دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث
ثمرات الحرب ومعايير النصر والهزيمة.
حرب الفرقان : قراءة تحليلية
(1 من 3)
(ثمرات الحرب ومعايير النصر والهزيمة)
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
أولاً: ثمرات الحرب
لعلّ أبلغ ثمرةٍ تمخّضت عنها (حرب الفرقان) في غزّة، هي إعادة القضية الفلسطينية (القضية المركزية للعرب والمسلمين) إلى واجهة الأحداث، وكشف حقيقة الأكذوبة المتهافتة للسلام، وتعزيز ثقافة الجهاد والمقاومة.. وبذلك تحقّق الكثير من عوامل إحياء قضية المسلمين المحورية (الفلسطينية)، في نفوس أبناء الشعوب العربية والإسلامية، مع اكتسابها أهميةً متصاعدةً بالنسبة للشعوب العالمية، فيما أطلّت المقاومة الإسلامية حركةً للتحرّر، ورصيداً لا يُستهان به على طريق الحرية والتحرير، وخياراً لا يمكن تجاوزه لهذه الأمة، إن أرادت الارتقاء إلى مستوى المكانة التي تستحقّها.
لقد أكّدت (حرب الفرقان)، أنّ الحرب في أساسها، هي حرب إراداتٍ وليست حربَ طائراتٍ ودبّابات، وقد أسهب الكتّاب والمراقبون والمحلّلون، في إحصاء ثمرات هذه الحرب، التي سيكون لها ما بعدها من التداعيات المختلفة، ووقفوا طويلاً عند بعض النتائج المهمة، التي كان أبرزها: التفاف الشعب الفلسطينيّ في غزة حول المقاومة وخيارها الاستراتيجيّ، وانكشاف هشاشة المجتمع الصهيونيّ.. وانهيار نظرية التوسّع الصهيونية.. وتخلخل أساس الأمن والأمان الذي يقوم عليه الكيان الصهيونيّ (قصف المقاومة بصواريخها عسقلان وسيدروت وميناء أسدود وقاعدة حتساريم.. وغيرها).. وانكشاف حقيقة هذا الكيان للعالم كله، وبلا رتوشٍ ولا ديكورات، كياناً إرهابياً وحشياً مجرماً، غارقاً في الدماء، همجياً قاتلاً سفّاحاً، الأمر الذي أدى إلى خسارته خسارةً سياسيةً كبيرة.. وانكشاف عجز الجيش الصهيونيّ وعجز ما يمتلك من التكنولوجيا العسكرية.. وكذلك انكشاف مدى عجز الأنظمة العربية، ومدى قوّة التعاطف الشعبيّ العربيّ والإسلاميّ مع القضية الفلسطينية..
لن نقف كثيراً عند النتائج التي ذكرها أهل الفكر والسياسة عن (حرب الفرقان)، بل سنركّز على حقيقتَيْن كبيرتَيْن، لأنهما تحتاجان إلى نظرةٍ مبصرةٍ عميقة، لاستثمارهما استثماراً لائقاً، على طريق تحرير فلسطين، وتحقيق الحرية لشعبٍ عربيٍ مسلم، بل لكل شعوب أمّتنا المضطهَدَة:
أ- الحقيقة الأولى: لقد ذكرنا في مناسبةٍ سابقة، أنّ المشروع الصهيونيّ، يقوم أساساً على ثلاثة أركان، هي:
1- التشبّث بالأرض المحتلّة، وتثبيت الواقع القائم على الأرض، وانتزاع اعترافٍ دوليٍ وغربيٍ وإسلاميٍ بهذا الواقع الاحتلاليّ الصهيونيّ.
2- تذويب الشعب العربي الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، في بوتقة الحلول الدولية، ودعاوى السلام الخادعة المزيّفة، وتهميشه إلى أبعد الحدود.
3- الهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية، بقوّة اليهود والغربيين والأميركيين، وبتواطؤ حكّام المسلمين وأنظمتهم البعيدة عن رغبات شعوبها وتطلّعاتها.
وعندما نقلّب نتائج (حرب الفرقان)، سنعرف أنّ العدوّ الصهيونيّ لم يستطع التشبّث بما احتل من أرض غزّة، بل أعلن وقف إطلاق النار من طرفٍ واحد، ثم انسحب من المناطق التي تغلغل فيها، ولم يتمكّن من تثبيت أي واقعٍ احتلاليٍ جديد!.. كما سنعرف، أنّ التفاف الشعب الفلسطينيّ والشعوب العربية والإسلامية حول المقاومة وخيارها، فضلاً عن الحرب الشرسة الإجرامية التي سلكها العدوّ الصهيونيّ في تعامله مع شعبٍ أعزل.. قد أسقط خديعة (السلام) مع هذا العدوّ المجرم، إسقاطاً مُبرماً!.. أما الهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية، فهذه لا تحتاج إلى عميق نظر، لنكتشف أنها صارت من أساطير القرن الحادي والعشرين، أمام هذه البحار الهدّارة العارمة، لعشرات الملايين من أبناء الشعوب العربية والإسلامية وبناتها، الأمر الذي فرض على ساحة الصراع رؤيةً جديدة، سيتذكّرها العدوّ الصهيونيّ جيداً، حين تحين ساعة زواله واقتلاعه من قلب عالمنا العربيّ والإسلاميّ.
بذلك –كما نعتقد-، فقد صار من أسهل الأمور، أن نكتشف الثمرة الكبرى الأولى لحرب الفرقان، وهي: إن هذه الحرب عمّقت حالة تراجع المشروع الصهيونيّ.
ب- الحقيقة الثانية: كما ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ أيضاً، أنّ العدوّ الصهيونيّ -منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى ثم الثانية- يعيش أزمة مصيرٍ وضعته أمام خياراتٍ صعبةٍ مُرّة:
1- فهل يَضُمّ الضفة الغربية وغزة، بأرضهما وسكّانهما، إلى أرض كيانه، ما يؤدّي إلى نشوء دولةٍ ثنائية الدين، وبالتالي سيصبح المسلمون في هذه الدولة -بعد سنواتٍ قليلةٍ- أغلبيةً ساحقة، تشكّل خطراً فادحاً على وجود هذا الكيان الصهيونيّ؟!..
2- أم يعترف بدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة، لا يضمن أن تتحوّل خلال سنواتٍ قليلةٍ أيضاً إلى دولةٍ قويةٍ بكل عمقها الاستراتيجيّ العربيّ والإسلاميّ، تطالب بفلسطين كلها من النهر إلى البحر، وتقتلع الكيان الصهيونيّ من جذوره؟!..
3- أم يقتلع سكّان الضفة وغزة ويهجّرهم بشكلٍ جماعيّ، كما فعل في فلسطين (عام 1948م) عندما اقتلع شعبها؟!..
من السهل الاستنتاج، بأنّ (حرب الفرقان) قد أسقطت الخيارَيْن الأول والثالث بشكلٍ كامل، فيما أصبح الخيار الثاني (الاعتراف بدولةٍ فلسطينية) –على مرارته بالنسبة للكيان- بمثابة حبل نجاةٍ أخير، أقل سوءاً من اقتلاعه اقتلاعاً لا رجعة فيه!.. وبذلك سنكتشف الثمرة الكبرى الثانية لحرب الفرقان، وهي: إنّ هذه الحرب عمّقت أزمة المصير لدى الكيان الصهيونيّ.
استناداً إلى هذه الحقيقة، فإنّ أزمة المصير التي عمّقتها (حرب الفرقان)، قد شكّلت مأزقاً غير مسبوقٍ للكيان الصهيونيّ، هذا المأزق العميق يحمل في ثناياه فرصةً حقيقيةً لاقتلاع ذلك الكيان من جذوره.
ثانياً: معايير النصر والهزيمة
عند الحديث عن معايير النصر والهزيمة، لابدّ أن نسترجع الأهداف المعلَنة لكلٍ من الطرفين المتحاربَيْن، ثم القياس عليها، والطرف الذي يحقق أهدافه، ويُفشِل أهدافَ عدوِّه، يعتَبَر منتصراً.. وكل مَن راقب (حرب الفرقان) وتفاعلاتها التي ما تزال جاريةً على الأرض، سيجد أنّ أهداف العدوّ الصهيونيّ المعلَنة لحربه العدوانية، قد تلاشت بشكلٍ متدرّجٍ مرتبطٍ مع نتائج العمليات العسكرية:
أ- أهداف العدوّ، ومآلاتها:
1- سَحْق المقاومة، وإنهاء الوضع في غزة، تمهيداً لإعادة السلطة الفلسطينية، وقبل ذلك، إزالة خِيار الجهاد والمقاومة، من باطن الذهنية العربية والإسلامية.
2- ثم: مَنْع المقاومة من إطلاق الصواريخ على البلدات الصهيونية نهائياً، لإعادة حالة الأمن والأمان للمجتمع الصهيونيّ.
3- ثم: الحَدّ من قدرة المقاومة على إطلاق الصواريخ، لتحقيق نسبةٍ كبيرةٍ من الأمن والأمان للمجتمع الصهيونيّ.
4- ثم: وَقْف إطلاق النار من جانبٍ واحد، وتلاشي تحقيق أي هدفٍ من أهداف العدوان المعلَنة قبيل الحرب وخلالها.
ب- أهداف المقاومة، ومآلاتها:
1- وَقْف إطلاق النار، وقد تحقّق من جانبٍ واحدٍ أعلن عنه الجيش الصهيونيّ.
2- الانسحاب، وقد تحقّق من جانبٍ واحدٍ كذلك، كما أعلن عنه الجيش الصهيونيّ.
3- فكّ الحصار، وهو قيد نتيجة المعركة السياسية الحالية.
4- فتح المعابر، وهو قيد نتيجة المعركة السياسية الحالية أيضاً.
بذلك، سنستنتج، بأنّ العدوّ الصهيونيّ لم يحقّق أياً من أهدافه، فيما حقّقت المقاومة –حتى الآن- الجزء الأكبر من أهدافها التكتيكية. وإذا أضفنا إلى ذلك ثمرات الحرب التي ذكرناها في بداية تحليلنا هذا، فضلاً عن الحقيقتَيْن الكبيرَتَيْن المذكورَتَيْن آنفاً.. فإننا سنكتشف، بأنّ هزيمة العدوّ الصهيونيّ كانت منكَرَة، وأنّ انتصار المقاومة كان استراتيجياً ومنعطفاً تاريخياً في تاريخ الصراع، ينبغي استثماره أيما استثمار، على طريق تحرير فلسطين بإذن الله الناصر الذي لا ناصر سواه.
19 من شباط 2009م يتبع إن شاء الله
* * *
حرب الفرقان : قراءة تحليلية
(2 من 3)
(الموقف الرسميّ: الدوليّ، والإسلاميّ، والعربيّ)
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
أولاً: الموقف الدوليّ
في الموقف الرسميّ الدوليّ الذي برز خلال (حرب الفرقان)، يمكننا أن نميّز ما يلي:
أ- المواقف الدولية الصديقة للعرب والشعب الفلسطينيّ، في طليعتها: فنـزويلا وبوليفيا، إذ تحدّت الدولتان الكيانَ الصهيونيَّ وداعِمَيْه الرئيسيَّيْن (أوروبة وأميركة)، وقامت هاتان الدولتان الصديقتان بإغلاق السفارتَيْن الصهيونيّتَيْن في بلديهما.
ب- الموقف الغربيّ الأوروبيّ والأميركيّ، الذي أضاف صفحةً جديدةً عميقة الأثر، من صفحات الخديعة التي يمارسها الغرب منذ عشرات السنين، فبدا الوجه الغربيّ سافراً متآمراً متعاطفاً مع الكيان الصهيونيّ وظلمه وجرائمه المخزية، بل داعماً وحامياً حقيقياً له، فكُشِفَ الوجه الحقيقيّ للنظام الغربيّ المتحيّز للظالم على المظلوم، وللجلاد على الضحية، وكُشِفَت مزاعمه المزيّفة حول الأخلاق والقيم وحقوق الإنسان والحرية والعدالة. وقد تجلّى ذلك كله، بهذا الاستنفار السياسيّ واللوجستيّ لدول حلف شمال الأطلسيّ، ثم بصدور قرار مجلس الأمن رقم (1860)، الذي يساوي بين الظالم والمظلوم، ثم باتفاقية تشديد الحصار على غزة بما سُمِّيَ باتفاقية (منع تهريب الأسلحة)، التي وقّعتها وزيرتا الخارجية الأميركية والصهيونية: (رايس عن أميركة وحلف شمال الأطلسي، وليفني عن الكيان الصهيونيّ).
إزاء هذه العدوانية الغربية السافرة للعرب والمسلمين، يمكننا استنتاج النتائج الثلاث التالية:
1- الأولى: إنّ هذا الموقف الغربيّ، أسهم في ردّ الحرب إلى حقيقتها: صليبيةً صهيونيةً ضد العرب والمسلمين، وهذا الأمر، أعاد ربط الحدث بجوهر الصراع بين قادة الغرب وحكوماته.. والإسلام والمسلمين، وعكس مدى الخطر الذي تمثّله المقاومة الإسلامية على الكيان الصهيونيّ ومصيره، كما أعادنا إلى المربّع الأول للحرب التي يشنّها الغرب الصليبيّ على المسلمين والعالَم الإسلاميّ، الذي اتخذ في السنوات الأخيرة قناعاً جديداً مهترئاً، هو قناع: (نشر الديمقراطية والحرب على الإرهاب)!.. ليذكِّرنا أنّ هذا الغرب الصليبيّ العدوانيّ، هو الذي قام بتصنيع كيانٍ لليهود في فلسطين العربية المسلمة، جاعلاً منه خنجراً مسموماً مغروزاً في قلب العالَم العربيّ والإسلاميّ!.. ليحقق مجموعة أهدافٍ متكاملةٍ تخدم مصالحه الخبيثة:
أ- فهو يزرع بذلك جسماً غريباً في العالَم الإسلاميّ، الذي ينشغل به وبكونه مصدر قلقٍ مستمرٍ واضطرابٍ دائم، يمنع المسلمين من الهدوء والاستقرار والأمن!..
ب- ويشكّل مصدر فرقةٍ وتشتّت، فيحول دون إعادة توحيد أجزاء العالَم الإسلاميّ ودوله المصطنعة بمؤامرة (سايكس-بيكو).. في دولةٍ واحدةٍ قويةٍ مترابطة!..
ج- ويشكّل هذا الكيان اليهوديّ المصطنع قاعدةً متقدّمةً للغرب، تحمي مصالحه، وتخدم أهدافه، وتشكّل رأس حربةٍ لمؤامراته المستمرّة على المسلمين!..
د- وفي نفس الوقت، يتخلّص الغرب من اليهود وشرورهم وخطرهم على المجتمعات الغربية، وجرائمهم التي عانت منها الدول الغربية قاطبةً!..
2- الثانية: لقد أسهم هذا الموقف الغربيّ في تعميق فضيحته، بتنكّره حتى للقرارات الأممية التي وضعها قادته بأيديهم، من مثل:
أ- القرار رقم (3034) الصادر بتاريخ 18/12/1972م، الذي يؤكّد على حق الشعوب قاطبةً بتقرير مصيرها، ويؤيّد شرعية (الكفاح) الذي تخوضه حركات التحرّر الوطنيّ: (إنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة تؤكّد على الحق الراسخ لكل الشعوب، التي ما تزال تحت نير الأنظمة الاستعمارية أو العنصرية أو السيطرة الأجنبية، في تقرير المصير والاستقلال، وتؤيّد شرعية الكفاح الذي تخوضه حركات التحرر الوطنيّ).
ب- القرار رقم (3314) الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 14/2/1974م.. الذي ينصّ بوضوح، على مشروعية مقاومة الاحتلال، فالأمم المتحدة فرّقت بشكلٍ لا لبس فيه، بين الإرهاب الشرّير الإجراميّ الذي تقوم به عصابات القتل والإجرام الغربية المنتشرة في المجتمعات الغربية والأميركية.. وبين مقاومة الاحتلال من أجل الوصول إلى الحرية وتحرير الأوطان المحتَلَّة: (إنّ النضال الوطنيّ مشروع للشعوب المحتلَّة، بما فيه الكفاح المسلّح، من أجل حريّتها واستقلالها وحقها في تقرير مصيرها).
3- الثالثة: ما تقدّم ذكره، يعكس المعنى الدقيق لاستغاثة (حاييم هيرتزوغ) رئيس الكيان الصهيونيّ في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بقوله عندما كان قبل ذلك رئيساً للاستخبارات الصهيونية (الموساد): (إنّ ظهور الصحوة الإسلامية بهذه الصورة المفاجئة المذهلة، أظهرت بوضوحٍ أنّ كل وكالات الاستخبارات الغربية والأميركية، كانت تغطّ في سباتٍ عميق)!.. ويضيف (هيرتزوغ): (إنّ عودة الحركات الإسلامية لممارسة نشاطها في المنطقة العربية، تثبت أنّ الأساليب المتّبعة لكبت نشاطها كانت فاشلة)!.. ثم يختم أقواله بالتحريض المكشوف للغرب كله، على حركات المقاومة الإسلامية: (إنّ الحركات الإسلامية هي عدوّ كل ما هو غربيّ)!.. (جريدة جيرازوليم بوست الصهيونية-25/9/1987م).
ثانياً: الموقف الإسلاميّ
في الموقف الرسميّ الإسلاميّ، يمكننا أن نميّز الموقف الرسميّ الأكثر تميّزاً، هو الموقف التركيّ المتناغم مع الموقف الشعبيّ، إذ كان هذا الموقف الإيجابيّ من قضيةٍ مركزيةٍ هي القضية الفلسطينية، تحوّلاً تاريخياً صادماً، أعاد تركية إلى حضنها الإسلاميّ، وإلى اهتمامها الجديّ بقضايا المسلمين.. وقد عوّض هذا الموقف المزلزِل الصادق، عن التخاذل الرسميّ العربيّ من جهة، وعن خديعة موقف ما يُسمى بمحور (الممانعة) ومهازله وزيف مزاعمه في الممانعة والمقاومة.. من جهةٍ ثانية.
في قراءة الموقف الرسميّ التركيّ، يمكننا أن نسجّل الملاحظات المهمة التالية:
1- لقد أقض الموقف الرسميّ التركيّ مضاجع الغرب الصليبيّ والكيان الصهيونيّ على حدٍ سواء، وأكسب المعركة والصراع بُعداً عميقاً خطيراً يتخوّف منه العدوّ ويقلق، مؤكِّداً على إسلامية القضية الفلسطينية، بعد أن بذل هذا الغرب الاستعماريّ جهوده الضخمة، طوال عشرات السنين، لمسخ القضية الفلسطينية، وسلخها عن محضنها الطبيعيّ الإسلاميّ، فحوّلها أولاً إلى قضيةٍ قوميةٍ عربية، ثم إلى قضيةٍ فلسطينيةٍ لا يُعنى بها إلا الفلسطينيون، ثم إلى قضيةٍ سلطويةٍ لا تعني إلا (السلطة الفلسطينية) وملحقاتها. ولعلّ هذا الموقف التركيّ هو إحدى الثمرات الكبرى لحرب الفرقان، التي سيكون لها الأثر العميق في رسم معالم المستقبل، لمنطقتنا العربية والإسلامية وشعوبها.
2- إنّ أهمية الموقف التركيّ لا تقاس في هذه المرحلة إلا قياساً على الموقف الذي كانت تتخذه الحكومات التركية المتعاقبة خلال عشرات السنين، وهو موقف كان بعيداً عن مصلحة القضية الفلسطينية، وبعيداً عن الرؤية الإسلامية للصراع مع الكيان الصهيونيّ.. موقف منسجم مع مؤامرة الغرب الصليبيّ الاستعماريّ، منذ إسقاطه الخلافة الإسلامية نهائياً، المتمثّلة في العثمانيين، وانتقامه من المسلمين الذين قوّضوا الممالك الصليبية في منطقتنا، على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبيّ.
3- لذلك فالموقف الرسميّ التركيّ، يُعتبَر منعطفاً تاريخياً، ما بين مرحلتَيْن: مرحلة العلاقات الوطيدة مع الكيان الصهيونيّ، التي أسّست لها الحكومات التركية العلمانية المتعاقبة، ومرحلة مستقبلية نتوقّع أن تتحجّم فيها هذه العلاقات إلى أضيق نطاقٍ ممكن، وذلك إن لم تُقطَع نهائياً مع هذا الكيان.. ولعل ما نقوله يفسّر نظرتنا الإيجابية إلى الموقف التركيّ حالياً، مع أنّ الحكومة التركية لم تقطع علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع العدوّ الصهيونيّ في هذه المرحلة.
4- كما أنّ الموقف التركيّ يسجّل نقطةً سياسيةً هامة، هي أنّ الأتراك لم يعودوا يعوِّلون كثيراً على الاتحاد الأوروبيّ والانضمام إليه، بقدر ما يهتمّون برؤيةٍ جديدة، هي أنهم جزء لا يتجزّأ من العالَم الإسلاميّ، وأنهم يشعرون بالدفء عندما تكون سياستهم منسجمة، مع انتمائهم الإسلاميّ، ومع ضرورة عودة الحميمية إلى علاقاتهم مع العرب، أهل الإسلام ومادته وأصله.
5- كما يعكس الموقف التركيّ، بما فيه تجييش الرأي العام الداخليّ وتعبئته، الذي تجلّى بالتظاهرات المليونية في شوارع إستانبول، وما أدراك ما إستانبول.. يعكس أنّ الأتراك يَعون تماماً حقائق التغلغل الصفويّ الإيرانيّ في المنطقة العربية والإسلامية، وهم أول مَن يستوعب خطورة هذا التغلغل المشبوه، على تركية من جهة، وعلى العرب والمسلمين من جهةٍ ثانية، لأنهم هم الذين سحقوا المؤامرات الصفوية قديماً، في مراحل تاريخيةٍ حرجةٍ على المسلمين (السلطان سليم الأول، والسلطان سليمان القانوني، ..)، وهم أول من يعرف حقيقة التحالفات المشبوهة للصفويين مع الغرب الصليبيّ واليهود، وهي الحقائق التي يبني عليها الصفويون الجدد في إيران سياساتهم الحالية.. فالأتراك يعودون اليوم وعَيْنهم على إيران الشعوبية، التي تحاول تمزيق العالَمَيْن العربيّ والإسلاميّ، وتزرع فيهما الفرقة والطائفية والبغضاء والشحناء، لتحقيق مصالح ذاتيةٍ إيرانيةٍ فارسية، تحت ضغط أحلامٍ إمبراطوريةٍ كسرويةٍ قومية.
بهذا، وجدت الحكومة التركية، التي تنطلق من أيديولوجيةٍ إسلامية، أنّ (حرب الفرقان) قد وفّرت لها أفضل توقيتٍ وأحسن مناسَبَة، لإظهار عملية هذا الانعطاف الإيجابيّ نحو المنطقة والعالَمَيْن العربيّ والإسلاميّ، ومن المتوقّع أن يتطوّر هذا الموقف التركيّ إلى مزيدٍ من الإيجابية مع العرب والمسلمين، ومزيدٍ من الاشتباك مع المنافسين الغرباء على منطقتنا، سواء أكان هؤلاء المنافسون يحملون الراية السوداء الشعوبية، أو الرايات الملوّنة الغربية والأميركية الاستعمارية.
ثالثاً: الموقف العربيّ
في الموقف الرسميّ العربيّ، تراشقت الأنظمة العربية الاتهامات، بخلاف ما ظهر جلياً من التفاف الشعوب العربية كلها حول قضيّتهم المركزية، وحول خيار المقاومة.. فاستنتج المراقبون السياسيون من خلال ما يجري، أنّ العرب منقسمون إلى فئتَيْن، أطلقوا على إحداهما اسم: دول (الاعتدال)، فيما أطلقوا على الفئة الثانية اسم: دول (الممانعة)!.. وقد أعاد هذا الفرز إلى ذاكرة الأمة، مرحلة الشعارات الصوتية لستينيات القرن المنصرم، عندما استولت بعض الأحزاب (الثورية) العربية على السلطة في بلدانها، ورأت أنها لن تعيش أو تستمرّ، إلا بسبر الخواء السائد آنذاك، فأطلقت شعارات: الوحدة، والحرية، والاشتراكية، وفرزت الأمة إلى: دولٍ (رجعيةٍ) ودولٍ (تقدّمية)، ثم اختلطت الأوراق لضرورات المكر والارتقاء إلى مستوى الوعي الشعبيّ المتطوِّر، فأصبح الفرز حول: دول (الصمود والتصدّي) ودول (السلام والاستسلام)!.. وبقيت تلك الأنظمة (الثورية) تستمدّ أكسير حياتها من هذه الخديعة الكبرى عشرات السنين، فضاعت فلسطين، وضاعت الجولان وسيناء والضفة الغربية وقطاع غزة وجنوبيّ لبنان، وضيّعت بقايا هذه الأنظمة (الثورية) كلَّ الأمة وشعوبها، بين دهاليز مزاعم الصمود والتصدّي والتوازن الاستراتيجيّ، وكلما (ضيّعوا) أرضاً من أراضي أوطاننا.. ارتقوا درجةً، ورفعوا شعاراً جديداً برّاقاً ليخدعوا به الشعوب، إلى أن تمّت تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان، وتمّ احتواؤها في سورية، لإعادة تصنيع (مقاوماتٍ) طائفية، خدعت السواد الأعظم من الشعوب العربية والإسلامية وحركاتها الإسلامية، فكانت أولى مهماتها تصفية بقايا المقاومة الفلسطينية في لبنان داخل المخيّمات الفلسطينية، بارتكاب مختلف أنواع المجازر والتهجير، بصورةٍ أشد وأنكى مما ارتكبه العدوّ الصهيونيّ نفسه!.. ولم يكن ذلك كله، إلا تمهيداً لإبراز قوىً إقليميةٍ طائفية، تنفيذاً لخططٍ غربيةٍ صليبية، وخططٍ يهوديةٍ صهيونية، لتضليل الجماهير، وتشتيت ذهنها وطاقاتها بعيداً عن ساحة الصراع المركزية، وهدف ذلك كله يتمحور حول أمرٍ واحد: حماية العدوّ الصهيونيّّ وكيانه المسخ، ومَدّه بأسباب البقاء والحياة.
لقد تمكّن الغرب الصليبيّ بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، من شَقّ الصف العربيّ والإسلاميّ، فشقّ بذلك طريقاً واسعاً أمام قوىً إقليمية، ما تزال تعيش أحلام الثأر لكسرى وأبي لؤلؤة المجوسيّ، وتحشد الجماهير والشعوب حول خرافات (المظلومية) و(تصدير الثورة الشيعية) ومزاعم (محبّة آل البيت)، تلك الأحلام الممتدّة منذ حقب ابن سبأٍ والطبرسي والكليني والمجلسي والعاملي وأشباههم، إلى حقبة الخميني وخامنئي وشيرازي وأتباعهم.. فدخلت إيران على الخط، تحت اسم (الجمهورية الإسلامية)، مندفعةً بكل أوهامها وخرافاتها، لتزيد عالمنا العربيّ والإسلاميّ تمزّقاً وشقاقاً، مستخدمةً كل الشعارات المتناقضة والأساليب غير الأخلاقية، فخانت الإسلامَ الذي تزعم اتباع منهجه، والأمةَ التي تدّعي نصرتها والانتماء إليها، وتآمرت مع الغرب الصليبيّ لاحتلال أوطان المسلمين (العراق وأفغانستان)، وهدّدت دول الجوار العربية، وتغلغلت طائفياً في بلاد الشام، وزرعت الفتن هنا وهناك، واستمرّت باحتلال بعض الأراضي العربية، ولم تُخفِ نيّتها لاحتلال دولٍ عربيةٍ أخرى (البحرين والإمارات)، واستخدمت مخلبها اللبنانيّ الطائفيّ لزرع الفتن وتقسيم البلاد، وصنعت مخالب أخرى في بعض الدول العربية والإسلامية!.. ولم تجد قناعاً خادعاً تستخدمه لتمرير مخطّطها الخطير وكسب تأييد الشعوب العربية والإسلامية، إلا قناع (المقاومة) و(تحرير القدس وفلسطين) و(إزالة إسرائيل) من الوجود!.. فتكامل دورها المشبوه مع الدور الغربيّ الأميركيّ الصهيونيّ، لتفتيت بلاد العرب والمسلمين، وإثارة الشقاق الداخليّ والخارجيّ، فيها وبينها، وقد كانت وسيلتها مؤخّراً، هي صناعة ما يُسمى بـ (محور الممانعة)، ضد ما يُسمى بـ (محور الاعتدال)!..
لقد كان لدول كلٍ من هذين المحورَيْن طريقتها في التعامل مع (حرب الفرقان):
1- فقد قدّمت دول (الاعتدال) هديةً مجانيةً لإيران وتابعها النظام السوريّ، عندما تخلّت أولاً عن (المقاومة)، وقذفت بحماس –نتيجة مواقفها (أي دول الاعتدال) السلبية- إلى الحضن الإيرانيّ، لتقدّم بذلك لإيران ما لم تكن تحلم به طوال حياة دولة الملالي الشيعية المتربّصة، ومَن مثل (المقاومة) الإسلامية، يمكن أن يكون أفضل ورقةٍ بيد الفرس ذوي الأحلام الفارسية والخطط الشعوبية، لإحكام السيطرة على منطقتنا كلها؟!.. بعد أن أهدت أميركة العراقَ إليهم (أي إلى الفرس الشعوبيين)؟..
2- عندما اكتشفت دول الاعتدال أن الأمور لا تسير في صالحها، حاولت الاستدراك، فقرّرت أن تدعم مالياً أهلنا المنكوبين في غزّة، وقد جاءت هذه الخطوة متأخّرةً جداً، كانت خلالها إيران الشعوبية وعملاؤها قد عبّأوا الرأي العام العربيّ والإسلاميّ ضد هذه الدول، لاسيما مصر والسعودية!.. ومَن يعرف أهمية مصر والسعودية بالنسبة لمخطّط (تصدير الثورة الشيعية الإيرانية)، فإنه سيدرك بدقةٍ كيف أنّ إيران لا تنتظر لحظةً واحدة، لتستغلّ مثل هذه المواقف، وتجيّرها لخدمة مخطّطها الشعوبيّ الفارسيّ الخطير، كما سيدرك إلى أي حدٍ وصل التخبّط في سياسات هذه الدول، التي تتربّص بها إيران، مدعومةً ضمناً بالسياسات الأميركية في المنطقة، التي مهّدت كل السبل أمام المخطّطات الصفوية الإيرانية الطائفية!..
3- كما خضعت الأنظمة العربية –متأخّرةً- لمقتضيات المدّ الجماهيريّ والشعبيّ العارم، المؤيّد للمقاومة الإسلامية الفلسطينية (تصريحات إيجابية، عقد مؤتمرات قمةٍ عربيةٍ لتأييد غزّة، تقديم الأموال، السماح بالتبرّعات وتقديم المساعدات العينية، السماح بالتظاهرات والمهرجانات والفعاليات الشعبية المؤيدة للمقاومة، ..).
4- بينما قامت بعض هذه الدول (من مثل موريتانية)، بخطوةٍ خجولةٍ متأخرة، هي الطلب إلى السفراء الصهاينة في عواصمها، مغادرتها، وهي خطوة لم تَرْقَ إلى درجة الخطوة التي سبقتهم بها (فنزويلا) و(بوليفيا)!..
5- فيما كانت دول ما يُسمى بـ (محور الممانعة)، تشغل الدنيا بالشعارات الصوتية، والباطنية الإعلامية، والمزاعم المتهافتة، وهي الأمور التي سنناقشها بالتفصيل في الحلقة الثالثة القادمة بإذن الله.
21 شباط 2009م يتبع إن شاء الله
* * *
.