فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

ولكنكم تستعجلون.. وقفات إيمانية في حرب غزة

ولكنكم تستعجلون.. وقفات إيمانية في حرب غزة

بقلم منذر قاسم المشارقة

 روى البخاري في صحيحه من حديث خباب بن الأرت فقال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.

    يُعد الحديث النبوي الشريف الذي رواه خباب بن الأرت رضي الله عنه درساً بليغاً في معاني الصبر والثبات، وحسن الظن بالله، وتعميق اليقين في القلوب بأن الله ناصر دينه لا محالة، وأن النصر في حقيقته أبعد من معايير المكسب الدنيوي العاجل.

    فالحديث يشير إلى نفاذ صبر الصحابي خباب بن الأرت، من شدة ما يلقاه الصحابة من تعذيب وقتل، وجاء يستغيث بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، للخروج من الابتلاء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمه درسا في مفهوم الصبر والنصر، وأنهما متلازمان في المؤمنين السابقين من الأمم السابقة وأمة النبي صلى الله عليه وسلم.

وخفي على خباب ان النبي صلى الله عليه وسلم يعايش ما يلاقيه أصحابه من عذاب ويصيبه ما يصيبهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم، أراد أن يعلم الأمة درسا في التمكين، ليعلم أن النصر ليس لأحد من الناس أن يحدد موعده ووقته، فهو منحة من الله قد يعجله الله في الدنيا وقد يؤخره في الآخرة.

قال ابن بطال : إنما لم يجب النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤال خباب ومن معه بالدعاء على الكفار مع قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} وقوله: { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} لأنه علم أنه قد سبق القدر بما جرى عليهم من البلوى ليؤجروا عليها كما جرت به عادة الله تعالى في من اتبع الأنبياء فصبروا على الشدة في ذات الله، ثم كانت لهم العاقبة بالنصر وجزيل الأجر، قال: فأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة لأنهم لم يطلعوا على ما اطلع عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى ملخصا .

وليس في الحديث تصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدع لهم بل يحتمل أنه دعا، وإنما قال " قد كان من قبلكم يؤخذ إلخ " تسلية لهم وإشارة إلى الصبر حتى تتقضى المدة المقدورة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر الحديث " ولكنكم تستعجلون ".

هذه الصورة البشعة التي يمارسها أعداء الله وأعداء الأنبياء، وهذا واضح في أن الذين كانوا يتولون ذلك وأن هؤلاء الأعداء كانوا في غاية العداوة، ليس في قلوبهم أدنى رحمة، انظر إلى شدة الأذى، ومع ذلك هؤلاء في غاية الثبات ما يصده ذلك عن دينه، وتجد بعض الناس يكون في حال النعمة والرخاء، فإذا طاله شيء من الأذى، أو هدد في رزقه، أو وظيفته، أو أدنى الأشياء - لم يهدد بأمشاط الحديد ولا بالمنشار- تخلى، ولربما انقلب إلى الناحية الأخرى تمامًا، كان من قبل ينادي ويطالب بمبادئ، ويدعو إلى ذلك، فلما ابتلي بعض الابتلاء تحول -نسأل الله العافية- إلى شيء آخر، وكثير ممن ترونهم قد غيروا وبدلوا، ولذلك الإنسان يسأل ربه العافية، لا يتمنى البلاء.

"ما يصده ذلك عن دينه" هنا ذكر لهم حال من كان قبلهم، يقول لأصحابه: أنتم ما وصل الأمر أن يوضع المنشار على مفرق الرأس، ثم تأمل الثقة والثبات في وقت الاستضعاف والقهر، مع أن النبي ﷺ لم يسلم من الأذى، ولكن كله ثقة بالله عز وجل وهو يقولوالله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت تأمل ليتمن الله هذا الأمر هم الآن في مكة، وأهل مكة يؤذونهم، معنى هذا: أن مكة ستتحول إلى إسلام، والجزيرة العربية في أنحائها إلى اليمن يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت هذه المنطقة كانت مخيفة، فيها قطاع طرق، لا يتصور السامع أن الإنسان يسير وحده يقطع هذه المسافة من صنعاء إلى حضرموت ويسلم، فالنبي ﷺ قاللا يخاف إلا الله يعني: الأمن ينتشر، والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون.

 

محطات مظلمة في تاريخ الأمة

فتنة القرامطة

وفي سنة 317هـ خرج القرامطة إلى مكة في يوم التروية، فقتلوا الحجيج في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة، وجلس أميرهم أبو طاهر على باب الكعبة والحجاج صرعى حوله والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، فقال: أنا بالله وبالله أنا .. يخلق الخلق وأفنيهم أنا.

وكان الحجاج يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم متعلقون بها، ولما قضى القرمطي أبو طاهر أمره، أمر بإلقاء القتلى في بئر زمزم، وهدم قبتها، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، ثم أمر رجلا من رجاله بأن يقلع الحجر الأسود، فضربه بمثقل كان في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟

ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه في سنة 339هـ مقابل مال عظيم.

الحروب الصليبية (من 490هـ حتى 670هـ)

 ولبث الفرنجُ في البلدة أسبوعًا يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعةٌ من المسلمين بمحرابِ داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثةَ أيام، فبذل لهم الفرنجُ الأمانَ، فسَلَّموه إليهم، ووفى لهم الفرنج، وخرجوا ليلًا إلى عسقلان فأقاموا بها، وقَتَل الفرنجُ بالمسجد الأقصى ما يزيدُ على سبعين ألفًا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم، وعبَّادهم وزُهَّادهم

سقوط بغداد:

وتعد مأساة اجتياح جيش المغول للمدينة في يوم الأربعاء 9 صفر 656هـ الموافق 14 فبراير/شباط 1258م، وتدمير معالم الحضارة الإسلامية فيها وقتل أهلها؛ من أكبر الكوارث في تاريخ المسلمين.

 استباح المغول بغداد ونهبوا أموالها، واستمر النهب والتدمير والقتل 40 يوما، ولم يبق فيها مسجد ولا دار ولا شجر إلا واشتعلت فيها النيران كعادة المغول في كل مدينة يحتلونها، وألقيت الكتب والمصاحف في ماء النهر الذي تغير لونه وأصبح بلون الحبر من كثرتها، وبذلك زال مشعل العلم الذي كانت تحمله بغداد العظيمة.

قال المؤرخ ابن الأثير كلمات مؤثرة بعد بداية اجتياح المغول لبلاد الإسلام :لقد بقيت عدة سنين مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليكم رِجلًا وأُؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك

700 زوجة وسرية للخليفة!!

في يوم الجمعة 19 صفر أصدر هولاكو أوامره بإحصاء نساء الخليفة، فعدوا سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة.

يقول ابن كثير: اختلف الناس في عدد من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة، فمنهم من قال ثمانمائة ألف، ومنهم من قال ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغ القتلى ألفي ألف نفس، وقال: كانت جثث القتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليها المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع من بقي على الوباء والغلاء والفناء، والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

رواية شاهد عيان

من بين شهود العيان الذين كتبت لهم النجاة من هذا اليوم الرهيب، عبد المؤمن مغني الخليفة المستعصم ونديمه، قال في روايته عن هذا اليوم: طلب هولاكو من رؤساء البلد أن يقسموا دروب بغداد ومحالها وبيوت ذوي يسارها على أمراء دولته فقسموها، وجعلوا كل محلة أو محلتين أو سوقين باسم أمير كبير، فوقع الدرب الذي أسكنه في حصة أمير مقدم عشرة آلاف فارس اسمه “بانوانوين”، وكان هولاكو قد رسم لبعض الأمراء أن يقتل ويأسر وينهب مدة ثلاثة أيام، ولبعضهم يوم حسب طبقتهم، فلما دخل الأمراء إلى بغداد، فأول درب جاء إليه الدرب الذي أنا ساكنه، وكان قد اجتمع عندي كثير من ذوي اليسار، واجتمع عندي نحو خمسين جوقة من أعيان المغاني من ذوي المال والجمال، فوقف بانوانوين على باب الدرب، وهو مدبس بالأخشاب والتراب، فطوقوا الباب وقالوا: افتحوا لنا الباب وادخلوا في الطاعة ولكم الأمان، وإلا حرقنا الباب وقتلناكم، قلت: السمع والطاعة ففتحت الباب وخرجت إليه وحدي وعليّ ثياب وسخة، وأنا أنتظر الموت، فقبلت الأرض بين يديه، فقال للترجمان: إذا أردتم السلامة من الموت فاحملوا لنا كذا وكذا، وطلب شيئا كثيرا، فقبلت الأرض مرة ثانية، وقلت: كل ما طلب الأمير يحضر، وقد صار كل ما في الدرب بحكمك، فمر جيوشك ينهبون باقي الدروب المعينة، وأنزل حتى أضيفك ومن تريد من خواصك، فأجمع لك ما طلبت. فشاور أصحابه ونزل في نحو ثلاثين رجلا، فأتيت به إلى داري، وفرشت له الفرش الخليفية الفاخرة، والسور المطرزة بالزركش، وأحضرت له في الحال أطعمة، مقليات ومشويات وحلوى، فلما فرغ من الأكل عملت له مجلسا ملوكيا، وأحضرت له الأواني المذهبة من الزجاج، وأواني فضة فيها شراب مروق، فلما دارت الأقداح وسكر قليلا، اخترت عشر جوق كلهم نساء، كل جوقة تغني بملهاة غير ملهاة أختها، وأمرتهم فغنوا كلهم، فارتج المجلس وطرب، وانبسطت نفسه، وضم واحدة من المغنيات أعجبته، فواقعها في المجلس ونحن نشاهده.

لذلك نحتاج في مثل هذه الاحداث الدامية التي يعيشها أهلنا في فلسطين عامة وأهل غزة خاصة أن نذكر أنفسنا بمفاهيم إيمانية وعقائدية، تزيد من ثباتنا ويقيننا بالله عز وجل.

أولاً: حسن الظن بالله واليقين بنصره:

حسن الظن بالله تعالى هو قوة اليقين بما وعد الله تعالى عباده من سعة كرمه ورحمته ورجاء حصول ذلك. وحسن الظن بإجابة الدعاء، يكون بقوة اليقين بأن الله تعالى يجيب الداعي. لكن إن تأخر جوابه فلا يقنط من رحمة الله تعالى وسعة كرمه؛ فإن في القنوط سوء ظن بالله تعالى، وهو أمر محرم.

يؤكد الحديث أن النصر ليس قضية وقتية يتحقق حالما نشتاق إليه، فالرسول ربط تمام هذا الأمر - أي ظهور الدين وانتشاره - بالوعد الإلهي "والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمر"، وهنا ينشأ اليقين في قلب المؤمن بأن العقبات مهما تعاظمت، فلا بد من تحقق وعد الله. ويعلمنا النبي أن على المسلم أن يُحسن الظن بربه، فيطمئن أن الله لن يترك دينه ولا عباده دون نصر وعز.

وحسن الظن بالله في الابتلاء يظهر من خلال عدة مظاهر، ومنها:

الإيمان بحكمة الله: الاعتقاد بأن كل ابتلاء فيه حكمة من الله، وأن الله لا يبتلي عباده إلا لما هو خير لهم.

قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]

التواضع والرجوع إلى الله: الشعور بالضعف والاحتياج إلى الله، مما يدفع الشخص للدعاء والتضرع في أوقات الشدة.

قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ فاطر 15.

الرضا بالقضاء: تقبل ما كتب الله عن رضا وإيمان، وهذا يساعد على تحقيق الطمأنينة .

قال صلى الله عليه وسلم: (وارض بما قسَم الله لك، تكن أغنى الناس)؛ رواه أحمد والترمذي، وحسَّنه الألباني.

العمل بالطاعة: السعي لتقوية العلاقة مع الله بالعبادات وزيادة الأعمال الصالحة خلال الأوقات الصعبة.

عن معقل بن يسار- رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العبادة في الهرج كهجرة إلي. رواه مسلم.

استشعار الفرج: الاعتقاد بأن الفرج قادم لا محالة، وأن بعد العسر يسرا، وأن الله قادر على تغيير الحال في أي لحظة.

قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) سورة الطلاق 2-3

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئا خيرا من حسن الظن بالله تعالى، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك بأن الخير في يده " رواه ابن ابي الدنيا".

المواطن التي يتأكد فيها حسن الظن بالله تعالى:

أولا: عند الأزمات، والملمات، والتضحيات، وكثرة الفتن، وتقلب الأمور، وغلبة الديون، وضيق العيش ومثل ذلك ففي الحديث: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجل أو آجل) رواه أبو داود والترمذي والحاكم

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فأنت أيها الإنسان لا تسكت عن الشر، ولكن أعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله، ولا تمل، فالدرب طويل، لا سيما إذا كنت في أول الفتنة، فإن القائمين بها سوف يحاولون ـ ما استطاعوا ـ أن يصلوا إلى قمة ما يريدون، فاقطع عليهم السبيل، وكن أطول منهم نفسا وأشد منهم مكرا، فإن هؤلاء الأعداء يمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين. (ابن عثيمين شرح حديث خباب في رياض الصالحين).

ذكر القرآن حال الأنبياء في حال الشدائد العصيبة من حسن ظنهم بربهم ويقينهم وثقتهم بوعده، عقيدة راسخة وليست خواطر عابرة.. قال موسى لقومه لما قالوا): إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلي موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) سورة الشعراء

وأن النصر والتمكين بيد الله سبحانه وتعالى، فهو من يختار وقته وحكمته وأسبابه ومن يمنحه لعباده. فقد نجى الله موسى عليه السلام من فرعون بمعجزة عظيمة أظهرت فيها قدرته وغلبته على المجرمين، لكنه سبحانه لم يُقدّر لموسى فتح بيت المقدس. وبدلاً من ذلك، عاقب بني إسرائيل بالتيه في الأرض نتيجة لعصيانهم وترددهم. وقد أراد الله أن يكتب فتح بيت المقدس على يد يوشع بن نون، أحد المؤمنين الصادقين، وأظهر قدرته مرة أخرى بإيقاف حركة الشمس حتى يتم نصره. بذلك يعلمنا الله أن أمور التمكين والنصر ليست متعلقة بالبشر، بل هي وفق حكمته وتدبيره، يختار وقتها ومن يتحلى بالإيمان والطاعة ليكون أداة لتحقيق وعده.

وعندما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في الغار، وكانت اللحظات شديدة والعدو يلاحقهم حتى وصل إلى مدخل الغار، ظهر إيمان النبي العميق وثقته المطلقة بالله -عز وجل-. وفي تلك اللحظات الصعبة، كان عليه الصلاة والسلام يُهدئ من روع صاحبه ويغرس فيه الاطمئنان واليقين، فقال له: "لا تحزن إن الله معنا ليؤكد له أن الله قريب، وهو الناصر والحامي في أشد المحن. وزاد من طمأنينته قائلاً: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، مشيرًا إلى أن معية الله تجعل المستحيل ممكنًا. إنها لحظة تعلمنا أن الفرج والنصر بيد الله وحده، وأن الثقة بحكمته وحسن الظن به سبيل النجاة حتى في أحلك الظروف وأعقدها.

ثانيا: عند الدعاء

من كانت علاقته بالدعاء قوية هانت عليه المصائب، وتيسرت له السبل، وبورك له في كل شيء يسلكه، ففي الحديث الشريف "لن يهلك مع الدعاء أحد" أخرجه الحاكم في المستدرك وفي الحديث الآخر "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" رواه الترمذي.

قال عمر: "إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا أُلهِمت الدعاء فإن الإجابة معه".

ثالثا: عند التوبة:

يوقن المسلم بسعة رحمة الله، وأنه يقبل التوبة عن عباده وأنه يعفو عن السيئات.

جاء الفضيل إلى سفيان الثوري في يوم عرفة وقال له: من أسوأ الناس حالا في هذا اليوم؟ قال: من ظن أن الله لا يغفر لهم.

لأن هذا من سوء الظن بالغفار الذي وسعت رحمته كل شيء.

رابعا: عند الاحتضار

ففي الحديث: (يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل) رواه مسلم.

قال إبراهيم النخعي: "كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن الظن بربه".

مرض أعرابي فقال له الطبيب: إنك ستموت. فقال: ثم إلى أين سأذهب؟ قال إلى الله. فقال: ما كراهتي أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه؟

واحتضر رجل فقالوا له: ما ترى الله فاعلا بك؟

فقال: لقد أكرمني وأنا في داري، فلن يكون أقل كرما وأنا في داره.

قال أعرابي لابن عباس: من يحاسب الناس يوم القيامة؟ قال الله.

قال نجوت ورب الكعبة؛ لأن الكريم إذا ملك رحم، وإذا قدر عفا.

يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى محذرا ومبينا الفرق بين حسن الظن والغرور:

إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ومالهم حسنة يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي.. وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل".

وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على شابٍّ وهو في الموتِ فقيل كيف تجِدُك قال أرجو اللهَ وأخافُ ذنوبي فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطنِ إلَّا أعطاه اللهُ ما يرجوه وأمَّنه ممَّا يخافُ. رواه الترمذي.

ثانياً: عدم استعجال النصر

قال النبي : "ولكنكم تستعجلون". هذه العبارة تلخص واحدة من أعظم آفات المنتسبين إلى أي رسالة إصلاحية: استعجال النصر والرغبة بتحقيق النتائج وفق رغباتهم، لا وفق حكمة الله وتقديره. لذلك ينبغي للجيل الشاب أن يتعلم أن النصر قد يتأخر لحكم يعلمها الله، وأن دورهم بذلُ الجهد والثبات حتى يأتي فرج الله.

وأن مفهوم النصر في الشرع يختلف عما يظنه كثير من الناس، ولابد أن ندرك أن الأيام دول كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140)، وأن النصر من عند الله كما قال وتعالى وما النصر إلى من عند الله إن الله عزيز حكيم) الانفال 10، وأن الله أمرنا ببذل الأسباب ترك النتائج له، وحذرنا من الاستعجال في تحصيل على النتائج، وقد يكون النصر بانتصار المؤمنين وهلاك الكافرين كما في غزوة بدر وهلاك فرعون، كما يكون النصر بتمكين الله للمؤمنين، وقد يؤخر الله النصر عن المؤمنين كما قال تعالى (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب) البقرة 214، وقد يكون النصر بثبات المؤمنين على الحق كما في أصحاب الأخدود، وقد يكون النصر بالفوز بالجنة. وغيرها من المفاهيم.

ثالثاً: معنى الفوز الحقيقي

إذا اشتد الابتلاء وتباطأ النصر الظاهري، يجب أن يدرك الشاب المسلم أن الفوز الحقيقي هو في الثبات على الدين حتى آخر نفس، وأن دخول الجنة هو الغاية العظمى. فالذي يثبته الله على الإيمان وينقله للحياة الآخرة حافظاً لدينه، فقد فاز أعظم فوز، ولو خسر الدنيا وما فيها:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾
ثم ذكر الله بعد هذه الآية المعيار الحقيقي للفوز فقال  ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾البروج آية 11.

وكما في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أنس بن مالك، عندما بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى بني عامر سبعين صحابيا من بني سليم، فلما ذهب صاحبي إليهم الصحابي ليبلغهم عن رسول الله غدروا به فقال (فزت ورب الكعبة).

وقوله تعالى (كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (سورة آل عمران 185 

رابعا: التعلق بالله عز وجل وليس بالأسباب:

يشير مفهوم التعلق بالله إلى العلاقة الإيمانية العميقة التي تربط المسلم بخالقه، حيث يجد فيه الملاذ والأمان والنجاة في أوقات الأزمات والابتلاءات. تُظهر أحداث غزة المعاصرة، والتي نشهدها في ظل استمرار عملية "طوفان الأقصى"، كيف أن هذه العلاقة تُعتبر عبادة عظيمة. على الرغم من الألم والقتل والدمار الذي يتعرض له أهل غزة، فإن كلمات الثبات والعزة التي يتلفظون بها تُظهر مدى تعلقهم بالله عز وجل، وإيمانهم بأنه لا ملجأ ولا منجى إلا منه تعالى، متجاوزين اليأس من الحلول التي تقدمها الحكومات والرؤساء.

تذكرني هذه المشاهد بقصة النبي إبراهيم عليه السلام عندما أراد قومه إلقاءه في النار. قال الله تعالى (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ." فرد إبراهيم بكلمات الثقة حسبنا الله ونعم الوكيل." وفي تلك اللحظة، قال الله تعالى) قلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ." (سورة الأنبياء: 69-70.

هذا هو صدق التوكل والتعلق بالله، كما فعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" في حالات الشدة، كما في سورة آل عمران: "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل."

إنها دعوة للجميع لتعزيز إيمانهم وتعلقهم بالله، والاعتماد عليه في كل وقت وحين، مهما كانت الصعوبات.

 يمكن تحميله PDF من هنا 👇

.

تحميل الملف المرفق