فلسطين التاريخ / تاريخ
من روائع أوقاف المسلمين ( 9/10 ) الصرف على الثغور وفك الأسرى ورد المعتدين
من روائع أوقاف المسلمين
( 9/10 )
عيسى القدومي
الصرف على الثغور وفك الأسرى ورد المعتدين
وعى المسلمون منذ القرون الأولى ما للوقف من مقاصد سامية ومصالح ملموسة في الحفاظ على مكانة الأمة وأمنها ، فالوقف كان خير معين على الجهاد وحماية الثغور ببناء الربط والمراكز في مناطق التماس مع العدو وتقديم الدعم للمجاهدين خاصة في عهود نشر الإسلام والفتوحات في المشرق والمغرب .
الصناعة الحربية والأربطة التي يرتادها المجاهدون لحماية الثغور أوقفت لها الأوقاف لرد المعتدين على بلاد المسلمين ، فنشأت الكثير من المصانع خاصة في بلاد الشام ومصر أيام الحروب الصليبية على بلاد المسلمين. أوقفت أمكنة المرابطة على الثغور لمواجهة الغزو الأجنبي على البلاد ، وتبع ذلك وقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله - عز وجل - وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصنعة الحربية وقيام مصانع كبيرة لها في بلادنا ، حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية ، يفدون إلى بلادنا - أيام الهدنة - ليشتروا منا السلاح ، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء (1).
ويتبع ذلك أوقاف خاصة يعطى ريعها لمن يريد الجهاد ، وللجيش المحارب حين تعجز الدولة عن الإنفاق على كل أفراده ، ولذلك كان الجهاد في سبيل الله ميسراً لكل مناضل يود أن يبيع حياته في سبيل الله ليشتري بها جنة عرضها السموات والأرض (2).
ومنذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أخذ الكثير من الصحابة بسنة الوقف لأنه الصدقة الجارية التي لا تنقطع ، ولذلك قال الرسول r مبيناً هذا الفضل العظيم : " من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإن شبعه وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" (3).
ولقد امتدح رسول الله r خالد بن الوليد، على وقفه أَعْتَاده وأدراعه؛ فقال: «أما إنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" (4).
ومما شجع على الوقف في العهود الإسلامية أن هناك أوقافا كتب لها الاستمرار مددا طويلة تبلغ القرون، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن العماد في شذرات الذهب في وفيات سنة 946هـ فقد ذكر أن شهاب الدين أحمد بن بركات بن الكيال الدمشقي الشافعي كان ناظرا على أوقاف الصحابي الجليل سعد بن عبادة ".
وقد بلغت صناعة الأسلحة الحربية الثقيلة والنارية عند المسلمين في أيام الدولة المملوكية مبلغاً عظيماً ، حيث امتازت في الدقة والإتقـان والمهارة العاليـة في استخدامها مع التجديد والإبداع ؛ مما جعلهم ينتصرون على أعدائهم - بعد توفيق الله - في كثير من معاركهم لاسيما ضـد الصليبيين والمغول . والأوربيون استفادوا منها ، وبنوا عليها الكثير مما وصلوا إليه الآن من تقنية متقدمة في صناعة مختلف أنواع الأسلحة (5).
أما الأسلحة النارية فقد بدأ تطويرها في العصر الأيوبي ؛ وما أنتجته مصانعهم الحربية من مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والنارية بلغت درجة كبيرة من الدقة والإتقان والتكامل، وظهرت دولتهم بصورة مشرقة تصدرت العالم الإسلامي في وقتها .
وفي العهد المملوكي تم حصر اثنين وأربعين مركزًا للتصنيع الحـربي موزعة في القلاع والحصون الحربية ، وفي الثغور البحرية ، وفر لتلك المصانع ما يلزمها من المشرفين والفنيين والعمال ، والموارد المالية المختلفة للصرف عليها.
وكان للمسلمين باع طويل في تأليف الكتب العسكرية المختلفة التي تبحث في الفنون الحربية كالفروسية والرمي وإدارة المعارك وسياسة الحروب وبعضها يبحث في صنوف الأسلحة وصفاتها وصناعتها وأساليب استعمالها والتدريب عليها ، وكان للوقف دور في توفير البيئة لهذا النتاج .
واستمر هذا الإبداع في التصنيع العسكري في العهد العثماني ، بل إن زيارة متاحف اسطنبول تؤكد التقنية الصناعية التي بلغت فيها الصناعة الحربية مبلغاً عظيماً ، حيث كان للوقف الدور الكبير في تطور تلك الصناعة و حماية الخلافة لأكثر من خمسة قرون ، ومما حققت من انتشار .
ووقفت الوقوف في الماضي لفك الأسرى من المسلمين الذين أسرهم الأعداء والملاحظ أن أكثر هذه الوقوف كانت حين كانت الحروب الصليبية وما بعدها وذكر القاضي عبد الرحيم البيساني ببغداد أوقف وقوفاً على الصدقة وفك الأسرى([5]) . وذكر ابن كثير في البداية أنه كان لعبد الرحيم بن القاضي الأشرف والذي عمل كاتبا أيام الفاطميين وصلاح الدين بديوان الإنشاء أوقاف على تخليص الأسارى من يد النصارى (7).
البداية والنهاية ابن كثير أيضا : "أن بعض الأوقاف في الشام كانت موقوفة لفك الأسارى من المسلمين (8). أوقف الخليفة المقتدر ما غلته تسعون ألف دينار على الحرمين وعلى الثغور وأنشأ ديوانا للوقف سماه ديوان البر. كانت بعض القرى وقفاً على المقطعين أي المقاتلة غير المسجلين في الديوان.
الوقف على السجناء :
كما وجدت أوقاف خاصة لتخليص السجناء ووفاء ديونهم، وفكاك أسرى المسلمين، كما وجدت أوقاف خيرية تنفق على أسر السجناء وأولادهم، حيث يقدم لهم الغذاء والكساء وما يحتاجونه من أمور أخرى.
وعلاوة على الصرف على المساجين وعوائلهم من أموال الوقف كانت هناك بعض الأوقاف مخصصة للصرف على الفقهاء بشرط أن يؤموا المساجين أوقات صلواتهم وأن يدرسوا ويفقهوا السجناء ويقودوهم في حياتهم العملية ليخرج هؤلاء من السجن وقد استفادوا علماً من العلوم أو حرفة من الحرف، وهذا ما يسمى في الوقت الحاضر بالرعاية اللاحقة وهي الرعاية التي تقدم للسجين وأسرته في أثناء سجنه، حتى لا يعود إلى الانحراف مرة أخرى، وحتى لا ينحرف أحد أفراد أسرته بسبب غيبته عنهم وعدم وجود الولي والرقيب عليهم.
وأوقاف خصصت لإكساب الحرف والمهنة للمسجونين ، وتعليم بعضهم الصناعات الخفيفة والمتوسطة حتى يخرجوا من السجن وهم قد تعلموا صنعه يتكسبون منها قوت يومهم.
أوقف الخليفة المقتدر ما غلته تسعون ألف دينار على الحرمين وعلى الثغور وأنشأ ديوانا للوقف سماه ديوان البر.
أوقف عبدالله بن مشكور الحلبي ناظر الجيش والمتوفى سنة 778هـ أوقافاً على المساجين (9).
المراجع :
- من روائع أوقافنا ، مصطفى السباعي .
- الدارس في تاريخ المدارس ،
- الكامل في التاريخ ، لابن الأثير .
- البداية والنهاية ، لأبن كثير .
1- من روائع حضارتنا ، د.مصطفى السباعي ، ص 201 .
2- من روائع حضارتنا ، د.مصطفى السباعي ، ص 203 .
5- مقدمة كتاب الفروسية والمناصب الحربية ، للعبادي ص6-7 .