فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

مختصر لتسلسل أحداث المقاومة الفلسطينية المعاصرة

مختصر لتسلسل أحداث المقاومة الفلسطينية المعاصرة

منذ عام 1948م وحتى وقتنا الراهن


نبذة تاريخية:

شهد عام 1948م إنشاء الكيان الصـهـيـوني على أرض فلسطين؛ حيث تمكن من الاستيلاء على 78% من هذه الأرض المباركة، وتـشـريــد معـظـم أبنائها، وقد أخذ هذا الكيان يرسخ أقدامه في المنطقة، ويستقدم اليهود من شتى أنحاء الـعـالـم، كـمـا استطاع أن يشكل خطراً كبيراً على المنطقة العربية والإسلامية وأمنها واستقرارها، وأن يسهم في إضعافها وتمزيقها، مستفيداً من دعم الدول الكبرى ـ غير المحدود ـ وخصوصاً الولايـــات المتحدة. ولم تنجح الجيوش العربية سنة 1948م في مواجهة هذا الخطر، كما هزمت مـرة ثانية سنة 1967م وضاع ما تبقى من فلسطين فضلاً عن أراض عربية أخرى.

غير أن المقاومة الفلسطينية للكيان الصهيوني استمرت بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة طوال الفترة الماضية.

وفي هذا المقال نحاول تسليط الضوء على تجربة المقاومة الفلسطينية الإسلامية ضد الكيان الصهيوني خلال الفترة الماضية، وسنقسم هذا الموضوع إلى قسمين:

الأول: نستعرض فيه مراحل المقاومة التي خاضها الفلسطينيون خلال تلك الفترة.

والثاني: نحاول فيه تقديم تقييم أولي لهذه التجربة.


أولاً: مراحل المقاومة:

المرحلة الأولى: 1948 ـ 1967م:

منذ البداية وجد ثلثا شعب فلسطين أنفسهم مشردين لاجئين (أكثر من 800 ألف) بعد أن وضــــع الـكـيــان الصهيوني يده على أربعة أخماس فلسطين، وتم تغييب دور القيادة الفلسطينية الوطـنـيـــة الممثلة يوم ذاك بالحاج أمين الحسيني ورفاقه الذين شكلوا حكومة عموم فلسطين التي حـُـرِمت من ممارسة صلاحياتها على الأرض، وضَمّت الأردنّ الضفةَ الغربيةَ فيما وضعت مصر قطاعَ غزة تحت إدارتها.

وفي هذه المرحلة علّق الـفـلـسـطـيـنـيـون آمالهم على (قومية المعركة) وعلى الأنظمة العربية وخصوصاً مصر بزعامة عبد الناصر، وكـــان شــعــار: (الوحدة طريق التحرير) هـو الشعار البراق لتلك المرحلة. غير أن الأنظمة العربية اتخذت صـبـغــات عـلـمــانية ذات مضامين اشتراكية أو غربية أو محافظة، وشهدت فترة الخمسينيات والستينيات مداً قومياً ويسارياً جــارفــــــاً، وانحساراً مؤلماً للتيار الإسلامي، ورغم حالة العداء والحروب مـع الـكـيـان الصهيوني، إلا أن الخط البياني للأنظمة العربية كان يسير باتجاه (التسوية) وليس باتجاه (التحرير) وتم تـبـنـي الـمـقـاومــــــة الفلسطينية لأسباب تكتيكية مرحلية وليس لأسباب استراتيجية شاملة. وسارت سياسات دول المواجهة مع المقاومة الفلسطينية ضمن خطين:

الأول: ضمان أمن النظام وبقائه، وعدم تعريضه لمخاطر الانتقام الصهيوني، ومن ثم ضبط العمل الفدائي، ووضعه تحت الـسـيـطـــــرة ما أمكن، ومنعه من استخدام الحدود للقيام بعمليات مسلحة.

والخط الثاني: السماح المرحلي التكتيكي بوجود المقاومة وعملها، تحقيقاً لمكاسب سياسية وشعبية أو تجنباً لاضطرابـات داخليـة، وتنفيساً عن غضب الجماهير، ولذلك بقيت حدود دول المواجهة مع العدو مغلقة محرمة على الـعـمــل الاستشهادي الفلسطينـي طـوال الخمسين عاماً الماضية، مع استثناءات لفترات محدودة فرضـتـهــــا ظـروف معينـة، وكان أهم هذه الاستثناءات جنوب لبنان، الذي تشكلت فيـه قاعـدة مـقــاومــة قويـة بعد 1967م، ليس بسـبـب رغـبـة النظم الحاكمة هناك، وإنما بسبب ضعفـه وقوة الثورة وقاعدة تأيـيـدهـــا الواسعة.

وفي هذه المرحلة، اتخذت المقاومة الفلسطينية أشكالاً بسيطة محدودة التأثير، بانتظار دور عربي حاسم، فـكـثرت عمليات اختراق الحدود الفردية لاسترجاع ممتلكات للعائلات أو للانتقام من الغاصبين. ونشط الإخوان المسلمـون (الحركة الإسلامية التي تتمثل اليوم في حماس) في قطـاع غـزة في تشجيع وتجنيد الشباب للقيام بالعمليات الـفـدائية، وساعدهـم في ذلك ضبـاط إسلاميون مصريون مـن أمثـال عبد المنعم عبد الـرؤوف، وقـام الإخوان في النصف الأول من الخمسينيات بزرع الألغام، ونسف المنشآت، وتخريب خـطـوط الـميـاه والكهرباء مما أدى إلى ردود فعل صهيونية متغطرسة، وإثر مذبحة غزة التي قامت بها القوات الصهيونية في 28 شبـاط / فبراير 1955م، وإثر انتفاضة غزة في الأول من آذار/ مارس 1955م وافقت القيادة المصرية على العمل الفدائي الفلسطيني، ووضعته تحت إشراف الضابط المصري مصطفى حافظ الذي قام بواجبه خير قيام. وتدفـق الآلاف للتطـوع؛ غير أنه تم انتقـاء العناصر ذات الخبرات القتالية وذات المعرفة بالأرض، وزاد عدد الفدائيـين العاملـين عن الألـف، وكثير منهـم من أبناء الحركة الإسلامية ومؤيديها، وقاموا بعمليات يومية خاطفة، وأحياناً بعمليات كبيرة واسعة شارك في إحداها 300 فدائي في نيسان / إبريل 1956م توغلوا لمسافات كبيرة ونجحوا في مهامهم.

وحتى بعد حظر نشاط الإخوان المسلمين في القطاع، وتعرضهم للمطاردة فقد استمروا في عملهم الجهادي السري، وشكلوا مجموعات جهادية مسلحة مثل (شباب الثأر) و (كتيبة الحق) وكان لهم دورهم المشهود في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للقطاع تشرين الثاني/ نوفمبر 56 آذار/ مارس 1957م إثر العدوان الثلاثي على مصر. وبرز من الإخوان خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان أحد أنشط عناصرهم العسكرية. غير أن ظروف محاربة النظام الحاكم في مصر للإخوان، وإفساح المجال للتيارات القومية واليسارية، فضلاً عن هجرة العديد من الكفاءات ورموز الإخوان إلى الخارج وخصوصاً دول الخليج، كل ذلك أضعف من قوة حركة الإخوان في القطاع وهمّش دورها منذ أواخر الخمسينيات وحتى عام 1967م.

ومنذ تلك الفترة استمر سلوك الحركة الإسلامية العام بالمحافظة على النفس والتركيز على الجوانب الإيمانية والتربوية؛ غير أن هذا لم يمنع من ظهور تساؤلات وسط الصف الشبابي (الإخواني) عن وسائل العمل الممكنة لقضية فلسطين، فأخذ يظهر توجه للقيام بعمل منظم مسلح لا يتخذ أشكالاً إسلامية ظاهرة، وإنما يتبنى أطراً وطنية عامة تمكن من تجنيد قطاع واسع من الشباب، ولا تصطدم بعداء وملاحقة الأنظمة، وقدم خليل الوزير مشروعاً بذلك إلى قيادة الإخوان في غزة، لكنه لم يحصل على ما يرجوه. وفي المقابل شكلت تجربة الثورة الجزائرية المظفرة بارقة أمل، ودفعة معنوية كبيرة للقيام بعمل وطني. وقد كانت هذه هي البذور الأولى لنشأة حركة فتح التي خرجت أساساً من أحضان الإخوان المسلمين، وبالذات أبناء قطاع غزة ـ ورغم عدم استجابة المسؤولين من الإخوان إلا أن عدداً من ذوي المكانة والاحترام بين القواعد ـ ممن اقتنعوا بهذا التصور ـ قاموا بدعوة إخوانهم الآخرين للانضمام لهذه الحركة، وكان منهم سعيد المزين (أبو هشام) وغالب الوزير، وانضم إليهم عدد من الإخوان المرموقين في ذلك الوقت مثل: سليم الزعنون (أبو الأديب) وصلاح خلف (أبو إياد) وأسعد الصفطاوي، ومحمد يوسف النجار، وكمال عدوان، ورفيق النتشة، وتمكنت فتح من تجنيد أفراد كثيرين ممتازين من الإخوان، وكان الإخوان يعتبرون هذه الحركة منهم أو رصيداً لهم، وقد نشأت فتح في الكويت في أواخر 1957م؛ وتشير إحدى المصادر الإخوانية أن قيادتها الأولى كانت من خمسة أعضاء أربعةٌ منهـم من الإخوان أو ذوو جذور إخوانيـة هم: أبو جهاد، ويوسف عميرة، وعبد الفتاح حمود، وسليمان حمد، والخامس (أبو عمار) ياسر عرفات الذي كان قريباً من الإخوان. لكن على ما يبدو فإن قيادة الإخوان في غزة أصرت إما على الإشراف الكامل على الحركة بوجود ثلاثة أعضاء تعينهم بنفسها أو بالانفصال عن الحركة، ولما لم تستجب فتح لذلك فقد أمر الإخوان قواعدهم بالانفصال وخيّروهم بين إحدى الجهتين وذلك في عام 1963م، وهكذا خسر الطرفان بعضهما بعضاً وتوسعت فتح في تجنيد العناصر من تيارات مختلفة.

استطاعت حركة فتح تشكيل جناح عسكري (العاصفة) وقامت بأول عملياتها العسكرية في مطلع 1965م وتمكنت من شن حوالي 200 عملية منذ ذلك الوقت وحتى حرب حزيران/ يونيو 1967م وقد اتهمتها الأنظمة العربية بالرجعية والعمالة، ومحاولة جرها للحرب مع العدو قبل الأوان، وقامت بملاحقة أفرادها وسجنهم، ومنعهم من التحرك والعمل، لكن هزيمة الأنظمة في 1967م فتحت أمامها آفاقاً جديدة.

ومن جهة أخرى دعمت الأنظمة العربية منظمة التحرير الفلسطينية في حزيران/ يوليو 1964م بزعامة أحمد الشقيري، ورغم أن هدف بعض هذه الأنظمة كان وضع المقاومة الفلسطينية تحت الإشراف والسيطرة بعد شعورهم بما كانت تموج به الساحة من حركات سرية وأنشطة بعيدة عن التحكـم الرسمي، ورغـم ذلك فإن (منظمة التحرير الفلسطينية) لقيت تأييداً شعبياً باعتبارها ممثلاً للكيان الفلسطيني والهوية الوطنية التي جرى تغييبها، هذا مع تحفظ عدد من الجهات ومنها فتـح على خلفيـات إنشائهـا، وعـدم قـدرة (منظمة التحرير الفلسطينية) على القيام بواجباتها، وقد تم تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني الذي أقر إنشاء (منظمة التحرير الفلسطينية) وميثاقها، كما تقرر تشكيل جيش التحرير الفلسطيني ليتبع (منظمة التحرير الفلسطينية) وتم القيام بعدد من الجهود التعبوية والإعلامية.


المرحلة الثانية، 1967م ـ 1987م:

كشفت حرب حزيران/ يونيو عام 1967م مدى الضعف الذي كانت تعاني منه الأنظمة العربية، ووضعت حداً للآمال التي كانت معلقة عليها، وشعر الفلسطينيون أكثر من أي وقت مضى بضرورة أخذ زمام المبادرة بأيديهم، واضطرت الأنظمة تفادياً لموجات الغضب الشعبي أن تفسح المجال للعمل الفدائي، الذي استطاع أن يبني قواعد قوية وواسعة في الأردن ولبنان، واستطاعت التنظيمات الفدائية بزعامة فتح أن تصل إلى قيادة (منظمة التحرير الفلسطينية) التي أصبحت برئاسة (أبو عمار) منذ شباط / فبراير 1969م، وبرز خط الكفاح الشعبي المسلح وحرب العصابات، واكتسبت الشخصية الوطنية الفلسطينية زخماً كبيراً، وتمكنت (منظمة التحرير الفلسطينية) في مؤتمر الرباط في تشرين الأول/ أكتوبر 1974م من الحصول من الأنظمة العربية على الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وفي الشهر التالي حققت انتصاراً سياسياً عندما ألقى أبو عمار خطابه في الأمم المتحدة (دون أن يتنازل عن أي من حقوق الفلسطينيين، وتم قبول (منظمة التحرير الفلسطينية) عضواً مراقباً، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف السبعينيات قرارات تؤيد حق شعب فلسطين في تقرير مصيره، بل وفي الكفاح المسلح لنيل حقوقه.

كانت الفترة بين 1967م ـ 1970م هي الفترة الذهبية للعمل الفدائي الفلسطيني، وكانت معركة الكرامة في 21 آذار / مارس 1968م إنجازاً معنوياً ومادياً كبيراً لحركة فتح، بعد أن تم تكبيد العدو الصهيوني خسائر كبيرة، فاندفع الآلاف للتطوع وتسجيل أنفسهم، وخلال 48 ساعة كان حوالي خمسة آلاف قد طلبوا الانضمام لفتح فقبلت منهم 900 فقط حسب إمكاناتها ومعاييرها. وتطورت العمليات الفدائية من 12 عملية شهرياً 1967م إلى 52 شهرياً سنة 1968م ثم إلى 199 عملية شهرياً سنة 1969م وإلى 279 عملية شهرياً في الأشهر الأولى من سنة 1970م.

ومن جهة أخرى فإن الكيان الصهيوني ظل يقوم بحملات متواصلة ضد قواعد الفدائيين في لبنان، بل وضد المدنيين وقراهم ومحاصيلهم ليمنع أي دعم محتمل من السكان لإخوانهم، فكان من ذلك هجماتهم على العرقوب بين 1970 ـ 1972م، واغتيال ثلاثة من قيادة المنظمة في بيروت في نيسان/إبريل 1973م (محمد يوسف النجار، كمال عدوان، كمال ناصر) وقاموا بحملة اجتياح واسعة للجنوب اللبناني في مارس 1978م، نجحوا على إثرها في إنشاء حزام أمني بقيادة سعد حداد، وفي معركة الشقيف في 19 آب / أغسطس 1980م حققت المقاومة الفلسطينية نجاحاً كبيراً ضد الهجوم الصهيوني. وكان اجتياح الجيش الصهيوني للبنان في صيف 1982م هو الأضخم والأعنف، وقد تمكنت من اجتياح الجنوب بسهولة وسرعة نسبية، غير أنه توقف عند أسوار بيروت حوالي ثمانين يوماً، وُوجِه خلالها بمقاومة عنيفة. لكن الهجوم نجح على أي حال في تدمير معظم البنية التحتية للعمل الفدائي في لبنان، وفي إخراج آلاف المقاتلين الفلسطينيين إلى معسكرات بعيدة في اليمن وتونس والجزائر والسودان، وهكذا ضُيّق الخناق على أي مقاومة فلسطينية محتملة من خارج فلسطين.

وبالتأكيد فإن معدل العمليات الفدائية ضد الكيان الصهيوني قد انخفض في السبعينيات، وتراجع إلى حدود متواضعة جداً في الثمانينيات، غير أن هناك عدداً من العمليات النوعية التي تجدر الإشارة إليها مثل عملية سافوي التي قامت بها فتح  في تل أبيب في 6 آذار / مارس 1975م وأدت إلى مقتل وجرح خمسين جندياً وخمسين مدنياً، وعملية كمال عدوان بقيادة دلال المغربي في آذار / مارس 1978م مما أدى على الأقل لمقتل 37 وجرح 82 من الصهاينة .

وقامت منظمات فدائية أخرى بعمليات مثل اختطاف الطائرات، والتي برزت فيها الجبهة الشعبية خصوصاً في 1970م، والهجوم على مطار اللد في 30/5/1972م مما أدى إلى مقتل 31 وجرح 80 آخرين، وعملية (الخالصة) التي نفذتها الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة في 11 نيسان / إبريل 1974م، وعملية الطائرة الشراعية التي نفذتها الجبهة نفسها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987م، وغيرها.

وهكذا، فمنذ عام 1982م أدى الإنهاك العسكري إلى استضعاف سياسي، وكسب أنصار تيار (الواقعية) في (منظمة التحرير الفلسطينية) دفعات جديدة باتجاه تبني حلول سلمية. والحقيقة أن (منظمة التحرير الفلسطينية) بدأت تغيّر خطابها السياسي منذ فترة مبكرة، خصوصاً منذ تبنيها برنامج النقاط العشر سنة 1974م، وكثرة الحديث عن الحلول المرحلية إلخ.. وكانت موافقة (منظمة التحرير الفلسطينية) على مشروع فاس 1983م علامة فارقة لما يتضمنه من اعتراف بحق دول المنطقة في العيش بسلام (بما فيها الكيان الصهيوني).

وواجهت قيادة (منظمة التحرير الفلسطينية) سنوات عجافاً خلال 1983م ـ 1987م انعكست على شكل تراجع في الأداء النضالي المسلح، وانتكاسات على المستوى السياسي.

أما من جهة التيار الإسلامي فإن مرحلة 1967م ـ 1987م كانت مرحلة تصاعد تدريجي في الشعبية، ومع نهاية السبعينيات بدأ الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يحقق نجاحات واسعة في الداخل والخارج، فعلى الصعيد الطلابي أخذ يسيطر على عدد من الاتحادات الطلابية، وتوسعت دائرة نفوذه في النقابات المهنية، وأخذ الرصيد الشعبي العام في الاتساع على حساب الاتجاهات الأخرى، ولكن هذا التوسع كان في الميدان الشعبي والاجتماعي والخيري والتربوي (وهذا فيه دلالة على فقه القادة الاسلاميين لواقعهم وأن بناء القاعدة يكون قبل كل شئ أي قبل الجهاد والمقاومة )، بينما بقي العمل الجهادي والسياسي منعدماً أو منحسراً حتى أواخر السبعينيات، ويبدو أن قيادات التيار الإسلامي عملت على بناء قاعدة صلبة لعمل طويل المدى، وعدم الاستعجال في حرق المراحل، وخشيت من تكرار تجارب غير ناضجة لتنظيمات مسلحة ما لبثت أن تحولت إلى (دكاكين) ومكاتب إعلام تخدم أطرافاً عربية معينة لها مصالحها وحساباتها الخاصة، ورأت أن مثل ذلك يلطخ الصورة التي يريدون تقديمها ويورث الإحباط فهم أخروا الجهاد لحكمة لا أنهم عملاء وخونة كما كان يشاع عنهم من اليساريين والعلمانيين .

وعلى أي حال، فقد كانت هناك مشاركة محدودة للإخوان المسلمين في (معسكرات الشيوخ) في الأردن 1968م ـ 1970م حيث تم تدريب حوالي (300) رجل توزعوا على سبع قواعد فدائية، وعملوا تحت مظلة فتح؛ وعلى محدودية إمكاناتهم، فقد قدموا نماذج مشرفة، فخاضوا عمليات قوية ناجحة مثل الحزام الأخضر 31 آب / أغسطس 1969م ودير ياسين 14 أيلول / سبتمبر 1969م وسيد قطب 28 آب / أغسطس 1970 واستشهد منهم حوالي 13 رجلاً.

وفي أواخر السبعينيات، كانت الظاهرة الإسلامية قد قويت في الأرض التي احتُلت سنة 1948م، وكُشف في 1980م تنظيم (أسرة الجهاد) بقيادة فريد أبو مخ وعبد الله نمر درويش، واعتُقل حوالي ستين عضواً، وكان قد قام بعشرات العمليات في الأرض المحتلة. وفي قطاع غزة، برز دور المجمع الإسلامي بقيادة الشيخ أحمد ياسين، وفي سنة 1983م قبض على الشيخ أحمد ياسين وعدد من رفاقه، بعد اكتشاف مخزن أسلحة في أحد المساجد، بتهمة إنشاء تنظيم معاد للكيان الصهيوني. أما حركة الجهـاد الإسـلامي فكان أبناؤها المؤسسـون أعضاء في (الإخوان) حيث تكونت نواتهم الأساسية من الطلبة الفلسطينيين الدارسين في مصر في أواخر السبعينيـات برئاسة د. فتحي الشقاقي، وبدأوا تشكيلاتهم في فلسطين منذ 1980م، ودعوا إلى (الإسلام منطلقاً، والجهاد وسيلةً، وفلسطين هدفاً للتحرير) وكان من أبرز عملياتهم عملية باب المغاربة التي أدت إلى إيقاع حوالي ثمانين إصابة في جنود العدو الصهيوني في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1986م(16).


المرحلة الثالثة: 1987م ـ 1998(الآن):

بقدر ما تجلت قدرات شعب فلسطين في هذه المرحلة على التضحية والعطاء من خلال الانتفاضةـ المباركـة، بقـدر ما كانـت الحصيلة مخيبة للآمال ـ لقد كانت الانتفاضة التي اندلعت في 9 كانون الأول ديسمبر 1987م من أروع وأنبل ما شهـده تاريخ فلسطين المعاصر عندما واجه الشعب الأعزل بأطفاله ونسائه وشيوخه الجيش الصهيوني المدجج بالسلاح، و(تحدّت العين المخرز) وواجه الحجر الرصاصة والدبابة. في هذه الانتفاضة شارك الشعب تحت الاحتلال في الضفة والقطاع بكل فئاته واتجاهاته وقطاعاته، وتميزت هذه الانتفاضة بأمرين جديدين: الأول: أن (الداخل) المحتل أخذ زمام المبادرة النضالية، بعد أن كانت بيد العمل من (الخارج). والثاني: (أن التيار الإسلامي شارك بقوة وعنف وفاعلية، وبرز لأول مرة على ساحة المواجهة بحجم منظم مؤثر. لقد أكدت هذه الانتفاضة رفض أبناء فلسطين للاحتلال وإصرارهم على المقاومة، وراقب العالم في ذهول أطفال فلسطين وهم يفضحون آلة القمع الصهيونية، ويكشفون وجهها القبيح، وبدأ العالم يستذكر أن هناك شعباً مقهوراً مستعمَراً اغتُصبت أرضه.

وتميزت المرحلة الأولى من الانتفاضة المباركة بالمواجهة الشعبية الواسعة، والإضرابات، والمظاهرات، ومقاطعة الإدارة المدنية الصهيونية، وتنظيف المجتمع من العملاء ومروجي الفساد والمخدرات، أما المرحلة الثانية: فقد شهدت تنامي العمليات المسلحة ضد الصهاينة مع تراجع الأنشطة الجماهيرية خصوصاً منذ أوائل 1992م وحسب مصادر (منظمة التحرير الفلسطينية) فإنه خلال الفترة من كانون الأول / ديسمبر 1987م إلى كانون الأول / ديسمبر 1993م، كان قد استشهد 1540 فلسطيني وجرح 130 ألفاً واعتقل 116ألفاً.

وقد تلازم إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مع بداية الانتفاضة، واعتبرت من أكثر الأطراف فاعلية، إن لم تكن أبرزها جميعاً. وقد عرّفت حماس نفسها بأنها جناح للإخوان المسلمين وامتداد لهم، وذكرت في ميثاقها أنها (تعتبر الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها، وإليه تحتكم، ومنه تسترشد خطاها). وهدفت إلى تحرير فلسطين، وإقامة دولة الإسلام على أرضها، ودعت إلى تربية متكاملة للأجيال لتحقيق الغايات المرجوة.

وقد استطاعت حماس أن تحقق شعبية واسعة فكان مؤيدوها يحصلون على ثلث الأصوات وأحياناً نصفها عادة في انتخابات الطلاب والنقابات المهنية. وفي مقابلة صحفية للدكتور هشام شرابي المعروف بميوله العلمانية قال: إن حمـاس هـي الشكـل الجديـد للمقاومة وأنها (نجحـت حتى الآن فيما عجـزت عنـه (منظمة التحرير الفلسطينية) وفصائلها خلال أكثر من ربع قرن في استنباط أشكال جديدة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من الصراع العسكري الفعال باستقلال عن كل عون خارجي)، وقد تطور عمل وأنشطة حماس من المظاهرات والمواجهات الشعبية إلى قذف القنابل الحارقة والطعن بالسكاكين وتصفية العملاء، إلى العمليات الجهادية المسلحة ونصب الكمائن، إلى العمليات الاستشهادية، غير أن أطراف (منظمة التحرير الفلسطينية) سعت لاستثمار سياسي سريع للانتفاضة بدخول مؤتمر مدريد 1991م، ثم توقيع اتفاقية أوسلو 1993م وبدء مشروع الحكم الذاتي 1994م، وقد زاد هذا من صعوبة عمليات حماس، وأصبحت تتعرض لضغط فلسطيني وصهيوني مشترك؛ ورغم ذلك فقد شهدت الفترة من 1994م ـ 1997م عدداً من العمليات النوعية القوية ومن ذلك ردها على مذبحة المسجد الإبراهيمي بخمسة عمليات عنيفة، وردها على مقتل المجاهد يحيى عياش (الذي كان مهندساً لعمليات أدت لقتل حوالي سبعين إسرائيلياً وجرح 340 آخرين) بعدة عمليات في شباط / فبراير، وآذار / مارس 1996م هزت الكيان الصهيوني واستدعت عقد مؤتمر (شرم الشيخ) الدولي بحضور الدول الكبرى لمكافحة (الإرهاب).

وحسب إبراهيم غوشة الناطق الرسمي باسم حماس فإن الحركة قدمت منذ الانتفاضة حوالي سبعمائة شهيد، ولا تزال حماس تتعرض للملاحقة والمطاردة والاجتثاث، من قِبَل سلطات الحكم الذاتي ومن قِبَل الكيان الصهيوني.

ومن جهة أخرى فقد قامت حركة الجهاد الإسلامي بعدد من العمليات النوعية والاستشهادية مثل عملية نتساريم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994م وعملية (بيت ليد) في 22 كانون الثاني/ يناير 1995م وعملية (تل أبيب) في 4 آذار/ مارس 1996م كما قتل قائد الحركة د.فتحي الشقاقي في عملية اغتيال نفذها الموساد الصهيوني في 26تشرين الأول/ أكتوبر 1995م.

وبلا شك فإن الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يعمل الآن في ظروف غير مواتية، ولكنها ظروف تمكنه من التمايز، ومعرفة العدو من الصديق.

ومن جهـة أخـرى فقـد عـدّت قيــادة (منظمة التحرير الفلسطينية) الانتفاضة رافعة سياسية لها، فحاولت اسـتـثـمـارها بشكل مبكر؛ وقامت بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة لتتولى توجيه فعالياتهـا، وشـاركـت الفصائـل الفلسطينيـة ـ وخصوصاً فتح ـ بفعالية في المرحلة الأولى من الانتفاضة، وفي تـشــرين الثاني/ نوفمبر 1998م طـرحـــت (منظمة التحرير الفلسطينية) مبادرتها السلمية واعترفت لأول مرة بقرار الأمم المتحدة رقم 242 وهو ما كـانـت ترفضه طوال 21عاماً، وأسهم سقوط الاتحاد السوفييتي وانحلاله، والهجرة اليهودية الواسعة إلـى فـلـسطـيـن المحتلة منه ومن أوروبا الشرقية (حوالي 700 ألف) وكذلك الاحتلال العراقي الغاشم للكويت، وما رافقه من نتائج سلبية أضعفت البلاد العربية والإسلامية، كل ذلك أعطى فرصة ذهبية للضغط على الفلسطينيين للـذهـــاب إلى مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) 1991م وفق شروط مجحفة، ثم التوصل إلى اتـفـاقـيـة أوسلو في أيلول/ سبتمبر 1993م ضمن شروط أكثر إجحافاً.

ونتج عن ذلك قيام حكم ذاتي فلسطيني محدود على أجزاء من الضفة وقطاع غزة مؤخراً وذلك دون أن تحل قضايا الاستيطان الصهيوني وقضية القدس وعودة اللاجئين ودون أن يعطى الفلسطينيون حق تقرير مصيرهم. وقد أمل الكثير من الفلسطينيين أن يـكــــون اتفاق أوسلو أساساً تبنى عليه مطالب جديدة، ولكنه ـ كما يبدو الآن ـ فإن الآمال تسعى إلـى الـوصــــــول إلى سقف أوسلو، بعدما أبدى الصهاينة من مماطلات وشروط تعجيزية.

والآن فإن مناضلي الأمس الذين قاتلوا لتحرير أرض 1948م قبل سقوط الضفة، والقطاع، يجدون أنفسهم في مواجهة مجاهدي اليوم، وها هم يتهمون مجاهدي اليوم بما اتّهموا هم به عندما بدأوا نضالهم قبل أكثر من 30 عاماً من قِبَل معارضيهم فلمن تكون العاقبـة؟ لا شك في أن (العاقبة للمتقين).


المرحلة الرابعة:مرحلة السياسة والمقاومة:

 تبدأ بالهدنة التي وقعتها الفصائل الإسلامية وغيرها وهنا تدخل حماس مرحلة جديدة في تاريخها النضالي وهي المرحلة السياسية فقد نجحت في الانتخابات البلدية بنسبة كبيرة وها هي الآن تحقق نفس النجاح في الانتخابات النيابية وقد نجحت حماس وحق للمجتهدين مثلها أن ينجحوا، فكانت مثالاً إسلامياً وطنياً يحتذى به، لم يأخذها الغرور بما حققت من كسب على أن تستفرد بالقرار.

 

إن هم حماس الأول يجب أن يكون في تصحيح البيت الفلسطيني، وإعادة صياغته على أسس أكثر عدالة، وأكثر واقعية، وأكثر تجسيداً لآمال ومتطلبات المجتمع الفلسطيني المسلم وأن يكون أقدر على تحقيق حلم الدولة، تلك الدولة التي لا يزال يحلم بها الجميع، لولا أن بعضهم يقف عند الأشكال أكثر من الجوهر، يقف عند تسمية المناصب والعلم والشعار والسجاد الأحمر، قبل أن يؤسس لكيان قابل للحياة برغم كل هذه الأشكال الخادعة!.

وأن تعمل حماس على بناء حكومة تعرف أن لها مهام أكبر من مهام المجالس البلدية وعمد القرى والبوادي وأكبر ما لدى الدولة الفعلية!.

وأن تولي حماس في مرحلتها القادمة جل اهتمامها لخدمة المواطن الفلسطيني، مكرسة جهداً اعترف به الشارع الفلسطيني وكافأها عليه بثقته في مرشحيها للمجالس البلدية بصفتها عنواناً للإسلام.

ولا بد أن يكون قرار حماس توافقياً مع جميع الفصائل الفلسطينية الصادقة ولا شك، ولكن وفق فلسفة تدعم خيار سياسة المقاومة لا سياسة المنتجعات!.

إن ناتج هذا المخاض الصعب والصعب جداً سيكون ولادة طبيعية لدولة حقيقية لا لمسخ مستنسخ بعمليات غير طبيعية يقال عنه بأنه قادر على التطور إلى دولة بعصا المفاوضات الصهيونية الغليظة!

وليعلم الأخوة في حماس أنهم شركاء لا بدلاء، وعلى حماس أن تسن وتعلم الآخرين شراكة وتوافقاً جديدين بفلسفة عمل جديدة، إنها شراكة مع جميع الوطنيين الغيورين بسياسة الدين، تكرس لثقافة الصبر والتقوى استمداداً من قوله سبحانه: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}.


عبد الرقيب العزاني

مندوب مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

اليمن

 

.