فتاوى فلسطينية / الفقه والأحكام

حكم زيارة بيت المقدس/ شيخ الإسلام ابن تيمية

السؤال: ( حُكْم )* زِيَارَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ. ([1])

 

الجواب: قالَ شَيْخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ لَهُ، وأَشهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، وأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وصَحْبهِ وسَلِّم تسليمًا كثيرًا.

 ثَبَتَ في الصَّحيحيْنِ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّهُ قَالَ: ( لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَساجِدَ : مَسجدِ الحَرَامِ ومسجدِ الأَقْصَى ومَسجدي هذا )([2])، وفى الصحيحينِ مِنْ حديثِ أبى سَعيدٍ وأبى هُريرَةَ رَضي اللهُ عَنهُما، وقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرِقٍ أُخرى وهوَ حَديثٌ مُستفيضٌ مُتلَقىً بالقبولِ، أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى صِحَّتِهِ وتَلَقِّيهِ بالقبولِ والتصديقِ، واتفَقَ عُلماءُ المُسلِمينَ عَلى استحبابِ السَّفَرِ إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ للعبادَةِ المَشروعَةِ فيهِ، كالصَّلاةِ والدُّعاءِ والذكرِ وقِراءَةِ القُرآنِ والاعتكافِ.

وقَدْ رُويَ مِنْ حَديثٍ رَواهُ الحاكِمُ في صحيحهِ: ( أنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام سألَ رَبَّهُ ثَلاثًا: مُلْكًا لا يَنبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وسألَهُ حُكمًا يُوافِقُ حُكْمَهُ، وسألَهُ أنَّهُ لا يَؤُمُّ أحَدٌ هذا البيتَ لا يُريدُ إلاَّ الصَّلاةَ فيهِ إلاَّ غُفِرَ لَه )([3]) ولِهذا كانَ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنه يأتي إليهِ فَيُصَلِّي فيهِ ولا يَشْرَبُ فيهِ ماءً لِتُصيبَهُ دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ لِقَولِهِ: ( لا يُريدُ إلاَّ الصَّلاةَ فيهِ )، فإنَّ هذا يَقْتضي إخلاصَ النيَّةِ في السَّفَرِ، إليهِ ولا يأتيهِ لِغَرَضٍ دُنيويٍّ ولا بِدْعَةٍ.

وتنازَعَ العُلماءُ فيمنْ نَذَرَ السَّفرَ إليهِ في الصَّلاةِ أو الاعتكافِ فيهِ، هَلْ يَجِبُ عَليهِ الوفاءُ بِنَذْرِهِ؟ عَلى قَولَيْنِ مَشهورَيْنِ وهُما قَولانِ للشافعيِّ، أحدُهُما: يَجِبُ الوفاءُ بِهذا النَّذْرِ، وهُوَ قولُ الأكثرينَ مثل مالكٍ وأحْمَدَ ابن حنبل وغيرِهِما.

والثَّانِي: لا يَجِبُ وهو قَولُ أبى حَنيفَةَ، فإنَّ مِنْ أصلِهِ أنَّهُ لا يَجِبُ بالنَّذرِ إلاَّ ما كَانَ جِنْسُهُ واجبًا بالشَّرعِ، فلِهذا يُوجِبُ نَذْرَ الصَّلاةِ والصِّيامِ والصَّدقَةِ والحَجِّ والعُمرَةِ، فإنَّ جِنسَها واجِبٌ بالشَّرعِ، ولا يُوجِبُ نَذْرَ الاعْتكافِ، فإنَّ الاعتكافَ لا يَصِحُّ عِنْدَّهُ إلاَّ بِصَومٍ وهُوَ مَذْهَبُ مالِكٍ وأحْمَدَ في إحدى الروايتين عنهُ.

وأمَّا الأكثَرونَ فَيَحْتَجّونَ بِمَا رواهُ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّهُ قالَ: ( مَنْ نَذَرَ أنْ يُطيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ ومَنْ نَذَرَ أنْ يَعصيَ اللهَ فَلا يَعْصِه )([4])، فأمَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام بالوفاءِ بالنَّذْرِ لِكُلِّ مَنْ نَذَرَ أنْ يُطيعَ اللهَ، ولَمْ يَشترِطْ أنْ تَكونَ الطاعَةُ مِنْ جِنْسِ الواجِبِ بالشرعِ، وهذا القولُ أصَحُّ.

وهَكذا النِّزاعُ لَوْ نَذَرَ السَّفرَ إِلَى مَسجِدِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، مَعَ أنَّهُ أفضلُ مِنَ المَسجِدِ الأَقْصَى، وأمَّا لَوْ نَذَرَ إتيانَ المَسجِدِ الحَرَامِ لِحَجٍّ أو عُمرَةٍ، وَجَبَ عَليهِ الوفاءُ بِنَذْرِهِ باتفاقِ العُلماءِ، والمَسجِدُ الحَرَامُ أفضَلُ الْمَساجِدِ، ويليهِ مَسجِدُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، ويليهِ المَسجِدُ الأَقْصَى، وقد ثَبَتَ في الصَّحيحيْنِ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّهُ قالَ: (صلاةٌ في مَسجِدي هذا خَيْرٌ مِنْ ألفِ صَلاةٍ فيما سِواهُ مِنَ المَساجِدِ إلاّ المَسجِدَ الحَرَامَ )([5])، والذي عَليهِ جُمهورُ العُلماءِ أنَّ الصَّلاةَ في المَسجِدِ الحَرَامِ أفضلُ مِنها في مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وقد رَوى أحْمَدُ والنَسائيُّ وغَيرُهُما عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، أنَّ الصَّلاةَ في المَسجدِ الحَرَامِ بِمَائَةِ ألفِ صلاةٍ، وأمَّا في المَسجِدِ الأَقْصَى فَقَدْ رُوِيَ أنَّها بِخَمسينَ صَلاةٍ وقيلَ بِخَمسِمائَةِ صلاةٍ وهُوَ أشْبَهُ.

ولو نَذَرَ السَّفرَ إِلَى قَبرِ الخَليلِ عليه السلام، أو قَبْرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام ، أو إِلَى الطّورِ الذي كَلَّمَ اللهُ عليهِ موسى عليه السلام، أو إِلَى جَبَلِ حِراءٍ الذي كانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَتعَبَدُ فيهِ وجاءَهُ الوحيُ فيهِ، أو الغارِ المذكورِ في القرآنِ ، وغيرِ ذَلِكَ مِنَ المَقابِرِ والمَقاماتِ والمَشاهِدِ المُضافَةِ إِلَى بَعْضِ الأنبياءِ والمَشائخِ، أو إِلَى بَعْضِ المَغاراتِ أو الجِبالِ، لَمْ يَجِبْ الوفاءُ بِهذا النَّذْرِ باتفاقِ الأَئِمَّةِ الأربَعَةِ، فإنَّ السَّفَرَ إِلَى هذهِ المَواضعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِنهيِّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:( لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَساجِدَ )([6]).

فإذا كانَتْ المَساجِدُ التِي هِيَ مِنْ بيوتِ اللهِ التِي أَمَرَ فيها بالصَّلواتِ الْخَمْسِ قَد نُهيَ عَنِ السَفَرِ إليها، حتَّى مَسجِدُ قُباءٍ الذي يُستَحَبُّ لِمَنْ كانَ بالْمَدينةِ أنْ يذهَبَ إليهِ لِما ثَبَتَ في الصّحيحيْنِ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنْهُما عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّهُ كانَ يأتي قُباءً كُلَّ سَبْتٍ راكِبًا وماشِيًا ([7]).

ورَوى الترمذيُّ وغَيْرُهُ أنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قالَ: ( مَنْ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ فأحْسَنَ الطُّهورَ ثُمَّ أتى مَسجدَ قُباءٍ لا يُريدُ إلاَّ الصَّلاةَ فيهِ كَانَ لَهُ كَعُمرَةٍ )([8])، قالَ الترمذيُّ حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ، فإِذا كَانَ مِثْلُ هذا يُنهىَ عَنِ السَفَرِ إليهِ ويُنهى عَنِ السَفَرِ إِلَى الطّورِ المَذكورِ في القُرآنِ، وكما ذَكَرَ مالِكٌ المَواضِعَ التِي لَمْ تُبْنَ للصَّلواتِ الخَمْسِ، بَلْ يُنهى عَنْ اتّخاذِهِا مَساجِدَ، فقد ثَبَتَ في الصّحيحيْنِ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّهُ قالَ في مَرَضِ مَوتِهِ: ( لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى اتَّخذوا قبور أنبيائِهِم مَساجِدَ )([9]) يُحذَِّرُ ما صَنَعوا، قالتْ عائِشَةُ رضي اللهُ عنها: ( ولولا ذَلِكَ لأُبْرِزَ قَبْرُهُ ولِكَنْ كَرِهَ أنْ يُتَخَذَ مَسجِدًا )، وفى صحيحِ مُسْلِمٍ وغيرِهِ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّهُ قالَ: ( إنَّ مَنْ كانَ قبلَكُم كانوا يَتَّخِذونَ القبورَ مَساجِدَ ألا فَلا تَتَّخِذوا القُبورَ مَساجِدَ إنِّي أنْهاكُم عَنْ ذَلِكَ )([10])، ولِهذا لَمْ يَكُنْ الصحابَةُ يُسافِرونَ إِلَى شَئٍ مِنْ مَشاهِدِ الأنبياءِ، لا مَشْهَدَ إبراهيمَ الْخليلَ عليه السلام ولا غيرِهِ.

والنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام ليلَةَ المِعراجِ صَلَّى في بَيْتِ المَقْدِسِ رَكعَتينِ كَما ثَبَتَ ذَلِكَ في الحَديثِ الصحيحِ([11])، ولَمْ يُصَلِّ في غَيرِهِ، وأمَّا مَا يَرويهُ بَعْضُ الناسِ مِنْ حَديثِ المِعراجِ أنَّهُ صَلَّى في المدينَةِ، وصَلَّى عِندَ قَبْرِ موسى عليه السلام، وصَلَّى عِنْدَ قَبرِ الخليل عليه السلام، فَكُلُّ هذهِ الأحاديث مَكذوبة موضوعة.

وقد رَّخَّصَ بَعْضُ المُتأخرينَ في السَّفَرِ إِلَى المَشاهِدِ، ولَمْ يَنْقُلوا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ ولا احْتَجّوا بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ.

والعباداتُ المَشّروعَةُ في المَسجِدِ الأَقْصَى هِيَ مِنْ جِنْسِ العباداتِ المَشّروعَةِ في مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وغيرِهِ مِنْ سائِرِ المَساجِدِ إلاَّ المَسجِدَ الحَرَامَ، فإنَّهُ يُشْرَعُ فيهِ زيادَةٌ عَلى سَائِرِ المَساجِدِ بالطوافِ بالكَعْبَةِ، واستلامِ الرُكْنَيْنِ اليَمانيينِ، وتَقبيلِ الحَجَرِ الأسوَدِ، وأمَّا مَسجِدُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام والمَسجِدُ الأَقْصَى وسائِرُ المَساجِدِ، فَلَيْسَ فيها ما يُطافُ بِهِ، ولا فيها ما يُتَمَسَّحُ بِهِ ولا ما يَقُبَّلُ، فلاَ يَجوزُ لأَحَدٍ أنْ يَطوفَ بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام ولا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقابِرِ الأنبياءِ والصالِحينَ، ولا بِصَخْرَةِ بيتِ المَقدسِ ولا بِغيرِ هَؤلاءِ كالْقُبَّةِ التِي فوقَ جَبَلِ عرفاتٍ وأمثالِها، بَلْ لَيْسَ في الأرضِ مَكانٌ يُطافُ بِهِ كَما يُطافُ بالكَعْبَةِ.

ومَنِ اعْتَقَدَ أنَّ الطوافَ بغيرِها مَشروعٌ فَهُوَ شَرٌّ مِمَّنْ يَعْتِقَدُ جَوازَ الصَّلاةِ إِلَى غَيْرِ الكَعْبَةِ، فإنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا هاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدينَةِ صَلَّى بالمُسلِمينَ ثَمانيةَ عَشْرَ شَهَرًا إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، فكانَتْ قِبْلَةَ المُسلِمينَ هذهِ المُدةَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ حَوَّلَ القبلةَ إِلَى الكَعْبَةِ، وأنزلَ اللهُ في ذَلِكَ القرآنَ كَما ذُكِرَ في سورَةِ البقَرَةِ.

وصَلَّى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام والْمُسلِمونَ إِلَى الكعْبَةِ وصارَتْ هِيَ القبلةُ وهِيَ قِبْلَةُ إبراهيمَ عليه السلام وغيرِهِ مِنَ الأنبياءِ.

فَمَنْ اتّخَذَ الصَّخْرَةَ اليومَ قِبلَةً يُصلِّي إليها فَهُوَ كافِرٌ مُرْتَدٌّ، يُستتابُ فإنَّ تابَ وإلاَّ قُتِلَ، مَعَ أنَّها كَانَتْ قِبلَةً لَكِنْ نُسِخَ ذَلِكَ، فكيَفَ بِمَنْ يَتخذُها مَكانًا يُطافُ بِهِ كَما يُطافُ بالكعبةِ، والطوافُ بِغيرِ الكعبَةِ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ بِحالٍ.

وكَذَلِكَ مَنْ قَصَدَ أنْ يسوقَ إليها غَنَمًا أو بقرًا ليذْبَحَها هُناكَ، ويعتقدَ أنَّ الأُضحيةَ فيها أفضلُ، وأنْ يُحَلِّقَ فيها شعرَهُ في العيدِ، أو أنْ يُسافِرَ إليها لِيعرِفَ([12]) بِهَا عَشيَّةَ عَرَفَةَ، فهذهِ الأمورُ التِي يُشَبَّهُ بِهَا بيتُ المَقدسِ في الوقوفِ والطوافِ والذبحِ والحلْقِ مْنَ البِدَعِ والضَلالاتِ، ومَنْ فَعَلَ شيئًا مِنْ ذَلِكَ مُعتقِدًا أنَّ هذا قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ فإنَّهُ يُستتابُ، فإنْ تابَ وإلاَّ قُتِلَ.

كما لَوْ صَلَّى إِلَى الصَّخْرَةِ مُعتقِدًا أنَّ استقبالَها في الصَّلاةِ قُرْبَةٌ كاستقبالِ الكَعْبَةِ، ولِهذا بَنَى عُمَرُ بنُ الخَطّابِ رضي الله عنه مُصَلَّى المُسلِمينَ في مُقدَّمِ المَسجِدِ الأَقْصَى، فإنَّ المَسجِدَ الأَقْصَى اسمٌ لِجَميعِ المَسجِدِ الذي بناهُ سُلَيْمَانُ عليه السلام وقَدْ صارَ بَعْضُ الناسِ يُسَمِّي الأَقْصَى - المُصَلَّى الذي بَناهُ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رضي الله عن في مُقَدَّمِهِ -، والصَّلاةُ في هذا الْمُصَلَّى الذي بَناهُ عُمَرُ رضي الله عنه لِلمُسلِمينَ أفضلُ مِنَ الصَّلاةِ في سائِرِ المَسجِدِ، فإنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا فَتَحَ بَيتَ المَقدِس وكانَ عَلى الصَّخْرَةِ زُبالَةٌ عَظيمَةٌ، لأَنَّ النَّصارى كانوا يَقْصِدونَ إهانَتَها مُقابَلَةً لليهودِ الذينَ يُصَلُّونَ إليْها، فأمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه بإزالَةِ النَّجاسَةِ عَنها وقَال لِكَعْبِ الأحْبارِ: أينَ تَرى أنْ نَبني مُصلّى الْمُسلِمينَ؟ فقالَ: خَلْفَ الصَّخْرَةِ.! فقالَ: يا ابنَ اليهوديَّةِ خالطَتْكَ يهوديَّةٌ، بَلْ أبْنيه أمامَها فإنَّ لَنا صُدورَ المَساجِدِ.

ولِهذا كَانَ أئِمَةُ الأُمَّةِ إذا دَخلوا المَسجِدَ قَصَدوا الصَّلاةَ في المُصلّى الذي بَناهُ عُمَرُ رضي الله عنه، وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه  أنَّهُ صَلّى في مِحرابِ داودَ.

وأمَّا الصَّخْرَةُ: فَلَمْ يُصَلِّ عِنْدَّها عُمَرُ رضي الله عنه ولا الصحابَةُ ولا كَانَ عَلى عَهْدِ الخُلفاءِ الراشدينَ عليها قُبَّةٌ، بَلْ كَانَتْ مَكشوفَةً في خِلافَةٍ عُمَرَ وعُثمانَ وعَليٍّ ومُعاويَةَ ويزيدَ ومَروانَ رَضِيَ اللهُ عنهمْ، ولَكِنْ لَمَّا تَولَّى ابنُهُ عَبدُ المَلكِ الشامَ ووقعَ بينهُ وبَيْنَ ابنِ الزبيرِ الفتنةُ، كَانَ الناسُ يَحجّونَ فيجتمعونَ بابنِ الزُبَيْرِ، فأرادَ عَبْدُ المَلِكِ أنْ يَصْرِفَ الناسَ عَنِ ابنِ الزُّبَيْرِ فَبَنى القُبَةَ عَلى الصَّخْرَةِ، وكَساها في الشتاءِ والصيفِ ليُرَغِّبَ الناسَ في زِيَارَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ ويَشْتَغِلوا بِذَلِكَ عَن اجتماعِهِمْ بابنِ الزُبَيْر.

وأمَّا أهلُ العِلْمِ مِنَ الصَحابَةِ والتابعينَ لَهُم بإحسانٍ، فَلَمْ يكونوا يُعَظِّمونَ الصَّخْرَةَ فإنَّها قِبْلَةٌ مَنسوخَةٌ، كَما أنَّ يَوْمَ السبتِ كانَ عِيدًا في شَريعَةِ موسى عليه السلام، ثُمَّ نُسِخَ في شَريعَةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام بيومِ الجُمعَةِ، فليس َلِلمُسلِمينَ أنْ يَخُصّوا يومَ السبتِ ويومَ الأحدِ بعبادةٍ كَما تَفْعَلُ اليهودُ والنَّصارى.

وكَذلكَ الصَّخْرَةُ إنَّما يُعَظِّمُها اليهودُ وبَعْضُ النَّصارى، وما يذْكُرُهُ بَعْضُ الجُهّالِ فيها مِنْ أنَّ هُناكَ أثَرَ قَدَمِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وأثَرَ عِمامَتِهِ، وغيرَ ذَلِكَ فَكُلُّهُ كَذِبٌ وأكْذَبُ مِنهُ مَنْ يَظُنُّ أنَّهُ مَوضِعُ قدمِ الرَّبِّ، وكَذِلِكَ المَكانُ الذي يُذكَرُ أنَّهُ مَهْدُ عيسى عليه السلام كَذِبٌ، وإنَّماكانَ مَوْضِعُ مَعموديَّةِ النَّصارى.

وكذا مَنْ زَعَمَ أنَّ هُناكَ الصِّراطَ والميزانَ، أو أنَّ السّورَ الذي يُضرَبُ بِهِ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ هوَ ذَلِكَ الْحائِطُ الْمَبْنىُّ شَرْقِيِّ المَسجِدِ؛ وكَذَلِكَ تعظيمُ السلسلةِ  أو موضِعِها ليسَ مَشروعًا.

وليسَ في بَيْتِ المَقْدِسِ مَكانٌ يُقْصَدُ للعبادَةِ سُوى المَسجِدِ الأَقْصَى، لَكِنْ إذا زارَ قُبورَ المَوتى وسَلَّمَ عليهِمْ وتَرَحَّمَ عليهِمْ كَما كَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يُعَلِّمُ أصحابَهُ فحَسَنٌ، فإنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُعَلِّمُ أصحابَهُ إذا زاروا القبورَ أنْ يقولَ أحدُهُمْ:( السّلامُ عليكُمْ أهلَ الديارِ مِنَ المؤمِنينَ والمُؤمناتِ وإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحقونَ ويَرحَمُ اللهُ المُستقدمينَ مِنَّا ومِنكُمْ واْلمُستأخرينَ، نسألُ اللهَ لَنا ولَكُمُ العافيةَ، اللهُمَّ لا تَحرِمْنا أجرَهُمْ ولا تَفْتِنّا بَعْدَهُمْ واغفرْ لنا ولَهُمْ )([13]).

 

المصدر: موسوعة الفتاوى الفلسطينية ص131-137.



*  هذه الزيادة التي بين القوسين ليست من أصل الكتاب.

([1]) المرجع: مجموع فتاوى شَيْخِ الإِسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ (27/6 ).

([2]) سبق تخريجه ص

([3]) رواه أحمد ( 2/176 )، والنَّسائي في رقم (693)، والحاكم رقم ( 83 ) من حديث عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام:( أَنَّ سُلَيْمَان بنَ  دَاوُدَ عليه السلام لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عز وجل خِلالاً ثَلاثَةً: سَأَلَ اللَّهَ عز وجل حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عز وجل مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عز وجل حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لا يَنْهَزُهُ ِإلا الصَّلاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )، وصحَّحَهُ الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي رقم ( 693 ).

([4]) سبق تخريجه ص

([5]) سبق تخريجه ص  

([6]) سبق تخريجه .

([7]) رواه البخاري رقم (1193) من حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَال:َ كَانَ النَّبِيُّ e يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا يَفْعَلُهُ . ورواه مسلم رقم (1399).

([8]) رواه الترمذي في رقم (324 ) ، من طريق أَبِى الأبْرَدِ مَوْلَى بَنِي خَطْمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَيْدَ بنَ ظُهَيْرٍ الأَنْصَارِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (r) يُحَدِّثُ عنِ النَّبِيِّ (r) قَالَ: ( الصَّلاةُ في مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ )، وجاء الحديث بلفظ آخر في سنن ابن ماجة رقم (1412) ، من طريق مُحَمَّدِ بن  سُلَيْمَان الْكَرْمَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بنَ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ يَقُولَ: قَالَ سَهْلُ بنُ  حُنَيْفٍ: قالَ رَسُولُ اللهِ (r): ( مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ صَلاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ )، وصححهما  الألباني فى السلسة الصحيحة رقم ( 3446 ).

([9]) رواه البخاري رقم (324)، ومسلم رقم (529).

([10]) رواه مسلم رقم (532) من طريق عَبْدِ اللَّهِ بنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ قَال:َ سَمِعْتُ النَّبِيَّ (r) قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: ( إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلا فلا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )

([11]) إشارة إلى الحديث الطويل الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه رقم (162 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( .... أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ قَالَ فَرَبَطْتُهُ بِالحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأنْبِيَاءُ قَالَ ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ ..........) الحديث .

([12]) يَعرف أ يُعَرِّف ، من التعريف ، وهو الوقوف بعرفات ، وهو الأصل ، والمقصود هنا : التعريف بغير عرفة ، في المساجد والأمصار ، حيث يجتمع الناس عشية أو بعد العصر يوم عرفة للدعاء ، تشبهاً بالواقفين بعرفات .

([13]) رواه مسلم رقم ( 974 ) .

.