فلسطين التاريخ / تقارير

المحكمة الجنائية الدولية وتشريع الجرائم الصهيونية

محمد الناجي ـــــ مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية ـــ غزة ــــ فلسطين

 9-4-2012

طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة ببيان صدر عن مكتب ما يسمى  بالمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية " لويس مورينو أوكامبو"  مفاده أن المحكمة غير مختصة بالنظر في الجرائم التي اقترفها الاحتلال الصهيوني  على الأراضي الفلسطينية ؛ متذرعا  بأن فلسطين ليست عضوا في جمعية الدول الأطراف التابعة للمحكمة , أو عضوا  في الأمم المتحدة .

يأتي هذا الإعلان بمثابة رد على طلب تقدمت به السلطة الفلسطينية ممثلة بوزير العدل في حكومة رام الله " علي خشان " والذي طلبت فيه من المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم ارتكبها الاحتلال الصهيوني إبان الحرب الأخيرة على غزة , وتعلن من خلاله التزام السلطة بالالتزامات الواقعة عليها والمترتبة على هذا الطلب ,  وكذلك تعترف بولاية المحكمة القضائية على ما يجري في الأراضي الفلسطينية .

وقبل الخوض في المسألة نذكر  بأن المحكمة الجنائية الدولية  تمارس اختصاصها بحسب زعمها المعلن في نظام روما الأساسي  على الجرائم الأربعة التالية : جرائم الحرب و جرائم الإبادة الجماعية و جرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان ( 1 ) .

كما أن طرق إحالة الدعوى  للمحكمة الجنائية الدولية لا تتم إلا عبر قنوات ثلاث :

إما عن طريق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية .

أو عبر أحد الدول الأطراف .

أو عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ( 2 ) .

وبالنظر إلى هذه الجرائم الأربعة المعلنة من قبل ما يعرف بمحكمة الجنايات الدولية والوقوف على ممارسات الاحتلال الإجرامية ضد الفلسطينيين  نناقش الأمور التالية : 

أولا : أن الكيان الصهيوني الغاصب قد ارتكب جرائم حرب , ولعل من أمثلتها استخدام المدنيين الفلسطينيين دروعا بشرية في مخالفة واضحة للقانون الدولي الإنساني وهذا من شأنه أن يشكل جريمة حرب كما أشار لذلك تقرير غولدستون في تحقيقاته بحرب غزة , وكذلك استعمال الأسلحة المحرمة دوليا كالقنابل المسمارية الموجهة ضد المدنيين والقنابل الفسفورية , وكذلك استخدامه لليورانيوم المنضب وغير المنضب .

 وكذلك ارتكب الاحتلال الصهيوني جرائم إبادة جماعية  من خلال استهداف عائلات فلسطينية والقضاء عليها بأكملها فعلى سبيل المثال مجزرة آل السموني في حي الزيتون بغزة وهدم البيوت على رؤس ساكنيها من أطفال ونساء في أحداث تعجز المجلدات عن توثيقها

 كذلك ارتكب العدو الصهيوني الغاشم جرائم ضد الإنسانية حيث نوه تقرير غولدستون إلى أن إسرائيل خالفت الفصل الثالث عشر من القانون الدولي الإنساني فقد قامت بتدمير البنية الأساسية الصناعية , ووحدات لإنتاج الأغذية ومنشآت للمياه ووحدات لمعالجة الصرف الصحي ومساكن. وضرب مطحن البدر من الجو في يناير سنة 2009 - وهو مطحن الدقيق الوحيد العامل بغزة وجاء في التقرير أن إسرائيل عملت على سلب الفلسطينيين حق العمل والسكن ومنعت عنهم المياه وحرية الحركة والتنقل من وإلى القطاع ولم تتح لهم إسماع صوتهم أمام المحاكم، وهو ما يمكن اعتباره جريمة ضد الإنسانية وفقًا للتقرير المذكور .

 ولا تفوتنا الإشارة إلى أن العدو الصهيوني ما زال يرتكب الجرائم تلو الجرائم  , ولعل آخر تلك الجرائم وأحدثها ممارسة سياسة الإبعاد بحق الأسيرات والأسرى  الفلسطينيين وإبعادهم قسرا إلى خارج أرض الوطن , وسياسة الإبعاد هي جريمة من جرائم الحرب كما نصت على ذلك  اتفاقيات حقوق الإنسان .

ثانيا : إن الاحتلال الصهيوني قد انتهك كل المواثيق والأعراف الدولية , وضرب بعرض الحائط جميع الاتفاقيات الدولية من اتفاقيات جنيف الأربعة , وكذلك البروتوكولين اللاحقين لها , وكذلك مبادئ القانون الدولي الإنساني , والقانون الدولي لحقوق الإنسان

ثالثا : إن هيئة الأمم المتحدة , والمفوضية العليا لحقوق الإنسان وغيرها قد أثبتت وبشكل قاطع ارتكاب الاحتلال الصهيوني الجرائم والمجازر بحق شعبنا الفلسطيني , ولعل من أبرز تلك الانتهاكات اعتداء الاحتلال الصهيوني أثناء الحرب على بعض المواقع والمباني الدولية من بينها مقار تابعة  للأمم المتحدة , وكذلك الاعتداء على أطقم الإسعاف والطوارئ , والدفاع المدني وفرق الإنقاذ , وكذلك انتهاك حرية الصحافة وقتل الصحفيين , والذي يثبت صحة القول بهذا  بقاء عدد كبير من القتلى الفلسطينيين في ساحات المعركة وتحت الركام والأنقاض لمدة أسبوعين أو يزيد ولم تصل إليهم طواقم الإسعاف إلا بعد اندحار المحتل الصهيوني .

رابعا : بعد الحرب على غزة كانت بعثة تقصي الحقائق التي رئسها القاضي غولدستون تمارس عملها وتُحقق في الأحداث , ولقد لاحظ الجميع مدى بشاعة التعامل الصهيوني مع أعضاء هذه اللجنة , ومنعهم أكثر من مرة من مباشرة التحقيقات وعمل اللازم , ووضع كل العراقيل أمام تلك اللجنة , ولقد أخذت تلك اللجنة حيزا كبيرا من التغطية والتحليل والتحقيق , وبعد التوصل إلى النتائج وإعداد التقرير بدأ الجدل , وقامت الدنيا ولم تقعد لإدانة الكيان الصهيوني , وما هي إلا أسابيع قليلة ويُغَيَّب تقرير غولدستون , وإذا كان من سؤال فهو إلى أين آلت أمور تقرير غولدستون , وكيف هي أحواله وأحوال قضاة التحقيق , ومن السبب في عرقلة وصول هذا التقرير للجهات المعنية وإدانة الكيان الصهيوني من خلاله ؟!!!.

خامسا : إن الحديث عن المحكمة الجنائية الدولية يدفعنا للتساؤل وهو هل الذي يسود في عصرنا قوة القانون أم قانون القوة ؟!! لأن المحكمة ما أُسِّسَت إلا لغايات واضحة ومحددة وهي محاسبة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الأربعة المشار إليها سلفا في كل أنحاء المعمورة , فإذا كانت المحكمة تصرح بأنها لا تملك صلاحية في محاسبة ومحاكمة الكيان الصهيوني بزعم أن ذلك غير منصوص عليه في نظام روما الذي يعد بمثابة دستور المحكمة الجنائية  فإن هذا يشكك  في مدى صدق المحكمة الجنائية الدولية في تحقيق أهدافها التي قامت من أجلها المحكمة التي نراها تستأسد على الضعاف وتسوغ للذئاب جرائمهم ضد الأطفال والنساء والشيوخ  .

سادسا : إن البيان الصادر عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في هذا التوقيت يفتح الباب على مصراعيه للتحليل والنظر العميق و خصوصا بعد التهديدات المتواصلة من قبل الكيان الصهيوني لشن حرب شديدة على غزة ستكون أقوى من الأولى , ونقول للمدعي العام ومن خلفه لللمحكمة الجنائية الدولية وكل دعاة حقوق الإنسان ان بتصريحاتكم تلك تشرعون للاحتلال الصهيوني ارتكاب المزيد من الجرائم والحماقات بحق شعبنا الفلسطيني الأبي الصابر المرابط على أرض الوطن .

ولعل هذا الكلام يؤكده رد فعل الاحتلال الصهيوني على تصريحات " لويس مورينو أوكامبو" ,  وقد طار الاحتلال فرحا بهذا التصريح الذي أعطاه دفعة قوية للاستمرار والإمعان في جرائمه ضد المدنيين العزل المتمسكين بحقوقهم ومبادئهم .

سابعا : إن المتتبع لعمل المحكمة الجنائية الدولية ومن قبلها منظمة الأمم المتحدة بجميع أجهزتها وأذرعها السياسية والقضائية والإنسانية يرى أنها لا تعمل إلا بانتقائية وازدواجية في المعايير  , ولا ترى الأحداث إلا بعين واحدة , وهذا يؤكد ما قام به مجلس الأمن الدولي قبل سنوات بإحالة الوضع القائم في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بالرغم من أن السودان قام بتحقيقات داخلية وأعلن عن النتائج التي خلص إليها  وغير ذلك , وبرغم عقد اتفاقية سلام بين أطراف النزاع إلا أن المحكمة تدخلت بموجب الإحالة المقدمة من قبل مجلس الأمن المستند إلى ميثاق الأمم المتحدة وعلى وجه الخصوص الفصل السابع منه الخاص بحفظ السلم والأمن الدوليين .

وبعقد مقارنة بسيطة بين حكم الإسلام وعدله وبين حكم أهل الباطل وجورهم يحضرنا قول الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( 3 ) 

 وطالما أن قوى الظلم على الباطل والضلال فأنَّى لهم أن يعدلوا أو يقسطوا في الحكم لأن الله سبحانه وتعالى بين بأنهم أعمياء البصيرة  حيث قال سبحانه وتعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } ( 4 ).

 وكذلك قول ربعي حينما قال لرستم ملك الفرس : " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله و من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام "  .

ثامنا : إن الناظر في سياسة القضاء الدولي يرى بأنه ما شُرع إلا لتطويع الدول الضعيفة والدول التي تعارض الهيمنة والاستكبار , وإذا كانت قوى الظلم والبغي والاستكبار تريد الإطاحة بدولة مسلمة فإن النافذة والمدخل إلى ذلك هو القانون , حتى يبقى العالم الإسلامي والعربي ساكتا وصامتا و متفرجا على ما يحدث لتلك الدولة المسلمة .

تاسعا  : لقد نادى البعض مؤخرا بعزل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من منصبه ردا على تصريحاته الأخيرة , ولكن من حقنا أن نسأل هل عزل المدعي العام يحل المشكلة وهل المشكلة القائمة مشكلة قائمة على الأشخاص ؟ , أم أن المشكلة في سياسة عمل المحكمة وفي نظام المحكمة برمته ؟!! .

لذا نجد أن الشارع الحكيم حرَّم التحاكم إلى الطاغوت ,  وإلى تلك المحاكم الظالمة التي لا تراعي شرع الله وإنصاف المظلومين فقال سبحانه : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً  } ( 5 )  .

وقد أنكر الله سبحانه على من يطلب حكم أولئك القوم فعلَه  فقال سبحانه : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ( 6 ) .

كذلك فإن هذه المحاكم لم تكن يوما لتقف في جانب الفلسطينيين , ولم تنصب نفسها في يوم من الأيام أو زمن من الأزمان أو فترة من الفترات  لنصرة الضعفاء والمقهورين , ولكن كل ما هي عليه  الخوف من القوي والسير في فلكه وصفه , وأصبح قانونهم وشعارهم الانتصار للقوي والقهر للضعيف .

أما الإسلام فلقد ضمن نصرة الضعفاء والمظلومين والمقهورين وكفل لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة وهذا هو الفرق الواضح والجلي بين نظرة الإسلام ونظرة أهل الكفر  للأمور التي تحتاج إلى تحكيم وإنصاف .           

وفي الختام نقول لأهل فلسطين صبرا فإلى الله المشتكى وهو وحده المُبتغى ..

وإلى المدعي العام وغيره من قوى الظلم لا نريد منكم عدلا ولا إنصافا وعند الله تلتقي الخصوم وهو أحكم الحاكمين , وحينها يُقاد من الظالم ويأخذ الضعيف حقه من القوي في محكمة رب العالمين . 

 

المراجع :

1-     المادة 5 من نظام روما الأساسي ,  البند رقم 1 , الفقرة أ , ب , ج , د

2-     المادة 13 من نظام روما الأساسي , الفقرة أ , ب , ج .

3-     سورة المائدة آية رقم 8 .

4-     سورة الجاثية أية رقم 23 .

5-     سورة النساء آية رقم 60 .

6-     سورة المائدة آية رقم 50 .

.