القدس والأقصى / فضائل

المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين

 م . مبتسم الإحمد 

مساهمة مني في نشر الثقافة المقدسية ابتداء، والعلم الشرعي المستفاد من كلام خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم على طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم، ثم فقها للواقع الذي نعيش؛ نستعرض حديثا من صحيح قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم نسبر أغواره ونستخرج فوائده المتعلقة ببيت المقدس والأقصى وفلسطين على وجه الخصوص، ثم نعرج على ذكر غيرها من الفوائد والأحكام، ولا نغفل كذلك ربط هذا الشرح مع الواقع وما يحدث على الأرض.

هذا الحديث أورده الإمام البخاري رحمه الله في (باب الصلاة من الإيمان / 39)، فقال:

حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك.

 قال زهير حدثنا أبو إسحاق عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة/143).

قال البخاري رحمه الله: ليضيع إيمانكم، أي صلاتكم عند البيت.

 أما الإمام مسلم رحمه الله فقد رواه في صحيحه في (باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة: 525) قال: حدثنا محمد بن المثنى وابو بكر بن خلاد جميعا عن يحيى قال ابن المثنى: حدثنا يحيى بن بسعيد عن سفيان حدثني أبو إسحق قال: سمعت البراء يقول: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا او سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة.

كما أورد - رحمه الله- عددا من الأحاديث في نفس الباب، فقال:

١- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحق عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة:144)، فنزلت بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون فحدثهم فولوا وجوههم قبل البيت.

٢- حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وحدثنا قتيبة بن سعيد (واللفظ له) عن مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.

٣- حدثنا أبو بكر بن أبي شبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} (البقرة:144)، فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة.

وأخرج هذا الحديث كذلك الإمام أحمد برقم (18738) والنسائي برقم (475). 

 شرح الحديث:

مفردات الحديث:

المسجد الأقصى: له أسماء متعددة، تدل كثرتها على شرف وعلو مكانة المسمى، وقد جمع للمسجد الأقصى وبيت المقدس أسماء تقرب من العشرين، أشهرها كما جاء في الكتاب والسنة المسجد الأقصى وبيت المقدس وإيلياء.

وقيل في تسميته الأقصى لأنه أبعد المساجد من المسجد الحرام التي تزار، ويبتغى بها الأجر، وقيل لأنه ليس وراءه موضع عبادة، وقيل لبعده عن الأقذار والخبائث. (المسجد الأقصى.. الحقيقة والتاريخ للأستاذ/ عيسى القدومي).

قال ابن حجر رحمه الله: سمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة. (فتح الباري 10/148).

- بيت المقدس: قال النووي رحمه الله: فيه لغتان مشهورتان أحداهما فتح الميم وإسكان القاف، والثانية ضم الميم وفتح القاف، ويقال فيه أيضا إيلياء وإلياء، وأصل المقدس والتقديس من التطهير.

قال ابن منظور في لسان العرب (مادة قدس): ومن هذا بيت المقدس أي البيت المطهر أي المكان الذي يتطهر به من الذنوب، قال ابن الكلبي: القدوس الطاهر، وقوله تعالى الملك القدوس الطاهر في صفة الله عز وجل، وقيل قدوس بفتح القاف، قال: وجاء فالتفسير أنه المبارك والقدوس هو الله عز وجل، والقدس البركة، والأرض المقدسة الشام منه وبيت المقدس من ذلك أيضا. وحكى ابن الأعرابي لا قدسه الله أي لا بارك عليه، قال: والمقدس المبارك والأرض المقدسة المطهرة، وقال الفراء: الأرض المقدسة الطاهرة وهي دمشق وفلسطين وبعض الاردن، ويقال أرض مقدسة أي مباركة وهو قول قتادة وإليه ذهب ابن الأعرابي.

(بتصرف).

(فمالوا كما هم): أي انصرفوا قبل مكة كما كانوا وهم راكعون.

 الشرح الإجمالي:

قال البغوي رحمه الله في المعالم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو أخواله من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن يكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.

وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين.

راوي الحديث:

البراء بن عازب رضي الله عنه: ابن الحارث، الفقيه الكبير، أبو عمارة الأنصاري الحارثي المدني، نزيل الكوفة، من أعيان الصحابة.

روى حديثا كثيرا، وشهد غزوات كثيرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستصغر يوم بدر، وقال: كنت أنا وابن عمر لدة (أي أترابا وأقرانا). وأخرج البخاري ٧ / ٢٢6، من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء يقول: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر.

وقد روى عن أبي بكر الصديق، وخاله أبي بردة بن نيار رضي الله عنهما.

وحدث عنه: عبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو جحيفة السوائي الصحابيان، وعدي بن ثابت، وسعد بن عبيدة، وأبو عمر زاذان، وأبو إسحاق السبيعي، وطائفة سواهم.

توفي سنة اثنتين وسبعين، وقيل: توفي سنة إحدى وسبعين عن بضع وثمانين سنة. وأبوه من قدماء الأنصار.

وروى أبو إسحاق، عن البراء، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة.

قال الأعمش: حدثنا أبو إسحاق: رأيت على البراء خاتما من ذهب فيه ياقوتة (وإسناده صحيح كما قال الحافظ في «الفتح» ١٠ / ٣٦٨، وحديث النهي مروي عنه في «الصحيحين» وقد قيل: إنه حمل النهي على التنزيه، أو أنه كان يرى أن ذلك خصوصية له من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البس ما كساك الله ورسوله» وهو عند أحمد).

مسنده ثلاث مئة وخمسة أحاديث: له في «الصحيحين» اثنان وعشرون حديثا، وانفرد البخاري بخمسة عشر حديثا، ومسلم بستة. (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي، ومعجم الصحابة للبغوي).

فوائد الحديث:

فيه دليل على جواز النسخ ووقوعه، وفيه دليل على أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، وفيه دليل أيضا على قبول خبر الواحد، وفيه سرعة امتثال الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلوات الله وسلامه عليه، تحقيقا لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب:36)؛ فقالوا: سمعنا وأطعنا، وقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران:7).

وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين، بحيث من صلى إلى جهمة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده في أثنائها فيستدير إلى الجهة الأخرى فتصح صلاته، لأن أهل هذا المسجد المذكور في الحديث استداروا في صلاتهم واستقبلوا الكعبة ولم يستأنفوها.

وفيه أن الصلاة إلى بيت المقدس كانت طوال مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وكذلك نحوا من ستة عشر أو سبعة عشر شهرا في المدينة بعد هجرته.

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح معلقا على تفسير البخاري (ليضيع إيمانكم، أي صلاتكم عند البيت): «روى الطيالسي والنسائي من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث المذكور: فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} صلاتكم إلى بيت المقدس، وعلى هذا فقول المصنف عند البيت مشكل، مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات، ولا اختصاص لذلك بكونه عند البيت، وقد قيل أن فيه تصحيفا، والصواب: يعني صلاتكم لغير البيت، وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب، ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، وكأن البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام يعني صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس».

مسألة: قال النووي رحمه الله شرحه على الحديث، واختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى في أن استقبال بيت المقدس هل كان ثابتا بالقرآن أم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، فحكى الماوردي في الحاوي وجهين في ذلك لأصحابنا، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال أن القرآن ينسخ السنة وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى، والقول الثاني له وبه قال طائفة: لا يجوز لأن السنة مبينة للكتاب فكيف ينسخها؟ وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة بل كان بوحي، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} الآية، واختلفوا أيضا في عكسه وهو نسخ السنة للقرآن فجوزه الأكثرون ومنعه الشافعي رحمه الله تعالى وطائفة.

وفيه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة أهل الكتاب، فعند البخاري رحمه الله (وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك).

قال ابن القيم رحمه الله يزاد المعاد (فصل: في تحويل القبلة) (٣/ 6٦): وكان يصلى إلى قبلة بيت المقدس، ويحب أن يصرف إلى الكعبة، وقال لجبريل: «وددت أن يصرف الله وجهى عن قبلة اليهود فقال: إنما أنا عبد فادع ربك، واسأله فجعل يقلب وجهه فالسماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} (البقرة: ١٤٤)، وذلك بعد ستة عشر شهرا من مقدمه المدينة قبل وقعة بدر بشهرين.

قال محمد بن سعد: أخبرنا هاشم بن القاسم، قال: أنبأنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظى قال: «ما خالف نبى نبيا قط فقبلة، ولا في سنة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهرا، ثم قرأ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الشورى: ١٣).

وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.

فأما المسلمون، فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم.

وأما المشركون، فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق.

وأما اليهود، فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيا، لكان يصلى إلى قبلة الأنبياء.

وأما المنافقون، فقالوا: ما يدرى محمد آين يتوجه إن كانت الأولى حقا، فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق، فقد كان على باطل.

فائدة: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص 477): (وأما المسجد الأقصى فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال وكان المسلمون لما فتحوا بيت المقدس على عهد عمر بن الخطاب حين جاء عمر إليهم فسلم النصارى إليه البلد، دخل إليه فوجد على الصخرة زبالة عظيمة جدا كانت النصارى ألقتها عليها معاندة لليهود الذين يعظمون الصخرة ويصلون إليها فأخذ عمر في ثوبه منها وأتبعه المسلمون في ذلك ويقال أنه سخر لها الأنباط حتى نظفها، ثم قال لكعب الأحبار: «أين ترى أن أبني مصلى المسلمين؟ فقال: ابنه خلف الصخرة فقال: يا ابن اليهودية خالطتك يهودية» أو كما قال، فقال عمر ابنيه فيصدر المسجد فإن لنا صدور المساجد، فبناه في قبلي المسجد، وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم الأقصى، والأقصى اسم للمسجد كله ولا يسمى هو ولا غيره حرما وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة).

وقال في ص١٦ من الاقتضاء: (فبين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فان الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة).

قال الخطابي رحمه الله في عون المعبود (باب من صلى لغير القبلة ثم علم): فيه من العلم أن ما مضى من صلاتهم كان جائزا ولولا جوازه لم يجز البناء عليه، وفيه دليل على أن كل شيء له أصل صحيح في التعبد ثم طرا عليه الفساد قبل أن يعلم صاحبه فإن الماضي منه صحيح، وذلك مثل أن يجد المصلي نجاسة بثوبه لم يكن علمها حتى صلى ركعة فإنه إذا رأى النجاسة ألقاها على نفسه وبنى على ما مضى من صلاته، وكذلك في المعاملات فلو وكل وكيلا فباع الوكيل واشترى ثم عزله بعد أيام فإن عقوده التي عقدها قبل بلوغ الخبر إياه صحيحة.

فائدة: جميع الأنبياء صلاتهم إلى الكعبة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (٢٧٨/٧): «فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطنا وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير أنه كان رجال قد أمنوا ثم نافقوا وكان يجري ذلك لأسباب:

منها أمر القبلة ما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ  وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (البقرة:143) قال: أي إذا حولت؛ والمعنى أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم : فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء ولم يأمر الله قط أحدا أن يصلي إلى بيت المقدس لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة ولكن جعلناها أولا قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه فكان في شرعها هذه الحكمة».

مجلة بيت المقدس للدراسات- العدد الحادي عشر

.