القدس والأقصى / خطب مقدسية
غزة تحتضر
غزة تحتضر
الشيخ: أحمد بن حسين الفقيهي
ملخص الخطبة
1- السجن الكبير. 2- ضرب الحصار على غزة. 3- تدهور الأوضاع الصحية والاقتصادية والتعليمية في قطاع غزة. 4- غياب المجتمع الدولي. 5- واجب المسلمين تجاه الحدث.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، أتحدّث إليكم اليوم لئلا يظنّ ظانّ أننا نسينا مع همومنا ورفع أسعارنا حقَّ الأخوة بيننا، وأننا تجاهلنا أننا أمة واحدة وجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. أتحدّث إليكم لئلا يظنّ أعداء الدين أننا بسبب انشغالنا بحضارتهم وافتتاننا بتقنيتهم اقتقدنا وهجرنا أخلاقنا التي تأبى الظلم وتأنف من الذل والهوان وتقول للموت إن قدم في سبيل العز والحق: أهلاً و مرحبًا، فما هي إلا نفس واحدة وليس ثمة إلا موتة واحدة، فإما أن نموت شرفاء، أو أن نموت أذلاء.
أيها المسلمون، سجنٌ كبير يحاصَر فيه مليون ونصف مليون مسلم بسبب أنهم اختاروا الاسلام نظامًا، وقالوا للكفر وأعوانه: تبًا وسحقًا وانهزاما. أعرفتم ذلكم السجن الكبير الذي يواجه أهله هذه الأيام الإبادة الجماعية؟ إنه ـ أيها الكرام ـ قطاع غزة.
عباد الله، أستأذنكم في هذه الدقائق بعرض موجَز للحال الذي وصل إليه قطاع غزة جرّاءَ ظلم العدو وصمت الصديق؛ لعل قلبًا يدّكر، ولعل نفسًا تنزجر.
منذ قيام الصهاينة بفرض الحصار الشامل على قطاع غزة والوضع الصحي هناك في تدهور وانحدار، فها هم المرضى الذين يعانون من أمراض خطيرة ويعجز الطب في قطاع غزة عن علاجهم، ينتظرون الموت في كل لحظة، وقد وصل عددهم إلى ألف وخمسمائة حالة مرضية تستلزم العلاج العاجل، وقد فارق الحياة من المرضى حتى الآن أكثر من أربعة وستين مريضا، جعلهم الله في عداد الشهداء. ولقد أعلنت وزارة الصحة هناك عن نفاد أكثر من 80 صنفًا من الأدوية، وهناك أكثر من 100 صنف على وشك النفاد من المستشفيات والمستودعات.
وهاكم نموذجًا لأثر الحصار على المرضى: في الخامسة عشر ربيعًا أضحت جثة هامدة لا تقوى على شيء، ما زالت في ريعان شبابها لكنها ليست كغيرها من الفتيات اللاتي يمرحن ويلعبن، منذ ثلاث سنوات وهي تعاني من مرض السكري وتحتاج لفحوصات لا توجد إلا في الخارج، لكن الحصار لم يرحمها وزاد من معاناتها، وقتل حلم علاجها بالخارج، وأرقدها بالمستشفى في انتظار الموت بلا رحمة، ومثل هذه الطفلة يعيش آلاف المرضى في قطاع غزة، فهل يا ترى ستوقظ آهات المرضى وعذاباتهم الضمير العالمي من سباته العميق؟! وهل ستحيي دمعات المرضى واستغاثاتهم آذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا؟!
أيها المسلمون، كل المصانع في قطاع غزة والمصانع الغذائية على وجه الخصوص متوقفة عن العمل، وهناك أكثر من ثلاثة آلاف مصنع ومؤسّسة اقتصادية مغلقة بالكامل، وبتوقف تلك المصانع والمؤسسات فقد قرابة خمسة وستين ألف عامل وظائفهم، ومن بقي منهم على رأس العمل لا تنتظم رواتبه بسبب حالة الإفلاس التي يتعرضون لها.
ومن المصانع ـ عباد الله ـ إلى قطاع الزراعة الذي أضحى 80 في المائة من محصوله معرّضًا للتلف بسبب الحصار وإغلاق المعابر وقلة السيولة النقدية لدى عامة الشعب. إن المُزارع في قطاع غزة يصبح ويمسي وهو ينظر إلى محصوله الذي زرعه وسقاه وعمل عليه منذ أن تطلع الشمس إلى أن تغيب نظرة ألم وحزن؛ لأنه لا يستطيع أن يبيع منه أكثر من 20 في المائة فقط، والباقي يفسد أمامه وبين يديه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، لا شك أنكم تألمتم من الزيادة الباهظة في أسعاركم مع أنكم بحمد الله تنعمون بالأمن والأمان، ويتقاضى الكثير منكم ما يسدّ به حاجته، لكن يا ترى ما حال إخوانكم هناك مع غلاء الأسعار؟! وهل تمكّنوا من الفرح بالعيد وشراء الأضحية وإدخال السرور على أولادهم في ظل الحصار وتوقف الرواتب وعدم صرفها لهم؟!
أُم تيسير إحدى نساء فلسطين تعيش منذ 7 سنوات في قطاع غزة على المعونات الإنسانية، وبعد الحصار وإغلاق المعابر لم تجد لا كوبونات ولا طرودًا غذائية من الجمعيات الخيرية، تقول: اضطررت إلى بيع أقراط بناتي حتى أتمكن من توفير الطعام للأسرة؛ لأننا منذ أكثر من شهرين لم نأكل لا لحمًا ولا دجاجًا.
عباد الله، لقد بلغ معدّل البطالة في قطاع غزة 80 في المائة، وأكثر من 90 في المائة من الأسر هناك تعيش تحت خط الفقر، 42 في المائة منهم يعيشون في فقر مدقع، وأصبح قطاع غزة مدينة اأشباح خاوية من كل شيء يبعث على الحياة والأمل.
أيها المسلمون، إن نقص الأدوية وقلة المخزون الغذائي وارتفاع الأسعار يتزامن مع حصار من نوع آخر، ألا وهو حصار العلم والمعرفة الذي لا يقل خطرًا وضررًا على المدى البعيد عن أثر الحصار الاقتصادي والمعيشي، فلقد منعت سلطات الاحتلال أكثر من 3 آلاف طالب وطالبة من السفر للالتحاق بالمدارس والجامعات خارج قطاع غزة حتى لا يعودوا خبراء ومختصين وقادرين على إدارة شؤون بلادهم.
عباد الله، بعدما اعتصرت آلام الحصار وإغلاق المعابر في قطاع غزة حياة الأحياء من المدنيين وسلبت المرضى أرواحهم في ظل منعهم من تلقي العلاج في الخارج، لاحق الألم الموتى في قبورهم بسبب منع سلطات الاحتلال دخول المواد اللازمة لبناء القبور، ويواجه سكان قطاع غزة معاناة شديدة لتوفير مواد البناء اللازمة لتشييد القبور لموتاهم بعدما نفدت هذه المواد من الأسواق. ولقد أشارت وزارة الأوقاف هناك أنها قامت ببناء 1000 قبر هذا العام، ولم يتبق إلا القليل من هذه القبور الشاغرة، ولا تكفي لنهاية الشهر الحالي، محذرة من كارثة إنسانية تحلّ بالموتى في حال استمرار إغلاق المعابر ومنع دخول مواد البناء.
أيها المسلمون، إن الحصار الحالي لقطاع غزة لم تشهده الأراضي الفلسطينية من قبل، ولقد طال هذا الحصار كلّ شيء حتى الحجر والشجر، بل حتى الأسماك حيل بينها وبين مسلم في غزة لتكون له قوتًا أو تحول بينه وبين الموتى جوعًا.
ووالله وبالله وتالله، لو حدث ربع أو عشر ما يحدث في غزة في أي مكان أو دولة في العالم يقطنها غير مسلمين لاعتبرت هذه الدولة وذلك المكان منطقة ودولة منكوبة تغاث من كل العالم وتمدّ بكافة الاحتياجات الإنسانية، ولا أدري والله كيف يحكم على مليون ونصف مليون مواطن في غزة بالإعدام ولا يحرك العالم ساكنا! أين العدل؟! وأين الانصاف؟! أين هيئات حقوق الإنسان؟! أين مجلس أمنهم؟! وأين هيئة أممهم؟! بل أين أنتم أيها المسلمون؟!
يا أهل الجزيرة، ويا أحفاد الصحابة، إني أناشدكم باسم الإيمان وأدعوكم باسم الإسلام وأستصرخكم بأخلاقكم الأصيلة التي تأبى الظلم والضيم أن تقدّموا ما تجود به أنفسكم لإخوانكم في غزة المحاصرة. تذكروا ـ أيها الكرام ـ وأنتم تنعمون وتمروحون بين أهليكم وأموالكم، تذكروا بكاء اليتامى وصراخ الثكالى وأنين الأرامل والأيامي، تذكروا أننا جسد واحد وإن فرَّقَتنا الحدود وحالت بيننا وبينهم السدود.
يا مسلمون، سينقشع الحصار طال أو قصر عن غزة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل سيخلدنا التاريخ وتذكرنا الأجيال القادمة مع الشرفاء أم مع غيرهم؟! هل ستبقي أسماؤنا وآثارنا خالدة كما خلّد التاريخ أسماء الخمسة الذي نقضوا صحيفة الحصار عن نبيكم
يا مسلمون،
من أين يهنؤنـا عيـش وعافيـة وفي فلسطيـن آلام تعـاينهـا
و الله لو كان فينا مثـل معتصـم لعبأ الجيـش يرعاه ويَحميهـا
ولو رآنـا صلاح الديـن في خور لَجرد السيف يفري من يعاديها
بشراك يا أيهـا الأقصـى بموعدة قد قـالها المصطفى والله مجريها
لـن تستمر يهـود في غوايتهـا وسوف يَجتث قاصيها ودانيها
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ولا عدوان إلا على الظالمين.
عباد الله، إن بلوى نكبة فلسطين وتكرار ذكرها ينبغي أن يكون دافعًا لنا لا محبطًا، محرِّكًا للجهود لا جالبًا لليأس من النصر، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
أيها المسلمون، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقدّم شيئًا، نستطيع أن نتحدّث بهذه القضية في كل مجلس وبكل لسان، وأن نعرّف بها لنجلو الغشاوة ونحرك القلوب وندفع الآخرين للعمل. مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقتطع من أموالنا وقوتنا اليسير للتبرع لإخواننا وسدّ حاجتهم وفقرهم. ومع ضعفنا ـ عباد الله ـ نستطيع أن ندعو لإخواننا بالنصر والتمكين، وندعو على عدوهم بالهزيمة والعذاب والخسران.