القدس والأقصى / خطب مقدسية

فلسطين الجريحة

فلسطين الجريحة

الشيخ: أحمد بن حسين الفقيهي

 

 

ملخص الخطبة

 

1- تعدد الجراح. 2- فلسطين القضية الأولى. 3- معاناة الشعب الفلسطيني. 4- زيف الشعارات الغربية. 5- نداء لمناصرة أهل غزة. 6- ضرورة النظر في القضية بمنظار القرآن الكريم. 7- كلمة لأهل غزة.

 

الخطبة الأولى

 

أما بعد: فيا عباد الله، أصبحنا في زمن لا يدري الواحد منا أيّ الأحداث يتابع، وأيّ المآسي ينازع، تعددت الجراحات التي تفتّت كبد الحجر قبل بني الإنسان، ولا يجد المؤمن الصادق بدًا من متابعتها وإلقاء السمع إلى أحداثها ليرجع البصر والفؤاد خاسئًا كسيرًا وهو حسير.

كانـت فلسطيـن موالاً لأمتنـا مـا بالها لَم تعد للنـاس موالا؟!

تعددت يـا بني قومـي مصـائبنا        فأقفلت بـابنا المفتـوح إقفـالا

كنـا نعالج جرحًا واحـدا فغدت جراحنـا اليوم ألوانـا وأشكالا

عباد الله، مع تعدد المصائب وتعدد الفواجع تبقى فلسطين قضيتنا ومصيبتنا الأساس التي لا ينبغي لنا تجاهلها ونسيانها، فلسطين تلك البلدة التي سالت من أجلها العيون ورخصت في سبيلها المنون، فلسطين أولى القبلتين وثالث المسجدين ومسرى نبينا محمد الأمين ، فلسطين من أجلها شدّ الرجال عزائم الأبطال وأحيوا في نفوسهم الحماسة والنضال.

عباد الله، شعب فلسطين منذ سبعين عامًا وهو يعيش تحت وطأة الاحتلال، مساكنهم الملاجئ والمخيمات، والملايين منهم يعيشون في التشريد والشتات، شعب فلسطين حياته كلها خوف وتعذيب، اعتقال وتهديد، تهديم للبيوت وإغلاق للمدارس، ومع الحصار الاقتصادي المفروض عليهم أغلقت المخازن والمتاجر لتسدّ عنهم أبواب الرزق ووسائل الحياة، تجويع وبطالة، استخفاف وإهانة، استيلاء على الأراضي وتحكّم في مصادر المياه، محتل يلاحق من يشاء، ويتّهم من يشاء، يقتل من يشاء، وينفي من يشاء، ثم يزعم أنه يريد السلام.

قد حصحص الحق لا سلم ولا كلم         مع اليهـود وقد أبـدت عواديهـا

قد حصحص الحق لا قول ولا عمل        ولا مواثيـق صـدق عند داعيهـا

أين السلام الذي نادت مَحالفكم؟! أين الشعارات؟! يا من بات يطريها؟!

تآمـر ليـس تخفـانـا غوائلـه        وفتنـة نتـوارى مـن أفـاعيهـا

عباد الله، لقد انكشفت عورة الدول الغربية وبانت سوأتها عندما ادعت حقوق الإنسان، وهي تتفرّج على ما يحصل على أرض الإسراء والمعراج، راضية بذلك، بل داعمة لكل ما يحصل من وحشية وإجرام، لقد كان من المتوقع أن الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب الكافر مثل "حقوق الإنسان" و"الشرعية الدولية" و"الديمقراطية" سيكون الغرب جادًا في عدم تجاوزها وتعدّي حدودها، لكن أحداث فلسطين الحالية كشفت زيف وعنصرية تلك الشعارات، وعلى رأسها شعار "حقوق الإنسان"، لقد علّمنا الغرب أن الديمقراطية هي الرضا باختيار الشعب، ولكن هذه الوصفة صدّرت لنا بصورة أخرى، بيانها يتضح جليًا في أحد أمرين:

1- إما أن يصل عملاء الغرب وأعوانه من أهل ذلك البلد عبر الانتخابات المزيفة.

2- أو أن يؤتى بقيادة لذلك البلد عبر الدبابات وعابرات القارات.

أما إذا انتخب الشعب الأوفياء الأمناء فجزاء ذلك الشعب بأكمله المقاطعة السياسية والاقتصادية والتجويع والاضطهاد، وليت الأمر توقف عند هذا فقط، بل عمد العدو إلى زيادة جراحهم بقصف أحيائهم ومخيماتهم، ليكافئهم على الاختيار الذي ارتضوه لأنفسهم، وهي رسالة من العالم لكل الشعوب التي تنتخب الأوفياء الأمناء؛ فإن مصيرها مصير ذلك الشعب الأعزل.

أإعادة الأمل الْجميل سجية       للغرب هـذا يا أخي كـذاب

كم علقونا بالوعود وما وفوا    و كذاك وعد الكافرين سراب

عباد الله، لا يخفاكم ما يمر به إخواننا في فلسطين هذه الأيام، إنهم يعانون من ضرب الطائرات وأزيز المدافع والمجنزرات، عشرات المساجد دمرت، ومئات البيوت هدّمت، آلاف الأنفس أزهقت، كم من نساء أيمت، وكم من أطفال يتّمت، وكم من مقابر جماعية أقيمت.

إن إخوانكم ـ يا مسلمون ـ يصارعون عدوهم وبطونهم خاوية وأسواقهم مغلقة ومنافذهم محاصرة، افتقد أطفالهم الحليب، ونفد عن مرضاهم علاج الطبيب، والعالم ينظر ولا مجيب! إنه ليس من عذر لأحد اليوم يرى مقدساته تنتهك، ويرى أطفالاً يقتلون ونساء يرملون وشيوخًا يعتقلون، ثم لا ينتصر لإخوانه ولا يحزن لمصابهم.

يا أهل الجزيرة، ويا أحفاد الصحابة، أين أنتم من بكاء الثكالى وصراخ اليتامى وأنين الأرامل والأيامى؟! أين أخوة الإسلام؟! أين رابطة الإيمان؟! بل أين أخلاق العروبة عما يلاقيه إخواننا في فلسطين؟! فمن ينتصر لهم؟! ومن يخفف مصابهم يا أمة الإسلام؟!

يا ألف مليـون و أين هم       إذا دعـت الـجـراح

هـاتوا مـن المليار مليونًا     صـحاحًـا من صحاح

مـن كل ألـف واحـدا         أغـزو بهم فِي كل ساح

شعـب بغيـر عقيـدة ورق تـذريـه الريـاح

من خان حي على الصلاة       يخـون حي على الكفاح

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى.

أما بعد: فيا عباد الله، إن الذي ينظر إلى قضيتنا في فلسطين بمنظار القرآن لن يخدع أبدًا، فالمولى سبحانه يقول في كتابه: عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 100]، ويقول أيضًا: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64].

إن من يتعامل مع قضاياه على هدي القرآن فلن يضل أبدًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]، وقال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، وقال أيضًا: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217].

أيها المسلمون، إن من سنن الله سبحانه أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، وإن من سننه أيضًا أنه إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قومًا غيرهم، ويأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.

أيها الإخوة المرابطون في أرض فلسطين المجاهدة، أرض الشموخ والفداء، وأرض الجهاد والإباء، يا أهلنا في الأرض المباركة، عذرًا إن وجدتم من كثير من أبناء أمتكم التخاذل والتثاقل، لكن ثقوا أن قلوبنا معكم، والله ناصركم، والمال نبذله فاستنهضوا الهمما.

يا إخواننا، إن أمل الأمة معقود بعد الله عليكم، فاصبروا وصابروا ورابطوا، فإن مع العسر يسرا، إن مع اليسر يسرا، لا تيأسوا من روح الله، فالنصر قادم بإذن الله تعالى، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].

كانت فلسطيـن بالأخيار حـافلة                    واليوم أنذال صهيـون ترديهـا

كانت تعـانق أمْجـادا إذا ذكرت           حن الفؤاد وفـاضت عين باكيها

و الله لو كـان فينـا مثل معتصم         لعبأ الجيـش يرعاهـا ويحميهـا

ولـو رآنا صلاح الديـن في خور        لِجرد السيـف يفري من يعاديها

من أيـن يهنؤنا عيـش وعـافية        وفي فلسطيـن آلام تعنيـهـا؟!

بشراك يـا أيها الأقصـى بموعدة        قد قالهـا المصطفـى والله مجريها

لا وعـد بلفـور يبقى ذكره أبدا           ولا لقيـط يهـود فِي مبانيهـا

لـن تستمر يهـود في غوايتهـا         وسوف يَجتثّ قاصيها ودانيهـا

عباد الله، إن ما يجري في فلسطين المحتلة لهو امتحان شديد لأمة الإسلام؛ لأن القدس والمسجد الأقصى والبقاع الطاهرة هناك ليست لأهل فلسطين فقط، ولا للعرب أيضًا، بل هي لكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلا يملك أحد كائنًا من كان أن يتنازل عن شبر من أرضها لليهود الغاصبين، فهي أرض المسلمين أجمع، تفدى بالأرواح والمهج.

أيها المسلمون، النصر سيعلو على أيديكم أو أيدي غيركم، والباطل سيزهق بجهودكم أو جهود غيركم، ولكن لماذا لا يطلب المسلم الخير لنفسه؟! لماذا لا يكون لبنةً في طريق النصر وسهمًا من سهام الحق وأداة لإزهاق الباطل؟!

عباد الله، إن المأساة أليمة، وإن الخطب جسيم، وإن الذي يحدث هو مسؤولية كل من رآه أو علم به، إننا والله مسؤولون عن مناظر القتل ومشاهد الفقر والتجويع التي يمارسها اليهود والعالم يؤيده على إخواننا في فلسطين، إننا والله نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة.

أيها المسلمون، إن سلاح المال والدعاء لهما أعظم الأثر بإذن الله تعالى في دعم إخواننا المسلمين ودحر اليهود الغاصبين، وهما أيضًا نوع من أنواع الجهاد إن عجزنا عن الجهاد بذواتنا وأرواحنا.

عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...

 

.