القدس والأقصى / خطب مقدسية

إحراق المسجد الأقصى

الشيخ : عبدالرحمن السديس

إمام وخطيب المسجد الحرام - المملكة العربية السعودية

 

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونسترشده ونستنصره، ونثني عليه الخير كله، ونستلهمه الرشد والتوفيق لخيري الدنيا والآخرة، ونستعيذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن شر كل عدو للإسلام والمسلمين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، حذرنا من كيد الأعداء وأمرنا بالتصدي لهجمات الخصوم الألداء، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، وقائد الجهاد ضد أعداء الإسلام، حتى حطم الله به الأصنام، وأظهر به الشريعة وأبان الأحكام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله السادة الأعلام، وأصحابه البررة الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يفوز المؤمنون بدار السلام.

 

أما بعد...

 

أيها المسلمون... اتقوا الله تبارك وتعالى فإن تقواه سبحانه، العروة التي ليس لها انفصام، والجلوة التي تستضيء بها القلوب والأفهام، والوصية الجامعة التي يلتزمها الأخيار الكرام، والعدة والقوة التي يهزم بها أعداء الإسلام.

 

أيها الأخوة في الله... يا حماة العقيدة، ويا حراس الملة، ويا من شرفكم الله بالإسلام..،

 

اعلموا رحمكم الله أنكم محسودون على إسلامكم، من قبل أعدائكم الذين قال الله فيهم: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق..}(البقرة/109).

 

أمة الإسلام... إنه منذ بزوغ فجر الإسلام المشرق، وانبثاق نور الإيمان الزاهي

 

المتلألئ، وهو يلقى من أعداء الحق صنوفاً من التحديات، وألواناً من الهجمات، تمثل الصراع بين الحق والباطل، في معركة دائمة الاحتدام، مشبوبة الأوار، حثيثة الخطى متنوعة الصور والأساليب، ترمي إلى الظهور حيناً وإلى الخفاء أحياناً أخرى، وتتنوع تارة ساخنة، وأخرى باردة، عسكرية مرة وفكرية خُلقية مرات شتى، بمكر وخبثٍ وتآمر، وحقدٍ وعداءٍ سافر، ولؤم وكيد ماكر، يريدون القضاء على الإسلام وأهله، واستئصال شأفتهم، وتمزيق وحدتهم، وتدمير قوتهم، وإزالة دولتهم، وإنهاء هويتهم، والاستيلاء على مقدراتهم، والعبث بمقدساتهم، ولن يهدأ لهم بال، ولن يقر لهم قرار، ولن تلين لهم قناة ما دام للإسلام كيان، وما فتئ للمسلمين صولة وجولة، حتى يطفئوا هذا النور، ويقضوا على أهله وكل ما يمت له بصلة، قضاء مبرماً، ألم تسمعوا إلى قول الحق تبارك وتعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}(البقرة/217) وقوله جل وعلا: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}(التوبة/32).

 

إخوة العقيدة لقد مني الإسلام عبر تاريخه المجيد، بما لا يعد ولا يحصى، من الدسائس والمؤامرات على اختلاف الطرق والشعارات، وتباين الأقطار والنزعات، منذ تحدى المشركون الدعوة الإسلامية، وظهور اليهود والمنافقين في المدينة وفشو الفرق والحركات الباطنية، مروراً بالحروب الصليبية، والهجمات التتارية والمغولية، وكان الإسلام حيالها طوداً شامخاً، وحصناً حصيناً بحمد الله، وإذا كان التأريخ يعيد نفسه، فإنها لا تغيب عن الأذهان، التحديات المعاصرة، فما أشبه الليلة بالبارحة، نقول ذلك ونحن نرى ونسمع ضروباً من الغزو العسكري والفكري والأخلاقي، وصنوفاً من الحروب النفسية والعدوان المادي، فالأعداء لم يكفوا ولن يكفوا، ولا يزالون ماضيين إلى أهدافهم الخبيثة، بوسائل جديدة، وأنواع من التحديات، وضروب من نشر الشهوات والشبهات، وألوان من المفتريات، ولم يكتفوا بالكلام، بل انتقلوا إلى التحدي السافر، والهجوم الشرس، والتدخل القذر، والعمل السافل، وكان أن تسربوا عبر الحصون وتسللوا إلى عدد من الثغور، ولم يكتفوا بالعمل خلف السطور، في حبك للمؤامرات، وإحكام للتحديات، وتخطيط رهيب، وتنسيق عجيب، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}(الأنفال/30).

 

أمة الإسلام إن الذي يتولى كبر القضية، ويمثل قطب الرحى في العداء للإسلام، فئات فضحها القرآن، وحذر من كيدها يقول تعالى: {لتجدن أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}(المائدة/82) {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}(البقرة/120) فليس ما قامت به الصهيونية العالمية، منذ القدم وإلى عصرنا هذا ضد المسلمين ومقدساتهم، ولا ما قامت به الصليبية التثليثية، من نشاط رهيب في التنصير في بلاد الإسلام، حتى بلغت إحصاءات مذهلة، كل ذلك ليس عن أذهاننا ببعيد، بل لا نكاد نبالغ، إذا قلنا إنه كلما أدير مؤشر المذياع، أو قلبت صفحات جريدة، أو اطلع على أي وسيلة إعلامية، فإنك ترى هجوم القوم، فلا تسمع إلا حروباً طاحنة، واشتباكات دائمة، وتحديات سافرة، وهجمات مدمرة، وتلك حلقات في سلسلة العداء للإسلام وأهله، واستمرار الصهاينة الخونة في مسلسل القتل والتشريد لأبناء فلسطين، وانتهاكاتهم المستمرة لمقدساتهم في الأرض المباركة، وتوسعهم في بناء المستوطنات ما هو إلا تحدي سافر لمشاعر المسلمين، ولون من ألوان حقدهم الدفين على أبناء الإسلام وأرضه.

 

وما استمرار الصرب الظلمة، في رعونتهم وصلفهم وعدم التزامهم بالعهود والمواثيق الدولية، حيث يمطرون بلاد البوسنة والهرسك، بوابل من القصف والصواريخ المدمرة للبيوت والمساجد والمدارس والمرافق، إلا مشهد عدائي أرعن، وسيسجله التأريخ بمداد قاتمة، تبين الحقد الأسود من عبدة الصليب.

 

وخذ مثالاً آخر من المآسي فيما يجري في الصومال، من أمور مذهلة، ملايين اللاجئين، مليونا فرد يتضورون جوعاً ومهددون بالموت بسبب المجاعة، أربعة آلاف طفل يموتون يومياً جوعاً، من المستفيد من ذلك كله؟!

 

إن المستفيد من ذلك كله أعداء الإسلام والمسلمين، وكل تحريف وفتنة فهم وراءها {ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين}(المائدة/64)، ومن المستفيد من مآسي المسلمين كلها؟! ومن المستفيد من الخلافات التي تجري اليوم في بلاد الأفغان المسلمة؟! إننا نذكر بمآسي المسلمين يا عباد الله، ونحن نعيش اليوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر الثاني في هذا العام، ذكرى مؤرقة محزنة للنفوس المؤمنة، ذكرى الجريمة الشنعاء والفعلة النكراء، التي أقدم عليها الصهاينة قبل ثلاثة وعشرين عاماً، وذلك بإحراق المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عمل شنيع، وجرم فظيع، يرمي إلى تحدي مشاعر المسلمين، وإظهار مقدساتهم مظهر الذلة والمهانة، وفاعلو ذلك قوم بُهْتٌ خونة، لم يعرف عنهم إلا الغدر واللؤم والخسة، تجرؤوا على الله، وتنقصوه، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، قتلوا أنبياء الله، وغدروا بخاتمهم وأفضلهم، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده، هم أهل غضب الله، استحلوا محارم الله بأدنى الحيل، فلعنهم ومقتهم وحولهم خنازير وقردة، وضرب عليهم الذلة والمهانة، ولكنهم مع ذلك يريدون القضاء على الإسلام، ويسعون في إفساد المسلمين، بكل ما أوتوا من قوة، يريدون أن يقيموا دولة التوراة والتلمود على أنقاض دولة القرآن والتوحيد، ألا شاهت الوجوه.

 

فواجب المسلمين أن يحذروهم، ويتفطنوا لكيدهم، وأن ينهجوا نهج قرآنهم، في معاملة أعدائهم، وأن يأخذوا بأسباب القوة المعنوية والمادية لينصروا دينهم، ويدافعوا عن مقدساتهم، وينصروا إخوانهم، وليبشروا ولا ييأسوا، فقد وعدنا الله بالنصر على الأعداء متى ما نصرنا دينه، وبشرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بالانتصار على أعدائنا الصهاينة الظلمة، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والهزيمة والمسكنة لأعداء الإسلام والمسلمين {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(يوسف/21).

 

أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفره، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله المتفرد في أمره، والمتوحد في قهره، أحمده تعالى وأشكره، وهو المنتقم ممن خالفه، والمهلك لمن آسفه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أفضل الصلاة وأزكاها، وخير التسليمات وأعلاها، وأشرف البركات وأولاها.

 

أما بعد ... فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن التذكير بمآسي المسلمين، ولا سيما ذكرى مأساة إحراق المقدسات في الأرض المباركة، والتنبيه من أعداء الإسلام من الكفرة والمشركين، وأهل الكتب المحرفة، يقتضي إعداد العدة، لمواجهة هذا العداء السافر، ولا يكون ذلك إلا بتنمية الاعتزاز بالإسلام، لدى أبناء الإسلام، والتمسك الجاد بمقوماتنا ومبادئنا، وعقيدتنا الإسلامية الصحيحة، وعدم الاغترار بما عليه الأعداء، والحذر من حسن الظن بهم، والتقليل من خطرهم، كما أنه لا بد من تكوين الجيل العقدي، المُربَى على أسس قويمة من العقيدة السليمة، ومتى أنشأنا الجيل المؤصل، علمياً وعقدياً وتربوياً وخلقياً، والمؤهل عقيدة ووعياً، استطعنا بإذن الله أن نقوم بدورنا على الوجه الأكمل، وليس التنبيه على هذه الذكريات المحزنة، إلا لاتخاذ الخطوات العملية في تصحيح التوجه، وتقويم المسيرة وإعداد القوة المعنوية والمادية، وتظافر جهود العاملين في الأسر والمدارس، ووسائل الإعلام لربط المسلمين ولا سيما الناشئة، بمقومات مسيرتهم، وتطهير القلوب من التعلق بأعداء الإسلام، لأنه مما يؤسف له، تعاطف بعض المسلمين لتلقف كل جديد، وحرصهم على اقتناء الآلات الحديثة التي إنما تُصَدِّر عفن القوم وصديدهم، وأفكارهم المخالفة لديننا ومعتقداتنا، فكونوا يا عباد الله، على حذر وفطنة، من وسائل الغزو الفكري والأخلاقي، لأنكم مستهدفون، فهل يعي المسلمون ذلك، هذا هو المؤمَّل بإذن الله.

 

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الهادي البشير، والسراج المنير، رافع لواء الوحدانية، ومحطم الكيانات الوثنية، ومزعزع عروش الجاهلية، نبينا محمد بن عبدالله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله : {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}(الأحزاب/56).

.