القدس والأقصى / خطب مقدسية
المســجد الأقصى
إمام من أئمة الدعوة السلفية المعاصرة، وهو غني عن التعريف
المملكة العربية السعودية / عنيزة
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، لقد مضى على احتلال اليهود للمسجد الأقصى، سنوات طويلة وهم يعيثون به فساداً، وبأهله عذاباً، ولقد كان لهم الأثر السيء على هذا المسجد المعظم، لأنه المسجد الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ليعرج من هناك إلى السماوات العلى، بعد أن اجتمع بالأنبياء وصلى بهم صلوات الله وسلامه عليه، وإنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده، كما في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله! أَيُّ مسجد وُضِعَ في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أَيّ؟ قال المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنةً»(متفق عليه)، وإنه لثالث المساجد المعظمة في الإسلام، التي تُشَدّ الرحالُ إليها لطاعة الله عز وجل وطلب المزيد من فضله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»(متفق عليه)، وإنه المسجد الذي يقع في الأرض المقدسة المباركة، مقر أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، ومقر بنيه سوى إسماعيل، إنه مقر إسحاق ويعقوب إلى أن خرج يعقوب وبنوه إلى يوسف في أرض مصر، فبقوا هنالك حتى صاروا أمة إلى جانب الأقباط آل فرعون، وكان آل فرعون يسومونهم سوء العذاب، حتى خرج بهم موسى عليه السلام فراراً من فرعون، وقد ذَكّرَ الله سبحانه بني إسرائيل بهذه النعمة الكبيرة، وذَكَّرَهُم موسى بنعم الله عليهم، وبغيره من الأنبياء: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين}(المائدة/20) يعني في وقتهم، وأمرهم بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدسة، وبشرهم بالنصر حين قال لهم: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم}(المائدة/21)، فبشرهم أن الله كتب لهم الأرض، وإنما كتبها لهم لأنهم في ذلك الوقت أحق الناس بها، حيث إنهم (في ذلك الوقت) أهل الإيمان والصلاة والشريعة القائمة، ولكن بني إسرائيل لِعُتوِّهِمْ وعِنادِهِم، نَكَلوا عن الجهاد وقالوا: {إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها}(المائدة/22) وقالوا: {يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون}(المائدة/25)، تأمل أخي المسلم كيف هذا الكبرياء، وهذه العجرفة، حيث قالوا: {اذهب أنت وبك فقاتلا} يعني وأما نحن فلن نقاتل، {إنا ها هنا قاعدون}، حتى تفتحوها لنا فندخلها من غير تعب ولا نصب، ولِنُكولِهِم عن الجهاد، ومواجهتهم نبيهم بهذا الكلام النافر، حرم الله عليهم الأرض المقدسة فتاهوا في الأرض ما بين مصر والشام أربعين سنة وهم يدورون لا يهتدون سبيلاً، حتى مات أكثرهم أو كلهم إلا من ولد في التيه، فمات موسى وهارون عليهم السلام، وخلفهم «يوشع» فيمن بقي من بني إسرائيل من النشء الجديد، وفتح الله عليهم الأرض المقدسة وبقوا فيها حتى آل الأمر إلى داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، فجدد سليمان بناء بيت المقدس، وكان يعقوب قد بناه قبل ذلك، ولما عتى بنو إسرائيل عن أمر الله، وعصوا رسل الله، سلّط الله عليهم ملكاً من الفرس يقال له «نبوخذ نصر» فدمر بلادهم وبددهم قتلاً وأسراً وتشريداً، وخرّب بيت المقدس للمرة للأولى، ثم اقتضت حكمة الله -عز وجل- بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة وينشؤوا نشأ جديدا، وأمدّهم بأموالٍ وبنين وجعلهم أكثر نفيرا، فنسوا ما جرى عليهم من الذل والتشريد من «نبوخذنصر»، وكفروا بالله ورسله {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون}(المائدة/70)، فسلط عليهم بعض ملوك الروم مرة ثانية فاحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب وخربوا بيت المقدس وتبروا ما علوا تتبيرا، كل هذا بسبب ما وقعوا فيه من الكفر والمعاصي، الكفر بالله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام، {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون}(الأنعام/129).
ثم بقي المسجد الأقصى بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي صلاة الله وسلامه عليه بنحو ثلاث مئة سنة حتى أنقذه الله منهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الخامسة عشر من الهجرة، فصار المسجد الأقصى بيد أهله حقاً وبيد من ورثوه حقاً وهم المسلمون {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}(النور/55).
وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الإفرنج أيام الحروب الصليبية في 23 شعبان 492هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل، وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفا، ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة، وكان عصيباً على المسلمين، أظهر فيه النصارى شعائرهم في هذا المسجد المبارك فنصبوا الصليب، وضربوا الناقوس، وحلت فيه عقيدة إن الله ثالث ثلاثة، إن الله هو المسيح ابن مريم، والمسيح ابن الله، وهذا -والله- من أكبر الفتن وأعظم المحن، وبقي النصارى في احتلالهم للمسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة، حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي «يوسف بن أيوب» -رحمه الله- في 27 من رجب، عام 583 للهجرة، فكان فتحاً مبيناً، ويوماً عظيماً مشهوداً، أعاد الله فيه للمسجد الأقصى كرامته، وكسرت الصلبان، ونودي فيه للأذان، وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان، ثم إن النصارى أعادوا الكرَّة على المسلمين، وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى، وذلك في ربيع الآخر سنة 626 من الهجرة، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان أمر الله مفعولاً، واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه منهم الملك الصالح أيوب بن أخ الكامل سنة 642هـ، وبقي في أيدي المسلمين، وفي ربيع الأول 1387هـ إحتله اليهود أعداء الله بمعونة أوليائهم من النصارى، ولا يزال المسجد الأقصى تحت سيطرتهم إلى يومنا هذا، ولن يتخلوا عنه إلا على أيدي المسلمين حقاً، الذين يقابلون اليهود فيختبئ اليهودي وراء الشجر فيقول الشجر: يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله إلا الغرقد فإنه كان من أشجارهم، إنهم لن يتخلوا عنه كما قال بعض رؤسائهم، «إذا كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن القدس»، نعم إن اليهود لن يتنازلوا عن القدس إلا بالقوة، ولا قوة إلا بنصر من الله عز وجل، ولا نصر من الله إلا بعد أن ننصره، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(محمد/7)، وإن نصر الله لا يكون بالأقوال البراقة، ولا بالخطب الرنانة، التي تحول القضية إلى قضية سياسية، وهزيمة مادية، ومشكلة إقليمية، وإنها والله لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله أيها المسلمون إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا بالإخلاص له، والتمسك بدينة ظاهراً وباطناً، والإستعانة بالله وإعداد القدرة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع، ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وتطهر بيوته من رجس أعدائه، أما أن نحاول طرد أعدائنا من ديارنا، ثم نسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف أفكارهم، والتلطخ بسافل أخلاقهم، أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم بعض رجال مستقبلنا، يتجرعون ويستمرؤون صديد أفكارهم، ثم يرجعون إلى بلادنا يتقيؤون ذلك في بلادنا، أما أن نحاول طرد اليهود من بلادنا ثم نستقبل ما يردنا منهم من أفلام فاتنة، وصحف مضلة، أما أن نحاول طردهم من بلادنا مع ممارسة هذه الأمور، فذلك أمر مستحيل غير ممكن وتفكير غير سليم، لأن النصر مشروط بما شرطه الله عز وجل، استمعوا إلى قول الله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}(الحج/40-41)، هؤلاء هم الذين يستحقون النصر، الذين يوقنون بقلوبهم ويقولون بأفواههم إن مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور، بهذا يمكن للمسلمين أن يحتلوا بلاد الله، وأن يطردوا عنها أعداء الله، لأن {الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}(الأعراف/128)، {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاعاً لقوم عابدين}