فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

غزة ... انطلاقة تحرير أم وقوع في شَرَكِ الآلام.

غزة ... انطلاقة تحرير أم وقوع في شَرَكِ الآلام

 

تناقلت وسائل الإعلام خبر سيطرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على كافة المقار والقطاعات الأمنية في غزة، وفرض سيطرتها الكاملة على الأرض، وتَتَبُعها لعناصر الفساد والفتنة في أرجاء غزة، والذين تساقطوا كأوراقٍ صفراء من على شجرة في خريف عمرها، بعد أن انكشف بجلاء عمالتهم لأعداء الله من اليهود والأمريكان ومن سار في فلكهم، وظهر جلياً مخططهم الساعي لضرب كل ما له صلة بالإسلام والمسلمين.

وهكذا دعاة الفتنة في كل حين ما يلبثون إلا ويكشّروا عن أنيابهم تجاه هذا الدين الذي يزعجهم ويقلقهم، فينطلقون كالذئاب المسعورة يدمرون ويهدمون المساجد، والجمعيات الخيرية ولجان الزكاة، ويعتدون على العلماء والأئمة وكل ملتحٍ أحب أن يتشبه بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تسلم حتى النساء المنقبات من ذلك، لا لذنب سوى أنهم رمز لهذا الدين، وانطلقت صيحاتهم في كل حدب وصوب تلعن الذات الإلهية وتشتم هذا الدين، لتكشف لنا حقيقة ما تكن صدورهم، وما تخفي صدورهم أعظم.

سالت دماء ... وسقط من سقط وسط هذا الهرج، ما بين مظلوم مدافع أو معتدٍ ظالم، ليكتب لنا التاريخ صفحات جديدة من قصة شعبنا المكلوم، الذي لم تكتف أيد العبث الخفية من التآمر عليه، وزجه في أتون المحرقة، إنه مسلسل متواصل لعناصر التآمر والخيانة، وأصحاب الهوى والسلطة، وأصحاب الحزبيات التي لا ترى إلا من خلال مصالحها الخاصة، فلا بأس أن يحترق الشعب كله، وأن يموت من الجوع والحصار، وأن يعيش في أذل حال، المهم هو تحقيق مصالحهم وأطماعهم من أجل حفنة دولارات، وكراسٍ أوهى من بيت العنكبوت، قال تعالى: "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور".

تحرير جديد يصفه البعض، وحُق لهم ذلك فقد عانت غزة هاشم من ثقل هؤلاء المنتفعين والعملاء والمفسدين لدرجة طفح معه الكيل.... والبعض يصفه إنه شَرَك الآلام الذي انزلقت إليه "حماس"، وأياً كان فإن المرحلة المقبلة تتطلب من "حماس" أموراً كثيرة لعلها تستطيع أن تحافظ على قوتها، وتُبقي لشعار الإسلام الذي رفعته عزته ورمزيته، ذلك أن أعداء الإسلام يراهنون على إسقاط الخيار الإسلامي بإسقاط رموزه هنا وهناك، فهل ندعهم ينجحون؟!

ولذا يعقد الكثيرون أنظارهم حول أي مشروع إسلامي يقوم رجاء أن يحقق الحلم، ويكون على مستوى الأمانة التي يحملها، ولا شك أن المهمة الآن أصبحت أثقل من ذي قبل أمام "حماس"، والأيام المقبلة ستكون حصار وضغوط، قد لا تتحملها الجبال الرواسي.

ولذا كانت هذه الكلمات لعلها تلفت الأنظار إلى ما يعين، أو تكون سبباً في إزاحة خطر قادم أو مصيبة عظيمة.

أولاً: ينبغي أن تنصرف همة الأخوة في "حماس" على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني في غزة، وذلك بجمع كل القوى الإسلامية والوطنية المخلصة والتي تهمها مصلحة الوطن من أجل تشكيل إدارة كاملة لكل مناحي الحياة في غزة وتسير شئون البلد حتى تحقق استقراراً واقعياً بأسرع وقت ممكن.

ثانياً: العمل على بسط الأمن والهدوء في جميع الأرجاء، وإشاعة أجواء الأمان، والتنسيق مع جميع الفصائل لتلاشي جميع مظاهر التسلح من الشوارع، وإعادة النظام عبر القوى الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، وفسح المجال لمشاركة كل المخلصين من المجاهدين في هذه القوى.

ثالثاً: العمل على تفعيل برامج اجتماعية في كافة أرجاء القطاع، من القيام بواجب العزاء والمواساة للجميع دون استثناء خلا من ثبتت عمالته وإفساده بالبينة والبرهان، والقيام بأعمال التكافل والإعانة بحسب المقدرة والاستطاعة وتفعيل الدور الوطني في ذلك بكل شرائحه، والخروج عن دائرة الحزبية التي تضر ولا تنفع، وخلق أجواء من الاهتمام والرعاية لدى الناس حتى تهدأ النفوس وتكن القلوب.

رابعاً: وهنا يأتي دور العلماء والدعاة والمصلحين على المنابر وفي الخطب والدروس، وعبر الزيارات والجاهات من أجل رفع الروح المعنوية لدى الناس وبسط أخلاق وتعاليم الدين، وأكرر هنا لا بد "لحماس" أن تطلق يد أهل العلم لينطلقوا في كافة أرجاء القطاع ليكونوا المرجع والرابط للناس، وليشكلوا صمام أمام وظهر شديد تركن إليه "حماس" في مواصلة عملها، وأحذرها من الحزبية التي قد تكون الداء القاتل الذي يطيح بها إذا ما تسترت به، لتكن أبوابها مفتوحة للجميع من العلماء والدعاة والمصلحين للتناصح والمشورة والدعوة والعمل.

خامساً: ولا بد من الانتباه جيداً لما يخطط له من استنزاف الفلسطينيين في مثل مشاريع الاقتتال ليتسنى ليهود السيطرة على المسجد الأقصى والقدس وتهويدها، وهذه دعوة ليست "لحماس" فقط بل لكل المسلمين أن لا تغفل عيونهم عن القدس والمسجد الأقصى، وليشعروا بخطورة الأمر، ولتمتد أيديهم إلى إخوانهم هناك بالمساعدة والمساندة، ولنحمل على كاهلنا جزء من مشروع نصرة الأقصى.

سادساً: كما ينبغي الانتباه إلى ما يراد من فصل غزة عن الضفة الغربية، وقد بدت ظواهر ذلك تتكشف من خلال تصريحات هنا وهناك، ففلسطين كلٌ واحد لا يقبل التجزئة في حلول ترقيعية يصعب بعدها النهوض والتكامل، وكذلك الانتباه إلى تحرك المفسدين والعملاء في الضفة من أجل إشعال أتون الفتنة هناك، وينبغي على "حماس" أن تدرك السبل الناجعة والحكيمة من أجل إيقاف هذه الفتنة، ولا شك أن الأمر أوسع في الضفة والعواقب ستكون أكبر.

سابعاً: تدخل غزة الآن دائرة الحصار الحقيقي القاسي والمدمر، وخصوصاً أن أعداء الأمة أصبح عندهم كل الذرائع اللازمة لذلك، فشبح الإسلام يخيفهم ويقلقهم، ولا بد لشعب اختار الإسلام وأيده أن يباد عن بكرة أبيه، وقد توفرت الآن كل الأسباب التي تثبت سيطرة الإسلام على الأرض أو على الأقل من يمثله.

ووجب هنا تهيأت الرأي العام في غزة بالصبر والمصابرة واليقين بما عند الله، وأن العاقبة للمتقين، مع العمل على البذل لهم ما أمكن وضمن المتيسر، وعدم التمييز بين أحد وآخر.

ثامناً: التحرك بقوة إعلامياً ودبلوماسيا على كافة الأصعدة المتاحة من أجل لجم الإعلام المضاد الذي يشوه الحقائق ويقلب المفاهيم، ولإيجاد نوع من الوعي عند الجماهير الإسلامية أولاً والنخب السياسية ثانياً بحقيقة الأمور، مع الخروج عن بوتقة المنابر الإعلامية الخاصة إلى الفضاء الإعلامي الرحب الذي يصل للجميع، ويطرق كل أذن، مع إتاحة المجال لكل مساعي الحوار البنّاء والطرح الجاد الهادف ليتفاعل وليأخذ وضعه، والبرهنة على أن "حماس" تريد المصلحة الوطنية وأنه أولى أولوياتها.

وحبذا لو تكون هناك مبادرات من جانب "حماس" تسبق فيها الجميع وتقدم لهم الصورة الراقية لأهمية الدين في حكم الناس والدولة، بعيداً عن أية تشنجات أو أطر ضيقة تفقد مشروعهم قوته، "فحماس" لا بد أن تطرح مشروعها بأنه مشروع كل الشعب الفلسطيني الذي يحتوي الجميع من أجل التحرير.

تاسعاً: ليكن قادة "حماس" على حذر أن كثيراً من الدول الإقليمية والدولية ستحاول العبث بالمشروع الفلسطيني واستغلال الظروف لمصالحها واعتباراتها الخاصة ... فالحذر الحذر من أن تكون أداة طيعة في يد هؤلاء أو أولئك وإن اشتدت الأزمة، فلا مكان لكل من يريد أن يفسد عقيدتنا أو يجعلنا نتنازل عن ثوابتنا وأهدافنا الإستراتيجية، وهذه الأمانة التي إن فرطنا فيها كان الخزي والعار في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، والثبات وإن كان معه الخسارة في الدنيا تهون وتعوض، والله لا يضيع عمل عامل وهو يجازي عباده الصابرين بغير حساب.

عاشراً: آن الأوان لكل القوى الإسلامية أن تجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم، وليعلموا أنهم مستهدفون جميعاً، وأن العدو لا يفرق بينهم، وإن استثنى بعضهم فليس لرضاه عنه، وإنما لم يأت دوره بعد في المقصلة.

الحادي عشر: لا بد أن تدرك "حماس" أن الأعداء يرصدون كل شيء على أرض الواقع، وهم لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، والمطلوب أن لا تنسينا الأحداث أمران مهمان: الأول: عدم نسيان الجانب الأمني والوقائي لقادتنا وعلمائنا ومجاهدينا، فكشف الأوراق والتحرك بأريحية لم يحن أوانه بعد، بل الأمر يحتاج إلى مزيد من الحيطة والحذر في مثل هذه الظروف، بل وتدفع إلى مزيد من الحيطة والحذر. والثاني: عدم إغفال جانب الرباط والمرابطة على ثغور غزة حتى لا يباغتنا العدو على حين غرة فيأخذ الأخضر واليابس، فواجب الرباط لا يزول إلا بزوال الاحتلال عن كامل فلسطين، ومجاهدينا هم أعيننا الساهرة لأمة ارتفعت وعزت بالجهاد.

الثاني عشر: خطاب أوجهه لكافة المسلمين أن المرحلة القادمة هي مرحلة العطاء الحقيقي لإخوانكم، فواجب النصرة أضحى في رقابنا أعظم وأكبر، كل في مجاله وبما يستطيعه ويبذله، حتى لا يسقط مشروع الأمة في الجهاد ومقارعة الأعداء، فسقوطه سقوط لكل معاني العزة والرفعة، كما أن الجميع مطالب لمد يده بالدعاء، والإلحاح في ذلك، والعاجز من عجز عن الدعاء.

الثالث عشر: وفيه أخاطب الدول العربية السنية إياكم أن تدفعوا شعبنا ليبيع عقيدته وولائه بسبب خذلانكم وعدم نصرتكم، فمبادرة "مكة" صححت المسير وأعادت الأوراق إلى الطاولة الصحيحة، وقطعت الطريق على الكثير من المتربصين، و "حماس" فتحت أبوابها من أجل عمل جاد بناء يكون لكل الدول السنية الدور الأبرز للعمل من خلاله، والقيام بواجب النصرة والدعم، وفتح أفق الحوار، ورفع الظلم، فالله ... الله بهذا الشعب المكلوم، وإنكم والله مسؤولون أمام الله عن تضييعه، فلا تخيبوا رجائه.

وأخيراً ..... أرجو أن أكون وفقت في تقديم تصور يعين للمرحلة القادمة والتي يدفع فيها الفلسطينيون دفعاً تجاه أتون الفناء أو التسليم المطلق للأعداء، وفقه المرحلة واجب شرعي لكل من أراد أن يكون في مقدمة هذه الأمة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

عبد الرحمن الحجي

15/6/2007م

 

 

.