القدس والأقصى / خطب مقدسية
التأصيل الشرعي لحصار غزة
الشيخ الدكتور : سليمان الداية
أولاً: حق المسلم على المسلم:
الحقوق نوعان:
حقوق واجبة، وحقوق مستحبة.
أما المستحبة: فقد ورد بعضها في حديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» [صحيح مسلم (4/ 1705)].
أما الواجبة: فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الحقوق الواجبة، منها حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَكِنْ سَيَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِي بَعْضِ مَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَيَرْضَى بِهَا، أَلَا وَكُلُّ دَمٍ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ مَا أَضَعُ مِنْهَا دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي لَيْثٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، أَلَا يَا أُمَّتَاهُ هَلْ بَلَّغْتُ؟» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . [صحيح، سنن ابن ماجه (2/ 1015)].
وَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» [مسند أحمد (16/ 60)].
وعنه رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» [صحيح مسلم (4/ 1986)].
وجه الدلالة: وإن كان الحديث خبراً ، لكنّه بمعنى الطلب، والمعنى: لا يحل للمسلم أن يظلم مسلماً؛ ولا أن يخذله، ولا أن يحقره، ومعلوم أن الأفعال نكرات، والنكرة إذا سبقت بنفي أفادت العموم .
فكان المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المسلم كل أنواع وأفراد الظلم كما حرم عليه كل أنواع الخذلان وترك الإعانة، وكل معاني الازدراء والاستصغار؛ لأنّ كل الناس لآدم وآدم من تراب .
وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 13].
وقوله: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» أن انتقاص المسلم لأخيه المسلم في سيرته أو صورته بالغ في القبح، فكيف بسفك دمه وانتهاك عرضه، وأخذ ماله، أو حصاره الذي هو مظنّة كل ذلك، فإنه أعظم قبحاً، وإثماً.
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» [متفق عليه].
قال صاحب المرقاة رحمه الله: قوله "لا يظلمه" نفي بمعنى النهي، والمعنى: لا ينبغي له أن يظلمه، وفي حكم المسلم الذميّ المستأمن" فإن الظلم شر كله، فإنّ الظالم ينحط أولاً: عن رتبة النبوة، قال تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124].
ثانياً:ينحط عن درجة الولاية: قال تعالى: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].
ثالثاً:ينحط عن مزيد السلطنة: "لبيت الظالم خراب ولو بعد حين" .
ورابعاً:ينحط عن نظر الخلائق: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
وخامساً:ينحط عن حفظ نفسه: قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: 57]
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسلمه": أي لا يخذله، ولا يلقيه إلى التهلكة، ولم يحمه من عدوه، فإن كان خذلانه في ظروفه الحرجة حراماً فكيف بمحاصرته أو إعانة من يحاصره، ليمنعه من مقومات الحياة الأساسية.
ثانيًا: إذا كانت صيانة المسلم نفسه وعرضه وماله وعدم ظلمه وخذلانه من الحقوق الواجبة فهل الحصار المضروب على غزة منذ سنوات والمتمثل في منع أهلنا من مقومات الحياة الأساسية كالطعام والدواء واللباس والوقود ونحوها فهل هو من كبائر الذنوب أم من صغارها؟
الحصار جريمة في حق أمة من الناس، أو سائر أهل البلد المحاصر، ومعلوم عند أهل العلم أن الاعتداء بأي لون من ألوان الظلم على الحقوق والمصالح العامة اعتداء على حق الله تعالى؛ لأن حق الجماعة يمثل حق الله تعالى، فإن حق الله تعالى نوعان:
الأول: حقه في العبادة وهو ثابت بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
وعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا» [صحيح البخاري (4/ 29)].
والثاني:هو حق العامة، ودليله من الشرع قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا» ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:" أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ " ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي . [متفق عليه].
فإذا كان الحصار اعتداء على عامة الناس، وقد بيّنا أنّ الاعتداء على العامة هو الاعتداء على حق الله، فلا يصنف الحصار عندئذ إلا كبيرة من الكبائر، وعظيمة من العظائم.
ثالثًا: إذا كان الحصار من الكبائر، فبأي أنواع الكبائر يُلحق، هل يُلحق بالغدر، أو بالخيانة، أو الغصب، أو الانتقام، أو الظلم، وما حكم من يفعل ذلك؟
الحصار يلحق بالظلم، وهو كبيرة كما أسلفنا، والظلم ممنوع منه بنص الكتاب والسنة.
فمن الكتاب:
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].
ومن السنة:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» [صحيح، سنن أبي داود (4/ 325)].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ» [صحيح، سنن أبي داود (4/ 325)].
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا" [صحيح مسلم].
وجه الدلالة:من فوائد الحديث أن الله تعالى حرّم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره، فإن الظلم في نفسه محرّم مطلقاً، وهو نوعان:
أحدهما: ظلم النّفس، وأعظمه الشرك كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، فعبده وتألهه، فهو وَضع الأشياء في غير موضعها، وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون.
كما قال الله عز وجل: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254]، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني: ظلم العبد لغيره، وهو المذكور في حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَكِنْ سَيَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِي بَعْضِ مَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَيَرْضَى بِهَا، أَلَا وَكُلُّ دَمٍ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ مَا أَضَعُ مِنْهَا دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي لَيْثٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، أَلَا يَا أُمَّتَاهُ هَلْ بَلَّغْتُ؟» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . [صحيح، سنن ابن ماجه (2/ 1015)].
وفي رواية: " اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" [مسند أحمد (34/ 299)].
وأي ظلم أعظم من ظلم أمة من الناس بالحصار الذي يمنعون به الطعام والدواء واللباس، والوقود، والتنقل وغيرها من أسباب الآدمي التي لا تستقر حياته إلا بها؟!
وعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].
وجه الدلالة: أن الله تعالى يؤخر أخذ الظالم، ليطول عمره، ويكثر شره وطغيانه، فيزداد عقابه، حتى إذا أخذه الله بالعذاب، فليس له يومئذ من حميم ولا شفيع يطاع، ولا يخفى أن الحديث وعيد للظالم بسبب عدوانه على الناس بغير حق، وكلما تعدى ظلمه إلى عدد أكبر من الناس، كانت حياته أعظم، وعقوبته أشد [انظر: مرقاة المفاتيح (8/3200)؛ إرشاد الساري (7/172)؛ التيسير (1/262)].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ» [صحيح البخاري (3/ 129)].
وفي رواية: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [أخرجه: احمد في مسنده].
وفي رواية: «اتَّقُوا اللَّهَ، وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (2/ 639)].
وجه الدلالة: أنّ الله تعالى أمر الناس كافة باجتناب الظلم؛ لأنّه يُظلم القلب، ويمنع صاحبه الهدى إلى سبيل النجاة يوم القيامة، ويلزم من ذلك أن يكون من أصحاب الجحيم .
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد: 13 - 15].
وفي مقابل ذلك: فإن الذين يجتنبون الظلم، ويجتهدون في تحري العدل، فإنّ لهم هداية ونوراً، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
وقال تعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: 5، 6].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الحديد: 12].
رابعًا:التأصيل الشرعي لتحريم الحصار:
أولاً: الظلم في حق الطائر:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا، وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «مَنْ فَعَلَ هَذَا لَعَنِ اللهُ، مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» [صحيح مسلم (3/ 1550)].
وعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ، عَلَى الحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ، فَرَأَى غِلْمَانًا، أَوْ فِتْيَانًا، نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ البَهَائِمُ» [صحيح البخاري (7/ 94)].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» [صحيح مسلم (3/ 1549)].
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلاَمٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلاَمِ مَعَهُ فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلاَمَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ» [صحيح البخاري (7/ 94)].
وجه الدلالة:من فوائد الأحاديث النّهي عن إيذاء البهائم والطيور بغير وجه مشروع، فإن الصبر معصية مركبة من الترويع والحبس عن الحركة، والمثلة والإساءة في القتلة، وهدر المال؛ لأن موتها بتلك الوسيلة لا يُعدّ تذكية شرعية، و إذا كان حصر الدابة والطير على نحو ما ذكر محذورًا يستحق اللعن، فكيف بحصر المسلم، بل جماعة المسلمين وحرمانهم من الطعام والدواء والحركة وغيرها من لوازم حياتهم التي لا تستقر الحياة على اعتدال إلا بها، فإنها لا شك أعظم في الجُرم وأقبح في الخطيئة.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا، فَانْطَلَقَ إِنْسَانٌ إِلَى غَيْضَةٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَيْضَ حُمَّرَةٍ، فَجَاءَتِ اَلْحُمَّرَةُ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُءُوسِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا أَصَبْتُ لَهَا بَيْضًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْدُدْهُ» [مسند أحمد (6/ 385)].
وجه الدلالة: أنكر النّبي صلى الله عليه وسلم على من فجع هذه الحُمرة ببيضتها أو بفراخها، فدل أنّ الظلم حرام في حق كل ذات كبد رطبة، وأشده ما كان في حق الإنسان، وأقبح من ذلك أن يكون في حق أمة من المسلمين.
ثانياٍ: الظلم في حق الحيوان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ التَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ " [صحيح البخاري (3/ 103)].
وجه الدلالة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه بهذا الحديث لينأوا بأنفسهم عن ظلم أي مخلوق و لو كان من العجماوات وفيه أن رجلاً عدا على بقرة فركب ظهرها, فأنطقها الله تعالى فأنكرت عليه صنيعه أنّه لا يُركب ظهرها، بل يُحرث عليها، وأنه لا يجوز للمرء أن يستعمل الدواب إلا فيما جرت فيه العادة، أو ورد فيه الدليل .
ويستفاد بالمفهوم الموافق أن تسخير الإنسان لأخيه على غير مجاري العادات أو أدلة الشرع حرام بالأولى. [القسطلاني/ارشاد الساري(4/173)].
وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً» [صحيح، سنن أبي داود (3/ 23)].
(المعجمة) التي لا تقدر على النطق, ولا تطيق أن تفصح عن حالها, من جوع أو عطش أو مرض أو تعب, فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعيرًا قد أعيا و لحق بطنه بظهره من شدة الجوع, أنكر ذلك على صاحبه بقوله: (اتقوا الله) أي اجتنبوا غضبه وعذابه بترك ما هو محظور, وفعل ما هو مأمور، ومن التقوى التي تنجيكم من عذاب الله، رعاية هذه البهائم المعجمة, وعدم تعذيبها بجوع أو ظمأ أو تعب ,أو تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق و الأسواق.
قال الطيبي رحمه الله: (فيه ترغيب إلي تعهدها بالعلف لتكون مهيئة لائقة لما تريدون منها، فإن أردتم ن تركبوه ,فاركبوها وهي صالحة للركوب قوية على المشي, و إن أردتم أن تتركوها للأكل, فَتُعِدُّوها لتكون سمينة صالحة للأكل ) .
والحاصل: أن ظلم البهائم حرام, ويستفاد بالأولى ظلم الإنسان لأنه أكرم على الله من الطير و الحيوان, قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70] [المناوي / فيض القدير (1/135)]
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ» قَالَ: فَقَالَ «لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» [متفق عليه].
وجه الدلالة: أفاد الحديث أن دخول المرأة النار كان بسبب ظلمها لهرة حبستها متعمدة حتى ماتت, فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من حشرات الأرض, وزواحفها, ولا عذاب إلا من حرام فدل الحديث بالأولى أن حصول هذا الفعل في حق المسلم, أو في حق الإنسان المعصوم مسلما أو ذميا أو مستأمنا أشد حرمة فضلا عن أن يكون الحبس أو الحصار لجماعة أو لأمة من الناس فإن هذا من عظائم الأمور ولاشك [النووي /شرحه على مسلم(14/340),مرقاة المفاتيح(4/1339, فيض القدير(3/522)].
ثالثاً: الظلم في حق العبد:
عن عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مُسْتَصْرِخٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: جَارِيَةٌ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ «وَيْحَكَ مَا لَكَ؟» قَالَ: شَرًّا، أَبْصَرَ لِسَيِّدِهِ جَارِيَةً لَهُ فَغَارَ فَجَبَّ مَذَاكِيرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيَّ بِالرَّجُلِ» فَطُلِبَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَنْ نُصْرَتِي؟ قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ» أَوْ قَالَ: «كُلِّ مُسْلِمٍ» [حسن، سنن أبي داود (4/ 176)].
وجه الدلالة:أنّ غلاماً مملوكاً نظر إلي أمة سيده، فغار السيّد فضربه وقطع ذكره, فاستنصر الغلام بالنبي صلى الله عليه وسلم في مظلمته، فطلب الجاني, فلم يجدوه، فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم الغلام على سيده .
يستفاد من الحديث تحريم الظلم, ولو على العبد, ويتعين على الإمام ردُّ مظلمته, و الأخذ على يد الظالم ,فإن لم يفعل فحق المظلوم في دفع الظلم عنه فرض كفاية على المسلمين، فإن قام به بعضهم سقط الإثم عن الآخرين, وإن قعدوا عنه و ضيعوه أثموا جميعاً. و اعلم أن دفعه عن الحرِّ آكد, ودفعه عن الجماعة فوقه تأكيداً لعظم الضرر [العظيم آبادي /عون المعبود (13/154)].
وعن أَبي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي، «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ»، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ»، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا" [صحيح مسلم (3/ 1280)].
وفي رواية: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ» .
وجه الدلالة: أفاد الحديث تحريم الاعتداء على الغلام بغير حق؛ لقوله صلى الله عليه و سلم "لو لم تفعل (أي تعتقه) للفحتك النار", ولا عقوبة إلا على ترك واجب, أو فعل محرم، وإذا كان ذلك في حق الغلام المملوك ,فكيف إذا كان في حق الحر ,أو جماعة من المسلمين؟؟؟ [مرقاة المفاتيح (6/2196)].
فهذا عبدٌ وليس حراً، وفردٌ وليس شعباً .. وليس غزة، النبي صلى الله عليه وسلم غضب وطلب الجاني ليقتص منه.
رابعاً: الظلم في حق الذمي:
وكذلك إذا مورس الظلم مع أهل الكتاب في بلد الإسلام رغم أنهم كذبوا على الله فقالوا ثالث ثلاثة وزعموا أن له ابناً، إن الظلم في حقهم حرام سواء للمسلم عليهم أو لبعضهم على بعضهم الآخر فإن هذا حرام يغضب الله تبارك وتعالى.
عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ، وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمِ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا» [صحيح مسلم (4/ 2017)].
الأنباط:لفظ يطلق على فلاحي العجم، وقد ذُكر في الحديث، وقصد منه بالإضافة إلى حقيقة معناه، أهل الوضاعة والضعف.
وقوله «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا»ظاهر في منع الظلم ؛ لأن التعذيب في الحديث مصروف إلي التعذيب بالباطل، فلا يدخل فيه التعذيب بحق ،كالقصاص و الحدود و التعزير ونحوه .
والتعذيب الباطل محظور بغض النظر عن وسيلته فِعلية كانت كالاعتداء على النفس أو العرض أو المال، أو تَرْكيّة كمنعه مما به قِوامه أو صيانة عرضه, وماله.
والحاصل: أن الظلم حرام كله, مع صَرف النظر عن وسيلته, وعمّن تعلق به وضيعا ًكان أو شريفاً, نفساً كان أو عرضاً أو مالاً, و أنّه كُلما عَظُمَ و زاد أو فشا و عَمّ كلما كان أقبح و أشد إثما, وإن من يفعل ذلك يُعذب على قدره يوم القيامة .
أين المسلمون اليوم مما يمارس على غزة إن كان من العدو الكافر أو كان من المسلم الفاسق؟ أليس هذا محظوراً بالكتاب والسنة أن يمارس على الأطيار وعلى الحيوان؟ أليس الظلم حراماً وأن الحصار هو أشد الظلم وأنه حرام على بني الإنسان بعامة حتى لو كان على المملوك فضلاً عن الكتابيّ الذي يقطن ويسكن بلاد الإسلام؟ فكيف بالمسلمين؟ ما أبعدها من مفارقة! والله إنها مفارقةٌ بعيدة.
حوصر النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لكن نخوة العرب.. نخوة الرجال.. نخوة الناس الذين ارتضعوا لبن الشهامة والعزة وإنكار الممارسات الظالمة في معظمهم بادروا بعد ثلاث سنوات إلى نقض الصحيفة وفك الحصار وكانوا كفاراً يومئذ، والمحاصِرون من قريش عادوا النبي صلى الله عليه وسلم لأجل الإسلام.. لأجل الإيمان، أفيليق بكثير من المسلمين أن يمارسوا على أبناء دينهم حصاراً ظالماً طالت سنواته ولم تتحرك مشاعر ولم يتوجع ضمير ولم يتزلزل ركن وما زال هؤلاء يتفننون في التضييق والتشديد.
لا إله إلا الله فإن معظم المحاصرين من أجل ديننا من المسلمين.
ألم يتأملوا قوله تبارك وتعالى:﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾[إبراهيم: 42].
ألم يتعظ هؤلاء بقوله تبارك تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾[الزمر: 47]
لو أن الأرض كلها كانت ملكاً لهم بأصنافها ومتاعها بل ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسيجدون عند لقاء الله تعالى المفاجآت من ألوان العذاب من سوء ما قست قلوبهم وما مارسوا من العذابات والتضييقات والجراحات على المظلومين بغير وجه حق.
وعلى هذا أحببت أن أذكر بهذه الأحاديث حتى يستبين الأمر وحتى يتضح الحكم لكل ذي عينين أن هذا المِراس مِراس ظالم ولا يظنن ظانٌّ أن الظالم هذا بمنأى عن قبضة الله وعن عذاب الله عز وجل في الدنيا قبل يوم القيامة، والحمدلله رب العالمين.
أسرة موقع سبل السلام
تفريغ خطبة الشيخ
19/صفر/1435
.