حية نابضة، وإن فلسطين ما زالت حية في ذهن وحياة شعبها، وإن هذه الحياة هي التي تدفع بهذا الشعب نحو مقاومته للاحتلال".

وما الجديد الذي سيمارسه هذا العدو؟ فالاحتلال الصهيوني وخلال مسيرة إجرامه جمع بين كل أنواع وأهداف الاحتلال الذي عرفته البشرية على مر العصور؛ احتلال اغتصب الأرض، وشرد الشعب، واقتلع الشجر وقتل البشر وهود الحجر!! وشوه التاريخ، وغير المعالم؛ فهو: احتلال عسكري إرهابي إحلالي ديني عنصري تهويدي استيطاني إفسادي تدميري إذلالي تدنيسي ارتكب 34 مجزرة، ليتمكن في عام 1948م، وشرّد بالقوة 800 ألف فلسطيني من أصل 925 ألفاً، وأكمل مسيرة العدوان في عام 1967م فتم تشريد 330 ألف فلسطيني.

ومع ذلك نسمع كلمات تجدد في الأمة روح البذل والعطاء لله وفي سبيل الله من أناس مرابطون على أرض الطُّهِر والجِهاد، مقام الطائفة المنصورة بإذن الله، فهم على رغم المصائب التي حَلَّت بهم، ونزلت بساحتهم من سفك دمائهم، وهدم بيوتهم، وترويع أبنائهم، وقتل قادتهم، إلا أنهم باتوا أصلب عوداً، وأمضى عزيمةً، وأقوى إرادة، يلهج أكثرهم بالإيمان وعبادة الرحمن، نذروا أنفسهم وأموالهم وأولادهم للشهادةِ في سبيل الله.

نعم لقد ابتلي الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية في كيان يهودي أسمى نفسه "دولة إسرائيل"... احتلال لا مثيل له، ومع ذلك فإن مصيبة اليهود وقادته أعظم حينما اختاروا أرضاً لا تصلح لهم.. بها شعب سيستمر في المقاومة لتحرير أرضه من الغرباء... لأن هذه الأرض جزء من حياتهم وعقيدتهم.

3-8-2024م

.