فلسطين التاريخ / تهويد وتزوير وإجرام
الاستيطان الصهيوني في فلسطين
بدأت عمـلـية الاستيطان اليهودي منذ أواخر القرن التاسع عشر للميلاد من خلال خطوات مدروسة، ولـم تـخــلُ التسويغات الاستيطانية الصهيونية من العنصر الديني؛ فقد استوطن اليهود المدن الفلسطـيـنـية القديمة "صفد، طبريا، الخليل، القدس" وخلال هذه الفترة نشأ العديد من المستوطنات فـي الـقـــرى الزراعية المحاذية للقرى الفلسطينية دون أن تثير أي مشاكل لدى الفلسطينيين، وإثر وضوح النوايا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي- ببروز دعم الانتداب والدول الأوروبــيــة لـمـشـــروع الاستيطان، وظـهـور عمل العصابات الصهيونية على استملاك الأراضي بالشراء من بعض الإقطاعيين المستملكين أراضـي مـــــن فـلـسـطـيـن ـ وضحت أبعاد المسألة، ومع ذلك لم تتجاوز النسبة 6.5% من مجموع مساحة فلسطين، مما جعل الفلسطينيين يأخذون حذرهم من الخطر الصهيوني.
مراحل الاستيطان
مرت العمليات الاستيطانية بأربع مراحل:
الـمرحلة الأولى: كانت في العهد العثماني؛ حيث قامت الحركة الصهيونية بزرع عدد من المستوطنات فكانت كالجزر المعزولة وسط المناطق العربية، وأصبحت فيما بعد نقاط ارتكاز، فبعد أن كان عدد اليهود عام 1882م 24 ألف يهودي قفز في عام 1917م إلى أكثر من 85 ألـف يـهــــودي، وبلغ عدد المستوطنات عام 1884م خمس مستوطنات في كل منها 100 مستوطن، أقـيـمـت ثلاث منها في جوار يافا، وواحدة في الحولة وأخرى في حيفا، وارتفع عدد المستوطنات عـــام 1900م إلى 22 مستوطنة ضمت 5410 من المستوطنين، ومعظم هذه المستوطنات في السهــل الساحلي حيث بلغ عددها فيه 12 مستوطنة، وفي الجليل 7، وفي القدس اثنتين، وواحدةً في الغور.
وبلغ عدد المستوطنات فـي عــــــام 1914م 47 مستوطـنة: منها: 26 مستوطنة في السهل الساحلي، و12 في الجليل، ومستوطـنـتـان في القدس، وواحدة في كل من الغور ومرج بني عامر، وبلغ عدد المستوطنين 11990 مستوطن، وحتى نـهـايـــــة عام 1918م كان بحوزة اليهود من أراضي فلسطين 418 دونم.
الـمرحلة الثانية: ترافقت مع الانتداب البريطاني على فلسطين واقتطع الانتداب أخصب الأراضي فـي مـــــــرج ابن عامر ووادي الحوارث وغيرها من المناطق، ووصل عدد اليهود إلى469.600 يهودي في آخر فترة الانتداب.
وقد عملت سلطات الانـتــداب على تكـثـيف الهجرة لتحقيق التوازن العددي بين السكان الأصليين والمستوطنين، وحــرصـــت على زيــادة المساحات التي في حوزة اليهود وخاصة الأراضي الزراعية، وقلب الوضع الاقتصادي بالاسـتـيلاء على المرافق الحيوية والصناعات الناشئة في ذلك الوقت، وتغيير الوضع بالنسبة للأماكن المقدسة.
بلغ عدد المستوطنات المقامة من 1918 - 1948م نحو 363 مستوطنة، وأزيلت خمس قرى في قضاء صفد وحولت إلى مستعمرات ومثلها في طبريـــــا، وأربع في قضاء بيسان، وعشر في قضاء الناصرة، وست في قضاء عكا، وعشرون في قضاء حيفا، وخمس في قضاء يافا، وبلغت مجموع القرى التي محيت إحدى وستين قرية.
المرحلة الثالثة: مع قيام الدولة اليهودية بدأت مرحـلـة أخــرى من الاستيطان من الجليل شمـالاً حتى النقب جنوباً وجرت خلال هذه المرحلة عمليات تـرحـيــل "تـرانسفير" وطرد منظـم للسكان العرب من فلسطين. وأوضح ما يبين هذه الصورة رسالة موشي شــاريـت إلـى ناحـوم جولدمان عام 1948م التي يقول فيها: إن إخراج العرب هو حدث رائع في تاريخ "إسرائيل" كما يعتبر الحدث - وفق مفهوم معين - أروع من إقامة دولة "إسرائيل" نفسها، إضافــة إلى ما كتبه الكونت برنادوت الذي اغتيل على يد عصابات الهاجاناه: "إن عرب فلسطين لم يغادروا ديارهم ويهجروا ممتلكاتهم طوعاً أو اختياراً؛ بل نتيجة لأعمال العنف والإرهاب"، وأعلن بن غوريون بأن على "إسرائيل" عمل كل شيء لضمان ألا يعود أحد من الفلسطينيين المطرودين إلى بيوتهم.
المرحـلــة الرابعة: وجاءت إثر عدوان حزيران سنة 1967م واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، وهنا اختلف الاستيطان عن ذي قبل، وأخذ طابعاً جيوسياسياً مغلَّفاً بالدوافع القومية الدينية.
وضعت السلطات الإسرائيلية العديد من القوانين التي تمنع عودة أصحاب الأراضي إليها، ويُعرف عن هذه القوانين أنها تشكل إحدى الدعامات التي مهدت للاستيلاء على الأرض، ومنها قانـون "حــارس أمــلاك الغائبين" وحاولت "إسرائيل" من خلال هذا القانون إقناع الرأي العام العالمي أن الهدف هو الحفاظ على أملاك الغائبين، وصدر الأمر العسكري رقم 58 لسنة 1967م، الذي ينظم عمل قانون "حارس أملاك الغائبين" والمناط به حق التصرف في أملاك الغائبين، وأن يتخذ الإجراءات الضرورية لذلك، ولحارس أملاك الغائبين الحق بالموافقة أو عدم الموافقة عـلى بـيـع وشــراء وتـأجـيـر أي صفقة ينطبق عليها قانون أملاك الغائبين، ثم عملت هذه السلطات على مصادرة الأراضـي لأغــراض عـسـكـريـة: للرماية، والتدريبات، واعتبرتها مناطق أمن للجيش، وكان الصندوق القومي اليهودي ومــؤسـســة هيمنوتا التابعة للصندوق يقومان قبل عام 1979م بالشراء، ثم أصدرت السلطات العسكرية أمـــراً عسكرياً بمنع المحاكم من النظر في مسألة بيع الأراضي وتحويل تسجيلها إلى لجنة خاصــــة، وبعد عام 1979م سمحت السلطات الإسرائيلية بالشراء للأفراد، وكانت أغلب الصفقات عبارة عن بيوع مزيفة، كما أعلنت العديد من الأراضي أراضي حكومية لا يجوز التصرف بها إلا من قِبَل الدولة.
تصنيف المستوطنات:
تصنف المستوطنات من حيث المساحة إلى أربع فئات:
الفئة الأولى: مساحتها أكثر من 1500 دونم، وتمثل ما نسبته 7.58%.
الفئة الثانية: مساحتها بين 1000 - 1499 دونم.
الفئة الثالثة: مساحتها بين 500 - 999 دونم وتشكل ما نسبته 7.6%.
الفئة الرابعة: وهي المستوطنات المحاذية للخط الأخضر، ومساحتها الإجمالية 15130 دونم، ويبلغ عددها 17 مستوطنة.
تتشكل أغلب البؤر الاستيطانية في ألوية القدس، ورام الله، والخليل، ونابلس؛ فالاستيطان فيها قائم على أسباب إستراتيجية وديمغرافية ضمن سياسة عزل وتفتيت المناطق الـعـربـيـة بعضها عن بعض بواسطة الكتل الاستيطانية.
وتـنـتـشـر المستوطنات المخصصة للسكان في الضفة الغربية بنسبة 76.7% وقطاع غزة بنسبة 73.45% إضافة إلى بعض المستوطنات الزراعية في أريحا، وبيت لحم، ونابلس.
أما القدس فـتـضــــم الـعــدد الأكبر من المستوطنات وعددها 84 مستوطنة، وتضم الأراضي الاستيطانية 45615 دونم، ثـم يـتـبـعـهـــا محـافــظـــــة نابلس وتبلغ المساحة العمرانية للمستـوطنـات 20638 دونم، ثم محافظة الخليل،وتشكل مستوطنات لواء القدس 5.76%، ثم رام الله 1.9%، ونابلس 1.6، وبـيت لحــم 1.5%.
التسوية والاستيطان:
تشير إحصاءات المكتب المركزي للإحصاءات الفلسطينية أن المستوطنات التي بناها الليكود تـقــارب 70.1% في حين ساهم حزب العمل في بناء 29.95% من المستوطنات، ومعظم هذه المستوطنات تم بناؤها بين أعوام 1976 ـ 1982م، و1989- 1991م، ثم توقف تقريباً بناء المـسـتـوطـنات لتبدأ عمليات توسيع وتسمين المستوطنات المقامة واستمر حتى ما بعد توقيع اتفاق أوسلو.
ويعتبر الاستيطان مشكلة مـن المشاكل الكبرى في طريق التسوية النهائية الجارية حالياً بين الفـلـسـطـيـنـيـيـن والإســـرائيليين، ومن خلال المفاوضات الجارية ستعمل "إسرائيل" على المحافظة على المستوطنات باعـتـبـارهــا عموداً فقرياً لها ومصاحباً "للدولة" في كل مراحل تطورها، إضافة إلى الإجماع الرسمي والحزبي على أن المستوطنات تشكل مورداً استراتيجياً ثابتاً يجب المحافظة عليه وتوسعته.
بـدأت أولـى مـراحل البحث عن حلول لمشكلة الاستيطان بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع في عــام 1967م، عبر مـشـــروع (إيـغـــال آلون) والذي اقترح ضم غور الأردن إلى "إسرائيل" بشكل رسمي وتكثيف الاستيطان فـيـه، ثم قدَّم البروفيسور الإسرائيلي (إبراهام فاكمان) مشروعاً في عام 1969م عرف باسم (الخـطــة الفقرية المزدوجة)، كما طرح (معهد ديفيس) التابع للجامعة العبرية اقتراحاً بتحديد الحدود من خلال ضم المناطق الغربية من الخط الأخضر الفاصل بين المناطق المحتلة 1948م وبـيـن الـمناطق المحتلة 1967م، وهي المناطق التي تضم أكبر عدد من المستوطنات، وتوالت الاقتراحـــــات التي تدور حول هذا الطرح من خلال صياغة خارطة تأخذ بالحسبان تحديد الحدود لحزام المستوطنات المقامة وضمان المياه والديمغرافيا والأمن.
كما صمم فريق من جامعة حيفا برئاسة أرنون سوفير رئيس قسم الجغرافيا خارطة مقترحة وقُدمت لحزبي العمل والليكود تنص على تعديل الخط الأخضر، ووضعت مناطق تستوعب الكـتـل الاستيطانية التي كانت في ذلك الوقت تضم 50 ألف مستوطن، وما يزيد عن 145 ألف مـسـتـوطـن في منطقة القدس الشرقية، وتسمح هذه الخارطة لـ "إسرائيل" بالسعي من خلال ثلاثة ممـرات واسـعـة للوصول إلى الخط الفاصل مع الأردن، وتمنحها معظم مصادر المياه في الجبال الوسطى مــن الضفة الغربية، ثم عُدِّلت الخارطة لتربط المسجد الإبراهيمي بالمسجد الأقصى الشريف، عـلـى أن تـكـــون مـســؤولـيــة ســلامـة اليهود في الخليل بيد الفلسطينيين، وفي القدس تكون مسؤولية سلامة العرب بيد اليهود.
قدم شارون اقتراحاً نص على: إبقاء سلسلة من الجيوب بيد الفلسطينيين في الضفة والقطاع وضــم المناطق الأخرى باعتبارها مراكز ونقاطاً استيطانية لاحقة لـ "إسرائيل"، كما صدرت عـــن (جمعية سبل الاتفاق الوطني) مقترحات، ومنها: أن تبقى في يد "إسرائيل" السيطرة الكامـلـــــة على كل من القدس الكبرى وغوش عتصيون وغور الأردن وشمال البحر الميت، وضم الكتل الاستيطانية غير المأهولة بالسكان العرب.
وتُجْمِعُ قوى الـيـمـيـن والـيـســار حالياً في "إسرائيل" على وثيقة عرفت باسم (وثيقة العمل والليكود)، التي تنص على أن لا عــــــودة لحدود الرابع من حزيران 1967م، وأن معظم المستوطنات ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية مع الحفاظ على تواصل بين المستوطنات عبر ربطها بالكتل الاستيطانية، كما نصت الـوثيقـة على: أن المستوطنات التي سيتم ضمها لـ "إسرائيل" ستحظى بترتيبات خاصة ومتفق عـلـيـهـا في إطار يحافظ من خلاله المستوطنون على الجنسية الإسرائيلية ويحافظون على حقهم في الـمـرور الآمــــن إلى المـناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
يشـكـل الاستيطـان عامل انقسام داخل القوى السياسية الإسرائيلية، فترى أحزاب الوسط واليسار إمكانية وجود مستوطنات داخل الدولة الفلسطينية مقابل عدم تفكيكها، وثمة رأي آخر داخل هذا التيار يقف مع تفكيك بعـض الـمـسـتـوطـنـات الصغيرة، وفي المقابل تعزيز المستوطنات في غــــور الأردن والـمـنـطـقـة الشرقية من الخط الأخضر وحول القدس.
والتيار الآخر الذي يتزعمه الجناح اليميني وأحزاب الوســــط يـطـالب بتعزيز المستوطنات حتى داخل التجمعات الفلسطينية مع البحث عن دور وظيفي للفلسـطـيـنـيـيـن فـي إدارة شؤونهم المدنية دون السيطرة على الأرض والموارد الطبيعية، ولذلك أقيمت الطرق الالتفافية حـــول الـمـسـتـوطـنــات وربـطت بعضها ببعض، ثم خصصت الميزانيات الضخمة لتسمين المستوطنات حتى وإن كانت غير مأهولة.
إن الحل السياسي المطروح حالـيــــاً لا يضمن إزالة المستوطنات التي أقيمت على الرغم من معارضة القانون الدولي لذلك، بل يـضـمــن بـقـــاء المستوطنات ضمن المدن والقرى في مناطق الإدارة الفلسطينية وفق ترتيبات تعد الآن، كـمــــا أن المستوطنين لن يخرجوا من الأراضي الفلسطينية؛ فقد عملت "إسرائيل" على زيادة زخـم الاسـتـيـطــان وإقـامــــة الحقائق على الأرض؛ لأن جمـيـع الاتـفـاقــيــات بدءاً من أوسلو وحتى واي ريفر 2 أخفقت فـي مـنـع "إسرائيل" من استغلال المرحلة الـنـهـائـيـــــة، مما يعني أن الحل السياسي الدائر حالياً سيصب في المصلحة الإسرائيلية.
إن الحديث عن موضوع الاستيطان متشعب وفيه الكثير من الآراء؛ ولكن علينا أن لا ننسى أن الـمـسـتـوطـنـيـن هــم الذين أسسوا الحركات السرية لملاحقة الفلسطينيين وحملهم على الخروج من أراضيهم، ومــن أشهر الأمثلة على ذلك ما نشر في عهد حكومة إسحاق شامير 1990م، وكان تحت عـنـوان: "دليل المستوطنين"، وفيه توصيات وتوجيهات لكيفية أداء العمليات الانتقامية ضد الـسـكـان الـعــــرب، ويدعو الدليل إلى استخدام الذخيرة الحية، والعمل على سرقة الأسلحة واستخدامها، ويـقـــــول الدليل: "طوبى لك إذا قررت القيام بعملية مدبرة، وتهانينا لك إذا قمت بتنفيذ العـمـلــيـة" ويشرح الدليل كيفية التصرف إذا اعتقل المستوطن، وسوَّغ التقرير أفعال المستوطنين بأنـهــــا رد على كل حجر يلقيه عربي، فعلى المستوطنين القيام بعمليات انتقامية سرية أو بعمليات جـمـاعـيـــة، وإلحاق الخسائر الفادحة بالممتلكات العربية.
وختاماً لا بد من التأكيد على أن المستوطنات التي أقيمت فوق الأرض الفلسطينية استولت عـلـى الـمـيـــــاه والموارد الطبيعية والأرض، وقطعت القرى الفلسطينية عن المدن، وفصلت الاتصال العمراني بين المناطق الفلسطينية، كما أثرت على الاقتصاد الفلسطيني بأن جعلت العمال الفلسطـيـنـيـيـن يعملون في البناء والزراعة داخل المستوطنات مما جعل مصدر الرزق الوحيد العمل داخلها، وساهمت المستوطنات في إبقاء الفلسطينيين بلا بُنية تحتية وتحت رحمة "إسرائيل".
توليف /عبد الرقيب العزاني
.