دراسات وتوثيقات / ترجمات وقراءات

قراءة في كتاب: رحلتي إلى البيت المقدس



م. مبتسم الاحمد
صدر عن دار البشائر الاسلامية لبنان، كتاب جديد يحمل رقمه الطبعة الأولى لعام «١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م» بعنوان «رحلتي إلى البيت المقدس» لعلامة الشام جمال الدين والدنيا الشيخ «جمال الدين القاسمي الدمشقي» رحمه الله وليد القرون المشرقة وابن العائلة العلمية العريقة. 
والكتاب يعد - حقا - من نوادر الرحلات إلى المسجد الأقصى، والتي كتبها المؤلف بخط روحه ويراع فكره ونبض حياته، وهو يصف هذه الرحلة التي أخذت بلباب قلبه، حيث عبر عن زيارته للمسجد الأقصى حين وصوله إليه بعبير دموعه فقال: «فلا تسل عما هجم علينا من السرور المفرط، وانشراح الصدر، وبهجة النفس، وانتعاش الفؤاد، وحسبناه قطعة من الجنة قد دخلناها حامدين شاكرين لفضله، ونحن نكفكف الدمع فينهمل». 
وقد حقق هذا الكتاب وعلق عليه الشيخ: محمد بن ناصر العجمي حفظه الله، الذي أحسن سبكه، وإخراج درره، وكسوته بهاء فوق البهاء الذي حباه به المؤلف فازداد جمالا، وارتفع قدره العلمي بما حواه من فوائد وفرائد، جعلته مرصعا بالجواهر. 
والكتاب منذ أن يقع بين يديك يأخذك حسن صناعته وإخراجه، فهو بالإضافة إلى جمال الرحلة التي ستأسرك - حتما - منذ بدايتها فلا تدع الكتاب حتى تأتي على آخره، وحسن صناعة التحقيق التي تنم عن علم راسخ وحب وتعلق بالأرض المقدسة دفعت ليكون في أبهى حلة، وأجمل إخراج، أقول فوق ذلك فقد أتى إخراج هذا السفر في ثوب أنيق محلى قشيب، فقد ازدان غلاف الكتاب الأمامي بمنظر يمثل رسم اليد بألوان زيتية للمسجد الأقصى وأحد شبابيكه، وصورة لمنبر المسجد الأقصى الذي أمر بصنعه الأمير نور الدين محمود رحمه الله وقدمه للقائد الفذ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ليوضع في المسجد الأقصى، كما يظهر في الغلاف الأمامي خط للعلامة القاسمي في رحلته هذه، وأما الغلاف الخلفي فقد ازدان بأحد أروقة المسجد الأقصى، وقد ظهر فيه أيضا خط العلامة القاسمي لكتابه «قواعد التحديث» والذي انتهى منه رحمه الله في المسجد الأقصى خلال رحلته هذه. 
والكتاب يقع في نحو مائة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، قسمها المحقق إلى مقدمة ثم ترجمة للعلامة القاسمي ثم تناول فصول الرحلة وقد قسمها إلى عدة مراحل، وختمها بملحق خاص بالصور. 
أما المقدمة فقد خصصها في وصف عام لرحلة العلامة القاسمي والتي دامت نحوا من خمسين يوما ابتدأت من مطلع يوم الأحد ٢٩ من محرم لعام ١٣٢١هـ والرجوع لوطنه الأم في ١٩ من ربيع الأول من العام نفسه، وبين فيها فضل العلامة القاسمي وبعض الصفحات المشرقة في رحلته، كتعلقه بحب المسجد الأقصى وحرصه على العلم الشرعي، ومن ذلك أنه رحمه الله صحب معه مسودات كتابه المعطار «قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث» حيث أنهى تبييضه في المسجد الأقصى، وقال في ختامه: «إلى أن كملت نسخا وتبيضا بعونه تعالى صباح الخميس لخمس بقين من صفر المذكور عام ١٣٢١هـ في المسجد الأقصى داخل حرمه الشريف، أيام إقامتي في حجرته القبلية»، وكذلك استعرض شيئا من زياراته خلال الرحلة، ولفتاته في المدن والقرى التي زارها، وبعض الأحكام الشرعية التي تعرض لها. 
وختم مقدمة تحقيقه بقوله: «هذا وإن الأسى كامن في الجوانح المؤمنة لما أصاب هذا البلد المبارك والأرض المقدسة من جيوش الفساد التي جاشت في سبيل تهويدها وإيذاء أهلها صباح مساء، فاللهم يا ولي الإسلام وأهله ارفع هذه المصيبة والبلاء عن هذه البلد وسائر بلاد المسلمين، ومن باب محبة هذا البلد المبارك أردت الإسهام ولو بعود في نشر هذه الرحلة». 
ثم ترجم المحقق - حفظه الله - لحياة العلامة القاسمي ترجمة مختصرة لكنها جامعة، شملت نسبه وأسرته ومولده، وشيئا من شمائله وأخلاقه التي كان يتمتع بها، ونقل ما كتب عنه الشيخ محمد رشيد رضا حين التقاه فقال: «.... غضيض الطرف، كثير الإطراق، خافض الصوت، خفيف الروح، دائم التبسم، وكان تقيا، ناسكا، واسع الحلم، سليم القلب، نزيه النفس واللسان والقلم....»، وساق نماذج من أخلاقه جدير بمن قرأها أن يمتثلها، ثم عرج على مؤلفاته، وشيئا من درر كلامه وتوجيهاته. 
وللمحقق رسالة أخرى جمع فيها سيرة هذا الإمام الهمام وقد وسمها بعنوان «وليد القرون المشرقة وإمام الشام في عصره جمال الدين القاسمي». 
وقد أردف المحقق - وفقه الله - هذه الترجمة بنماذج من مخطوط الرحلة بخط العلامة القاسمي، وكذلك جعل خلال الرسالة نماذج من مخطوط كتاب «قواعد التحديث» وبعضا من صور مخطوطات المكتبة الخالدية في القدس، والتي حرص العلامة القاسمي على زيارتها والاستفادة منها. 
وبعد ذلك أبحر المحقق مع القارئ في تفاصيل هذه الرحلة المباركة تعليقا وتخريجا وإبرازا للفوائد والفرائد التي حوتها، وقد خطها العلامة القاسمي بيراعه المبدع، والذي انتقل فيها مرحلة مرحلة، ومن مدينة إلى مدينة، وبوصف دقيق تعيش معه طبيعة الأجواء المحيطة بك وتتخيل كأنك في صحبة العلامة القاسمي ورفاقه وكأن الأمر رؤيا عين، تشعر به وتنظره. 
فابتدأت الرحلة من لحظة خروجه من دمشق، بل من حارته التي شيعته بمشاعر الحب والشوق، متوجها نحو مدينة «درعا» ومنها إلى مدينة «عمان البلقاء» التي أقام فيها عشرة أيام، حيث ذكر شيئا من تاريخها والتعريف بها ووصف قلاعها وحصونها وأسوارها وآثارها وكل ما زاره وذهب إليه، وكذلك وصف أهلها ومن سكنها ومن التقى بهم، وذكر طرفا من عاداتهم وعباداتهم ومساجدهم، كل ذلك في وصف بهيج جميل ينم عن ذوق رفيع وإطلاع واسع، وحرص على استغلال الأوقات. 
وكان مما قال في وصف عمان: «وشاهدنا ضواحيها المخصبة، وجبالها المملوءة بالكلأ، المفروشة بأصناف الزهور المتنوعة الأشكال. وما أبصرت الخصب المدهش في بطاحها، علمت أن لذلك اتخذت قديما عاصمة مملكة، وشيدت لها القلاع والحصون، وبسببه يضرب المثل بسمن البلقاء... 
وبعد ذلك انتقل ورفاقه إلى مدينة «السلط» وهي من نواحي الأردن وأقام فيها عشرة أيام أخرى، وقد وصف الطبيعة الساحرة التي مرت به خلال الرحلة، وامتدح متنزهات السلط وعيونها التي وفرت له أجواء رائعة للقراءة والمدارسة مع رفاقه وأحبائه. 
وذكر شيئا من عمرانها فقال: «وقد أخذ الآن يستفحل عمران السلط، وأصبحت تشاد فيها البيوت المرتفعة، بنهضة عجيبة، وأكثر أهلها من نابلس...» ثم عرج على ذكر أهلها وبعض ما اختصوا به وشيئا من عاداتهم. 
وبعد ذلك شد الرحال متوجها للقدس مرورا «بأريحا، وهو طوال ذلك لا يفتا يذكر كل مرحلة يمر فيها وكل استراحة أو استضافة يقف عندها ومن يلتقيهم وينزل عندهم، كل ذلك بوصف دقيق وأسلوب ينم عن ذوق عال، ونظر ثاقب. 
وعند وصوله للقدس والمسجد الأقصى أسهب في وصف مشاعره، وحفاوة الاستقبال الذي استقبل به، والترحاب والإيناس الذي شعر به، وكرم أخلاق أهل القدس التي غمروه بها، حتى خال نفسه بين أهله ومحلته، وقد أنزلوه في حجرة من «الزاوية الختنية» في قبلة المسجد الجامع للمسجد الأقصى عن يمين المنبر، وهي مقام الأمراء والسلاطين، وقد كان هذا أعظم تكريم حظي به، وقال: «ولقد زارني من لا شك في صلاحه، وقال لي: أبى الله إلا أن تكونوا في حرمه، وأضياف بيته، فأبكاني سرورا، وسجدت لله شكرا». 
وقد بذل المحقق - وفقه الله لكل خير - جهدا مميزا في بيان الكثير من المفاهيم والمصطلحات الشرعية وحكمها، ونقل الأدلة عليها وكلام أهل العلم فيها، للدلالة على مشروعيتها من عدمه كل في موقعه من الكتاب، وهو مما أضاف للكتاب مكانة علمية وتأصيلات لا يستغني عنه القارئ اللبيب، كمثل: «عدم تسمية المسجد الأقصى حرما، وفضل المسجد الأقصى، وما يصح في فضل الصخرة، وما ينسج حولها من أباطيل، وما ورد بفضل مسجد الخليل وقبور الأنبياء فيها... إلى غير ذلك من الفوائد». 
ثم شرع العلامة القاسمي رحمه الله في وصف المسجد الأقصى، وأهم المعالم التي زارها في القدس، ووقف كثيرا عند «المكتبة الخالدية» والحديث عن نفائسها وترداده المتواصل عليها، وكان مما لفت النظر إليه قوله: «واستعرت منها كتاب «الشفاء» للقاضي عياض، عليه سماعات كثير من المحدثين، وهو مقابل على نسخة مقابلة على نسخة المؤلف، فشرعت في مقابلة نسخة لي عليه في الحجرة المذكورة، وكان يساعدني في المقابلة من كان راحلا معي من دمشق..... الخ». 
وقد خص هذه المكتبة بقصيدة عذبة أثنى عليها، وعلى القائمين عليها 
وبما حوته من نفائس وذخائر، قال في مطلعها: 
أيها الزائر بيت المقدس          يبتغيه بعد شق الأنفس 
أحمد المولى بما أولى إذا      ما بدت أعلام نور القدس   
إلى أن قال: 
كتب آل الخالدي أنعم بها       موردا للفضل منه فاحتسي 
إلى آخر هذه القصيدة..... 
وقد أجاد المحقق عندما أفرد بالحاشية تعريفا تاريخيا بالمكتبة الخالدية، وأورد نقولات لبعض أهل العلم والاختصاص عنها وعن ما يميزها عن غيرها وما حوته من مخطوطات ونفائس الكتب. 
وتحدث العلامة القاسمي كذلك عن المدرسة الصلاحية وما آلت إليه، وتحدث عن مجالسهم العلمية التي عقدوها في نواحي المسجد الأقصى، وغير ذلك من معالم القدس المتنوعة. 
ثم عرج إلى الخليل وذكر زيارته لها والتي استمرت ليوم واحد، وذكر أهم ما رآه هناك، وزيارته للمسجد الإبراهيمي، وما بذله أهله لهم من كرم وحسن استقبال. 
ثم عاد إلى القدس مرة أخرى ليتم بقاؤه فيها نحو أسبوعين قبل أن يتهيا للعودة إلى بلده، وقد أفرد العلامة القاسمي رحمه الله بانا خاصا فرسالته في بيان «الآداب الشرعية المرعية في المسجد الأقصى وفي آثاره المشهورة» ونقل نقولات مهمة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك مما أضفى على الرسالة رصانة علمية تقطع الطريق على من يجعل من مثل هذه الزيارات بابا للبدع والخرافات. 
وبعد ذلك شرع العلامة القاسمي بوصف رحلة العودة والمشاعر التي خالطتهم وهم يغادرون بيت المقدس وقال في بعض الأبيات: 
ولما قضى التوديع فينا قضاءه           خرجت ولكن لا تسل كيف مخرجي 
وقد صاحب ذلك استغفاره وابتهاله بالدعاء الذي اختلط بالبكاء والعبرات. 
واختار مدينة «يافا» لتكون أحد مراحل الرحلة وقد أقام فيها نحوا من ثلاثة أيام، وذكر فيها أعيانها وأشرافها ومفتيها وحسن الضيافة والإكرام الذي حظي به، وذكر زيارته لبساتينها وساحلها ومساجدها ووصف المجالس هناك التي لم تكن تخلو من المباحث العلمية والنوادر التاريخية والمطارحات الأدبية. 
ثم قفل بعد ذلك عائدا لدمشق مرورا ببيروت عبر البحر وقد أقام فيها نحوا من يومين التقى فيها صحبه ورفاقه، ثم كانت العودة للأوطان. 

وقد ختم المحقق الرسالة بملحق للصور جمعت مراحل الرحلة استفتحها بصورة للعلامة القاسمي رحمه الله، مما زادها بهاء وحسنا لندرة بعض هذه الصور، وتاريخية كثير منها، وقد حوى بعضها صور أعيان المكتبة الخالدية وأهم معالم المسجد الأقصى. 
الكتاب يعتبر بحق تحفة فنية وتاريخية، ورسالة توثيق لمرحلة من الزمن عاشتها مدينة القدس، وأظهرت شرف المسجد الأقصى والنهضة العلمية التي كان يتبوأها، وحباها مثل هذا العلم العلامة بالتأريخ والوصف، وأبلى فيها محققها بلاء حسنا في حسن عرضها والتعليق عليها، وإضافة مسحات جمالية جعلتها غاية في الإتقان.

مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد الحادي عشر

.