فلسطين التاريخ / تاريخ

تنازع الإخوان..خسران وهوان.

       

د.خالد يونس الخالدي.

 

يكتشف المتأمل في تاريخ أمتنا أن نصرها وعزها يأتي من تآلف أبنائها واتحادهم وزهدهم والتزامهم بعقيدتهم وقيمهم، وأن خسرانها وهوانها يأتي من التنازع بين أبنائها على عرض الحياة الدنيا من جاه أو مال أو متاع؛ وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه:{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، إذ يلاحظ أنه ما حدث تنازع داخلي بين المسلمين إلا أعقبه فشل وهزيمة، وقد رأيت ذلك في مواضع عديدة من تاريخنا، أُذكِّر ببعضها لعل المسلمين الذين كثر تنازعهم لأتفه الأسباب في هذا الزمان يعقلون ويتعظون ولا يكررون الأخطاء التي وقع فيها أجدادهم في بعض الأحيان، فخسروا وهانوا وندموا، ولكن بعد فوات الأوان.

 

أولاً: فتح المسلمون الأوائل العراق وخراسان والشام ومصر ووصلوا إلى شمال أفريقيا، وسيطروا على العديد من الجزر، بعد أن هزموا في سنوات قليلة أكبر إمبراطوريتين في زمانهم، لكنهم اختلفوا وتنازعوا في خلافة علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-، حيث وقعت بينهم فتنة أدت إلى معركتي الجمل وصفين اللتين سقط فيهما آلاف القتلى إضافة إلى انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة وخوارج، وإلى معاناة شديدة من هذا الانقسام استمرت إلى يومنا هذا. كما توقفت حركة الفتح الإسلامي أثناء سنوات الاختلاف من 35-41هـ، وطمع الرومان في استرداد مصر والشام، مما اضطر معاوية-رضي الله عنه- إلى أن يدفع لإمبراطورهم مبلغاً كبيراً من المال في كل سنة، مقابل عدم مهاجمة أراضي الدولة الإسلامية، وعندما وجده يعتدي عليها بعث إليه رسالة يقسم فيها أنه إن لم يتوقف الروم عن اعتداءاتهم فسوف يصطلح مع ابن عمه ويجتمعا على قتالهم. ولم تتواصل حركة الفتح من جديد إلا بعد أن أنهى المسلمون خلافاتهم وتوحدوا وبايعوا معاوية عام 41هـ، وهو العام الذي أطلق المسلمون عليه عام الجماعة.

 

ثم غرق المسلمون في بحر النزاع الداخلي مرة أخرى عندما تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة بعد أيام من بيعته، دون أن يوصي بها إلى أحد، إذ وقع الخلاف على منصب الخلافة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم، وحدثت بين أنصار الأمويين وأنصار ابن الزبير معارك عديدة أُريقت فيها الكثير من الدماء، ولم تتوقف المعارك إلا بعد أن توحد المسلمون تحت خلافة واحدة كانت لعبد الملك بن مروان، وقد توقفت الفتوحات بسبب النزاع الداخلي لأكثر من عشرين سنة، حيث استؤنفت بشكل واضح في خلافة الوليد بن عبد الملك(86-96هـ)، وقد اضطر عبد الملك خلال مرحلة الاختلاف والنزاع أن يدفع الجزية للإمبراطور الروماني جستنيان الثاني، وعن ذلك يقول البلاذري:{ وصالح عبد الملك طاغية الروم على مال يؤديه إليه لشغله عن محاربته وتخوفه أن يخرج إلى الشام فيغلب عليه، واقتدى في صلحه بمعاوية حين شغل بحرب أهل العراق، فإنه صالحهم على أن يؤدي إليهم مالاً}.

 

ثانياً: تنافس أبناء البيت الأموي في أواخر عهدهم على الخلافة، وأدى اختلافهم وتنازعهم إلى سقوط دولتهم، ونتج عنه فتن عظيمة وخسائر فادحة في صفوف المسلمين، فقد أقدم يزيد بن الوليد بن عبد الملك وأنصاره على نشر إشاعات كاذبة عن الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، تتهمه بالفسق والمجون، ثم قام أنصار يزيد بمحاصرة الخليفة وقتله، ولم يستجب الخارجون لكل التحذيرات التي وجهها إليهم العقلاء، وكان العباس بن الوليد بن عبد الملك أحد المحذرين من الخروج على الخليفة، حيث قال لأخيه يزيد{ والله لولا أني أخاف عليك، لقيدتك وأرسلتك إليه}، وقال محذراً أقرباءه من الاقتتال:{ يا بني مروان إني أظن الله قد أذن في هلاككم}، وتمثل قائلاً:

إني أعيذكم بالله من فتـن                 مثل الجبال تسامى ثم تندفـعُ

لا تَبْقُرُنَّ بأيديكم بطونكــمُ           فثم لا حسرة تغني ولا جـــزعُ

 

وقد نتج عن قتل الخليفة الوليد بن يزيد مظلوماً العديد من الثورات والحروب أدت إلى قتل عشرات الألوف من المسلمين، فقد بلغ عدد القتلى في إحدى المعارك سبعة عشر ألفاً؛ وظلت دولة الأمويين تضعف وتتمزق إلى أن سقطت نهائياً سنة 132هـ، وصدق الخليفة الوليد الذي قال للخارجين عندما هموا بقتله:{أما والله لئن قتلتموني لا يُرْتَقُ فتقكم، ولا يُلمُّ شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم}.

 

ثالثاً: سقطت بلاد الشام في أيدي الصليبيين خلال مدة قصيرة وبلا قتال يستحق الذكر، لأن أمراءها كانوا متفرقين متنافسين متصارعين، وكان أمير كل مدينة يخرج لاستقبال الصليبيين حاملاً لهم مفتاح مدينته، ومقدماً إليهم الهدايا الثمينة والأدلاء للمدينة التالية.

والمدينة الوحيدة التي استعصت على الصليبيين لنحو خمسين عاماً هي عسقلان، حيث كان أهلها متفقين متوحدين على الجهاد في سبيل الله، وقد نجحوا في صد الهجمات الكثيرة التي شنها الصليبيون عليهم، وكان الاختلاف والنزاع هو سبب سقوطها بعد طول صمود، حيث هاجمها الصليبيون سنة548هـ، فصدوا الهجوم كعادتهم، وبينما كان الصليبيون يستعدون للرحيل وقع خلاف بين عائلتين كبيرتين في المدينة، حيث ادعت كل عائلة أنها صاحبة الفضل الأكبر في صد الصليبيين، وقد تطور الخلاف إلى نزاع قتل فيه أحد الأفراد، ثم تطور إلى معركة بين العائلتين سقط فيها العديد من القتلى، وقد لاحظ الصليبيون انشغال المسلمين واقتتالهم، فهاجموا المدينة واحتلوها بسهولة، وارتكبوا مجزرة كبيرة ضد أهلها.

 

رابعاً: بذل المسلمون جهوداً كبيرة وتضحيات جسيمة في تحرير القدس من الصليبيين، وتمكنوا بعد 91سنة هجرية من سقوطها من تحقيق هذا الهدف الكبير، وقد خلف صلاح الدين أمراء وسلاطين لا هم لهم إلا مصالحهم الضيقة وكراسيهم الزائلة، فاتخذوا من القدس ورقة يساومون عليها الصليبيين للحصول على دعمهم ضد إخوانهم من الأمراء الآخرين، فها هو الكامل محمد يختلف مع أخيه المعظم عيسى فيتصل بفردريك إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ويطلب منه النصرة على أخيه المظفر، ويَعِدُهُ بأن يسلمه القدس مقابل ذلك، فيجهز فردريك الحملة الصليبية السادسة، ويصل إلى عكا سنة 625هـ، وبالرغم من أن الخلاف قد انتهى إذ توفي المظفر عيسى، إلا أن الكامل يقوم بتسليم القدس لفردريك، وقد فعل الكامل ذلك بالرغم من ضعف فردريك حيث يقول في رسالة بعث بها إلى الكامل:{ أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج.. فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد والزيارة فيكون صدقة منه ويرتفع رأسي بين ملوك البحر}. وظلت القدس ورقة يلعب بها الأقزام في منافساتهم ونزاعاتهم الرخيصة، ويتبادلون السيطرة عليها هم والصليبيون إلى أن استعادها نجم الدين أيوب سنة642هـ/1244م، فظلت في أيدي المسلمين حتى احتلها الإنجليز سنة 1917م.

        وهكذا يتبين كيف أدى تنازع المسلمين على مصالح تافهة إلى خسران النفوس والأوطان وتجرع الذل والهوان..فهل من معتبر؟!!

 

.