فلسطين التاريخ / تاريخ
من روائع أوقاف المسلمين ( 12/15 ) كفالة الأيتام ورعايتهم
من روائع أوقاف المسلمين
( 12/15 )
عيسى القدومي
كفالة الأيتام ورعايتهم
الأيتام هم طائفة من الضعفاء في المجتمع ، وتزداد أعدادهم كلما توالت الحروب والنكبات على الأمة ، وقد رغب وحث النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم أمته بالحرص على رعاية اليتيم وكفالته ، فكفالة اليتيم: هي القيام بأمره ومصالحه وتربيته والإحسان إليه (1) ، واليتيم في اصطلاح الفقهاء: من مات أبوه وهو غير بالغ (2) ، فإذا بلغ زال عنه اليتم؛ لما ورد عن علي t قال: حفظت عن رسول الله r «لا يتم بعد احتلام» (3).
واليتيم لما فقد أباه الذي يحنو عليه ويقوم بتربيته والإنفاق عليه، لم يجعله الله تعالى في مضيعة، بل أمر الله بالإحسان إليه في كتابه العزيز فقال تعالى: }واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين...{ الآية [النساء: 36].
بل جعل الله له حقاً في أموال الغنائم والفيء، فقال تعالى: }واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله...{ الآية [الأنفال: 41].
وأمر بالإقساط إلى اليتامى وعدم ظلمهم، فقال تعالى: }وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً{ [النساء: 127].
ثمَّ وعد الله تعالى بالجزاء العظيم لمن أكرم اليتيم، فقال تعالى: }ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً أسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً * وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً{ [الإنسان: 8 -12].
وعن سهل بن سعد t قال: قال رسول الله r: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً" (4).
وفي كفالة اليتيم رقة القلب وزوال القسوة منه: عن أبي الدرداء t قال: أتى النبي r رجلٌ يشكو قسوة قلبه، قال: «أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك" (5).
ولقد حرّم الله إيذاء اليتيم والاعتداء على شيء من ماله فقال تعالى: }فأما اليتيم فلا تقهر{ [الضحى: 9]. والقهر هو التسليط بما يؤذي.
قال القرطبي في تفسير الآية: أي لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه واذكر يتمك، قال: وخصّ اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه، ودلت الآية على اللطف باليتيم وبرّه والإحسان إليه. حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم (6).
وأموال اليتامى هي من الأموال التي حظيت بعناية خاصة من الشرع الإسلامي، قال تعالى: }ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن{ [الأنعام: 152].
واعتبر الإسلام أكل مال اليتيم من الكبائر، الموصلة إلى جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: }إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً{ [النساء: 10]. وقال r: «اجتنبوا السبع الموبقات ـ وذكر منها ـ: وأكل مال اليتيم" (7).
الأوقاف للصرف على الأيتام ورعاية شئونهم :
الأوقاف كانت وما زالت سبب من أسباب سد حاجات الأيتام والأرامل ، وفي صفحات التاريخ الإسلامي الكثير من الروائع التي سطرت في رعاية الأيتام وكفالتهم ، والخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كان صاحب فكرة إنشاء معاهد أو مراكز رعاية الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، فأنشأ (عام 707م - 88هـ ) مؤسسة متخصصة في رعايتهم، وظّف فيها الأطباء والخدام وأجرى لهم الرواتب، ومنح راتبًا دوريًّا لهم، وقال لهم: "لا تسألوا الناس"، وبذلك أغناهم عن سؤال الناس .
ومما ذكر ابن العماد الحنبلي رحمه الله في ترجمة نور الدين محمود زنكي رحمه الله سنة تسع وستين وخمسمائة أنه بنى المكاتب للأيتام ووقف عليها الأوقاف (8). وذكر أيضا أن عماد الدين عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم بن الترجمان الحلبي كان ذا ثروة وبنى مكتباً للأيتام ووقف عليه وقفاً (9).
وفي رحلة ابن جبير خلال وصفه لمدينة دمشق قال: "وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم وهذا أيضا من أغرب ما يحدّث به من مفاخر هذه البلاد" (10).
وكان لنور الدين محمود زنكي أوقاف دارّه على جميع أبواب الخير وعلى الأرامل والمحاويج (11). وكان اليتيم يُدرب على حسن التصرف بالمال (12) لأن سيتصرف بهذا المال بعد أن يصيح أهلاً للتصرف .
وكان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أول من أوقف الأوقاف في العصر الأيوبي من أجل الأطفال الفقراء والأيتام، فأوقف قرية نستروا ، كما أوقف صلاح الدين قطعة أرض على صبي صغير وجد فيه نبوغاً وتميزاً. ابن شداد : النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية القاهرة 1964م .
وأنشأ القاضي الفاضل مكتباً لتعليم الأيتام بجوار مدرسته سنة 580هـ كما أنشأ الملك الكامل كتّاب سبيل إلى جوار رباطه. المقريزي ـ المواعظ والأعتبار (2/363)، (2/364)، (2/367) بولاق 1270هـ .
وأنشأ الظاهر بيبرس مكتب سبيل بجوار مدرسته، وقرر لمن فيه من الأيتام الخبز كل يوم، والكسوة في فصلي الشتاء والصيف. المقريزي ـ المواعظ والأعتبار (2/363)، (2/364)، (2/367) بولاق 1270هـ .
ومن دراسة الوثائق الوقفية للعصر المملوكي يتضح لنا أن العادة جرت ببناء مكتب لتعليم الأيتام بجوار المدرس أو المدرسة كما قال المقريزي في المواعظ والاعتبار . وفي الدولة الحمدانية كانت المدارس منتشرة لتعليم الطلاب والفقراء واليتامى من أبناء المسلمين وكانت تجري لهؤلاء الطلاب اليتامى الجرايات من الطعام بمقادير كبيرة .
ووقف المسلمون أوقافا يصرف منها على معلمين يستقبلون التلاميذ الأيتام والفقراء أيام عطلهم الأسبوعية، فيراجعون معهم دروسهم التي تلقوها خلال الأسبوع، ويمنحونهم حسب نشاطهم مصروفا للجيب، في محاولة لتعويض دور الآباء في الدفع بأبنائهم إلى اكتساب المعرفة.
وما زالت دار الأيتام القائمة حالياً في المدينة المنورة تعد من الأوقاف التي أنشأها حجاج القارة الهندية قبل قرابة ثمانين عاماً لأيتام المدينة المنورة ففي عام1352هـ قام الشيخ عبد الغني دادا- يرحمه الله- بتأسيس مكان يأوي أيتام المدينة المنورة وأوقف عليها دارا له واستمر الصرف عليها من غلة ذلك الوقف بالإضافة إلى المساعدات التي كانت تصله من الهند إلى أيتام الدار، حتى أنشئت وزارة العمل والشئون الاجتماعية وتولت الإشراف الكامل عليها، وما زال مبناها الحالي وقفاً على أيتام المدينة المنورة، وهذا مثبت في صك شرعي صادر من محكمة المدينة المنورة عام (1356 هـ) (13).
وقد حرص العلماء والفقهاء والمحدثين على بحث المسائل المتعلقة بالأيتام والصرف عليهم من أموال الوقف ، والحرص على مالهم ، ووجوب رعايتهم ، وأجر كفالتهم ؛ والمفتون كذلك صدروا الكثير الكثير من الفتاوى الشرعية حول الوقف على الأيتام ، وهذا من حرص علماء الأمة على تلك الفئة الضعيفة في المجتمع ، لنرعاهم ونحميهم من المخاطر التي قد يتعرضون لها .
فرعاية الأيتام لم تكن صفحات تسطر بها الكتب العلمية والفقهية بل كانت واقعاً يتنافس على توفيره أهل الخير والبر والعلماء والسلاطين وعامة الناس كذلك ، لتوقير حياة كريمة للأيتام ليعيشوا مثل باقي أفراد مجتمعهم ، والوقف كان له دور كبير في سد ثغرة اجتماعية كان سيعاني منها المجتمع المسلم في حالة إهمالها، وهذا يؤكد أهمية الوقف في علاج المشكلات الاجتماعية في المجتمع .
وخلال عملي الخيري لمست عن قرب كان رغبة الكثير من المتبرعين في الحرص على كفالة الأيتام ، ودوام السؤال عنهم وعن تقاريرهم والتي تعرفهم بحالة اليتيم وحاجاته ، وهذا إن دل فإنما يدل على حرص المسلمين على رعاية اليتيم كسباً في الأجر من الله تبارك وتعالى ، ورغبة في أن ينالوا رفقة الرسول في الجنة ، والتي ما بعدها رفقة ولا نعمة . فالإسلام حرص كل الحرص على حفظ حقوق اليتيم والعناية به عناية إنسانية فاقت العديد من الأمم والشعوب ، ولذا توافرت الأوقاف المخصصة لرعاية الأيتام في العهود الإسلامية .
فما أحوج أيتام المسلمين في أيامنا للرعاية والعناية وتربيتهم تربية إيمانية ، وهذا لا يتحقق إلا بتوفير المؤسسات التي ترعاهم وأن تكون تحت رعاية الوقف والمؤسسات الخيرية والأيادي المتطوعة المخلصة ، ولا بأس بإشراف الحكومات كإشراف إداري وداعم لتلك المؤسسات .
13- عبد الله بن سليمان المنيع، الوقف من منظور فقهي، ضمن أبحاث ندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية- المدية المنورة، 1420 هـ.