القدس والأقصى / عين على الاقصى

الكتاب والميزانُ والحديد: لا يصلحُ النَّاس إلَّا بهذه الثَّلاثة

العلامة محمد تقي الدين الهلالي

نشرت في جريدة «السجل» البغدادية، السنة السادسة عشرة ، العدد (348)، الثلاثاء 11 رجب 1367هـ والمصادف 18 مايس 1948م، (ص1 ، 4).

فالكتاب -وهو كتابُ الله القرآن-: يهدي الخلقَ للَّتي هي أقومُ، ويبشِّر المؤمنين بالنَّصر والظَّفر، والعلوِّ في الدُّنيا، وبالأجر الكبير الكريمِ في دار الجزاءِ والكرامة، ويهديهم للَّتي هي أقومُ؛ أي: الطَّريقة الَّتي هي أكثرُ استقامةً في معيشتِهم وأعمالهم كلِّها، ومعاملتِهم لغيرهم مِن أبناء أمَّتِهم وأبناءِ الأممِ الأخرى، وذلك بتنظيمِ الشَّرائع وتنفيذِها، والأخلاقِ، وتزكية النَّفس وتهذيبها، ونعيمِ الرُّوح وحياتِها، واغتباطِها العاجل والآجل، وينذرُ الكافرين المعادين للحقِّ، الخارجين عن طريقِ الإنصافِ إلى الظُّلم والهَضْم والإجحافِ، ومنه الاستعمارُ والاستعبادُ بالجملةِ كما يفعلُ لصوصُ أوربَّة في هذا الزَّمان، وينذرُ الفاسقين الخارجين عن شرائعِه من الذين اتَّبعوا أهواءَهم مِن بعد ما تبيَّن لهم الهُدَى، وينذرُ المنافقين الَّذين هم في الظَّاهر مسلمون وفي الباطنِ مِن أشدِّ أعداءِ الإسلام، وهم الَّذين إذا حدَّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتُمِنُوا خانوا، وهذا الصِّنفُ مِن أعداء الإسلام أعظمُ أعدائه ضررًا، وأشدُّهم خطرًا.

فالقرآنُ بهذا المعنى وتفريعاتِه نورٌ مبين؛ كما قال –تعالى-: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا}[النساء: 174]، وقال –تعالى-: {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها}[الأنعام: 122]، وقال –تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورًا تمشون به}[الحديد: 28].

فمَن تركَ القرآنَ فهو في ظلامٍ حالِكٍ، يخبِطُ فيه خبْطَ عشواءَ، فالقرآنُ «حبلُ الله المتين، مَن تركه تجبُّرًا قصمَه الله، ومَن ابتغى الهدى في غيرِه أضلَّه الله»([1])، وكلُّ ما أصابَ المسلمين مِن ظُلمٍ وظُلُماتٍ؛ فهو بسببِ تركهم للقرآن، ولو رَجعوا إليه؛ لرجعَ لهم ما فَقدوه مِن المجدِ والعِزِّ والسَّعادة، (ومَن اشْرأبَّ فالعَربُ بالبَاب)؛ فليجرِّب يجِدْ.

والميزانُ: هو العدلُ الَّذي لا تقومُ السَّماواتُ والأرضُ إلَّا به، ومَن ضيَّعه وزعمَ أنَّه يبلغُ عند الله مِن القُرَبِ والمكانة إلى حدِّ أنَّه جعَل له الأممَ الأخرى متاعًا يتصرَّفُ فيه، ووسائلَ للذَّتِه ورَغَباته كما يستمتعُ بما يملكُه مِن الأنعامِ والنَّبات والمعادنِ؛ فقد تركَ الكتابَ وراءَه، وصارَ أضلَّ مِن حمار أهلِه، وخسِرَ خسرانًا مبينًا، وهذا ما وقعَ لليهودِ، ومَن اقتفى آثارَهم مِن الضُّلَّال.

والدَّليلُ على ما ذكَرْناه: ما جاء في المزاميرِ الصُّهيونيَّة وأحلامِها القديمة منذ آلاف الأعوام، في الآية السَّادسة من المزمورِ الثَّاني، ما نصُّه -بعد التَّرجمة الدَّقيقة، والضَّمير يعود على إله بني إسرائيل المسمَّى عندهم (يَهُوَى)-: «وأنا الَّذي نصبْتُ مُلكِي على صُهيون جبل قُدسي، الأُمم نِحْلَتُك تَضربُهم بعَصًا مِن حديدٍ، وتحطمُهم كآنيةِ الفَخَّار».

ومعناه أنَّ الله –بزعمهم- يقول: أنا الذي نصبت ملِكي([2]) -بكسر اللَّام- المنسوبِ إليَّ؛ لأنَّني أنا الَّذي نصبتُه على صُهيون، وهو جبلٌ قُدْسيٌّ، وقَد وهبَك الأممَ الأُخرى، والحسابُ مِن الله –بزعمِهم- لملِكِ صُهيون، والـمُراد: أنَّ جميعَ الأممِ ما عدا بَني إسرائيل هبةٌ منِّي لك يا مَلِكَ صُهيون؛ فافْعَل بهم ما تشاءُ مِن التَّدمير والإهلاك، واضرِبْهم بعصًا مِن حديدٍ، وحطِّمْهم كآنيةِ الخزَف.

ونحن لا نَقتفي آثار هِتْلر([3]) فنُعامل اليهود بالمثل، ونجعلهم متداولَ الخليقة أحطَّ الشُّعوب وأنجسها، ولو فَعلنا ذلك لصِرنا مثلهم ووقَعْنا في ذنبهم؛ بل نعترفُ بأنَّ الله أنزلَ على بني إسرائيل كتابًا حقًّا وهدًى، وقد كانوا أفضلَ أهلِ زمانِهم حين عملوا بالكتاب المنزَّلِ ولم يحرِّفوه، والتزموا الميزانَ الذي هو قرينُ الكتابِ وحليفُه، فلمَّـا حرَّفوا الكتابَ، وبدَّلوا مَعانيه، وغيَّروا حروفَه وأحكامَه، وزعَموا أنَّهم أبناءُ الله وأحبَّاؤه، ولا جُناحَ عليهم في ظلمِ غيرِهم؛ عاقبَهم الله بالذِّلَّة والشَّتات، وحال بينهم وبين ما أرادوا لغيرهم، وذلك تكذيبٌ منه –تعالى- لهم فيما نسبوه إلى كتابه؛ فالكتابُ بلا ميزانٍ لا يفيد، لأنَّ الميزانَ معنًى للكتاب.

وأمَّا الحديد: فهو خادمُ الميزان، وجندُه المنقِذُ لِـمُقتضاه، فكما أنَّ الكتابَ بلا ميزانٌ لا ينفع؛ فكذلك الميزانُ لا يقوم إلَّا بالحديد، والحديدُ هنا يتحمَّل جميع الأسلحةِ مِن السكين إلى القنبلةِ الذَّرِّيَّة؛ فلا يُنفَّذُ مدلولُ الكتابِ إلَّا بالحديد.

وذلك أنَّ الله خلقَ النَّاس فريقَين: فريقًا هَدى، وفريقًا حقَّت عليهم الضَّلالة، فالفريقُ الـمَهدي يفهم القرآن والميزانَ ويحبُّه ويعملُ به ويؤيِّدُه، والفريقُ الضَّالُّ الخبيثُ لا يفهَمُ إلَّا لغةَ الحديد، وفي مَعنى ذلك وردَ: «إنَّ اللهَ لَيزَعُ بالسُّلطان ما لا يزعُ بالقُرآن»([4]).

وفي مسألةِ فلسطين: الميزانُ يقضي بإخراجِ كلِّ يهوديٍّ غريب دخلَ فلسطين متلصِّلصًا كما يدخلُ الهرُّ برجَ الحمام، حاملًا معه مِن الخبثِ والقسوةِ والجرائم ما لا يعرفُه سكَّان الجزيرة مِن أقدم عصورِهم، لا في جاهليَّتهم ولا في إسلامِهم، ولا في نصرانيَّتهم ولا في شِركِهم، وجريمةُ دير ياسين([5]) لا تزال جديدةً، وهذا الميزانُ أوضَحُ مِن شمس الضُّحى، يعرفُه الجاهلُ والعالِـم، ولكن الصُّهيونيِّين ومن ينصرُهم تجاهَلُوه، ولن يردَّهم إلى صوابِهم إلَّا الحديد.

وهذا ما يفعَلُه العربُ الآن بالضَّبط، ولم يكن لهم بدٌّ منه، ويجبُ عليهم أن يتَّبعوا الأصلَ الأعظمَ وهو الكتاب؛ فيستبشروا الرَّحمة والشَّفقةَ على أطفال عدوِّهم ونسائِه وشيوخِه، ما لم يتعرَّض أحدٌ مِن هؤلاء لقتالِـهم، ولا يجوزُ لهم أن يكافئوهم بالمثلِ على جرائمِهم في دير ياسين وغيرها([6])، وكذلك لا يجوزُ لهم أن يُجْهزوا على جريحٍ، ولا أن يتَّبعوا مُدْبرًا([7])، ولا يقتلوا مَن ألقى إليهم التَّسليم([8]).

ويجبُ على الجنود أن يلتزموا الصَّلاة في حال القتالِ على الوجه الَّذي عيَّنه الكتابُ المبين، وأن يتجنَّبوا المسكرات والغلولَ، ويسبوا الآخذ مِن الغنائمِ قبلَ قِسمَتِها([9])، فبذلك يرَون مِن نصر الله العجب العُجاب، وإذا جاءَهم نصرٌ مِن الله فلا يَنبغي لهم أن يُعقبوه بليلةٍ ساهرة راقصةٍ سَكرى فاجرةٍ؛ بل يُقابلون النَّصرَ بشُكْرِ اللهِ وطاعته، ولا يجوزُ لهم أن يَفتخروا بانتصارِهم كما يفعلُه سفهاءُ أوربَّة؛ بل يتواضَعُون لله لِيزيدَهم وفَقةً، وقد دخل النَّبيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- مكَّةَ عام الفتح، وإنَّ رأسَه لَيكادُ يمسُّ غاربَ بعيرِه([10])؛ تواضُعًا لله، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}[النحل: 128].

 

كتاب: جهود محمد تقي الدين الهلالي في كشف دسائس اليهود ونصرة فلسطين – جمع وتعليق مشهور بن حسن آل سلمان، ص24-31

الإصدار الثامن والخمسون | مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

1445هـ - 2024م



([1]) أخرجه الترمذي رقم (2906)، وابن أبي شيبة (7/164)، والدارمي (2/435)، والبزار (3/70 - 72)، وأحمد (1/91)، وأبو يعلى (1/302 - 303، رقم 367)، ومحمد بن نصر في «قيام الليل» (ص123)، والفريابي في «فضائل القرآن» (رقم 80، 81، 82)، وإسحاق بن راهويه -كما قال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (1/212)-، من حديث علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: «هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال» أي: الحارث الأعور، وقال البزار: «لا نعلم رواه عن علي إلا الحارث»، وانظر: «علل الدارقطني» (رقم 322).

([2]) سقطت من الأصل.

([3]) زعم بعض الباحثين من الأمريكان وكذا من العرب -للأسف- أن الهلالي تأثَّر بهتلر، وكان ناتسيًّا (نازيًّا)، ورددت عليهم بما لا مزيد عليه في كتابي «تجربة تقي الدين الهلالي في الدعوة إلى الله ومحاربة الاستعمار، مع راديو الموجات القصيرة في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية 1358  1361هـ/1939  1942م» (1/174  175، 488، 493  503، 659 - 686) و(2/14 - 99)، فلينظر فإنه (مهم).

([4]) هذه مقولة لعثمان -رضي الله عنه-، أخرجها ابن شبّة في «تاريخه» (3/988) أو (5/191) رقم (1865  ط الميمنة)، وابن عبدالبر في «التمهيد» (1/118  ط المغربية)، من طريقين عنه، وفي كليهما انقطاع.

وأخرجها الخطيب في «تاريخ بغداد» (4/108) بإسناده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قوله.

ونحوها مختصرة جدًّا عن الحسن البصري قوله في «التمهيد» (1/118).

([5]) دير ياسين: قرية صغيرة هادئة، تقع غربي القدس، وترتفع 2٫570 قدمًا (أي: 770 مترًا) عن سطح البحر، وفي سنة 1922م كان عدد سكان القرية 252 نسمة، وارتفع العدد إلى 429 نسمة في سنة 1931م، ليصل سنة 1948م إلى حوالي 750 نسمة يقطنون في 144 منزلًا.

لم تدخل قرية دير ياسين التاريخ قبل المذبحة الوحشية التي شهدتها، ولم يبقَ أهلها فيها بعد النكبة، إنها مفارقةٌ عجيبة! أن تدمَّر وتفرَّغ القرية في يوم دخولها التاريخ!!

لم تكن مجزرة دير ياسين هي الأولى من سلسلة المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية؛ فقد سبقتها جرائم عديدة ومجازر وحشية أكبر، إلا أن هذه المجزرة تميزت بكونها حدثت في قرية قريبة من القدس، ودخلها مندوبو الصليب الأحمر ونقلوا شهاداتهم للعالم قبل إخفاء معالم الجريمة، وقد نقل المعتدون الصهاينة مساء ذلك اليوم (الجمعة 9/4/1948م) 150 أسيرًا من الشيوخ والأطفال والنساء في شاحنات، وطافوا بهم في (موكب نصر) في الأحياء اليهودية، ثم ألقوا بهم على الحدود مع العرب، كما عقد المجرمون مؤتمرًا صحفيًّا دعوا إليه ممثلي الصحف والإذاعات الأمريكية، وتباهوا فيه بنصرهم (العسكري)، وقد ظهر الإحراج على قادة العدو، واضطروا إلى تكذيب اشتراك قواتهم في الهجوم.

غير أن العصابات الصهيونية دمَّرت مئات القرى دون أن تعلن ذلك أو تفخر به، وكانوا يفهمون اللعبة الإعلامية وشبكة العلاقات العامة وقنوات الضخ للرأي العام؛ كحالهم الآن مع غزة (العزة).

ولهذه الأسباب باتت مجزرة دير ياسين رمزًا مكثَّفًا لجريمة النكبة، وباتت تحمل رمز (ضحية) النكبة الأولى كونها المجزرة الأكبر، غير أن الحقيقة ليست كذلك؛ فدير ياسين لم تكن المجزرة الأكبر، بل كانت المجزرة الأعلى صوتًا وضجيجًا؛ لأن من ارتكبها كان يرغب بالإعلان عنها لأسباب شعبية داخلية، ولبثّ الهلع في نفوس العرب الباقين في قُراهم، وقد حدث ذلك.

وقائع المجزرة: في اليوم التالي لاستشهاد عبدالقادر الحسيني في 8/4/1949م، وفي الساعة الواحدة تقريبًا من صباح يوم الجمعة، تحركت القوات الصهيونية المهاجمة من قواعدها كي تكون في مواقعها المحددة لها في أطراف القرية وفق خطة الهجوم عند ساعة الصفر؛ أي: الخامسة والدقيقة الثلاثين فجرًا (بدأ الهجوم قبل ساعة من موعده بسبب أخطاء تقَنيَّة).

كانت الخطة أن لا يباشر المهاجمون إطلاق النار قبل إحكام الطوق على القرية من الشمال والشرق والجنوب والغرب، على أن تكون إشارة البدء صلية ضوئية من مدفع رشاش.

وشهدت أطراف القرية معارك عنيفة تنقَّلَت من بيت إلى بيت، ودافع أهل القرية دفاعًا مشهودًا، وبدأ المهاجمون من الأرجون وشتيرن يتكبَّدون الخسائر الجسيمة ويتراجعون.

بيد أن المعركة تحولت لمصلحة المهاجمين مع تدخُّل البلماخ Palmach (الجناح العسكري للهاغانه)، وتزامن ذلك مع شحّ متزايد في الذخيرة لدى المدافعين بلغ حدّ النفاد، وكان للنساء دور فاعل في الدفاع عن القرية، وفي مقدمتهم الشهيدة حياة سالم البلبيسي -رحمها الله تعالى- معلمة مدرسة البنات.

ويروي بيغن في حديثه عن المذبحة: أن العرب دافعوا عن بيوتهم ونسائهم وأطفالهم بقوة؛ فكان القتال يدور من منزل إلى منزل، وكلما احتل اليهود منزلًا فجَّروه بمن فيه من سكان بالمتفجرات القوية (TNT) التي أحضروها لهذا الغرض.

ويقول موردخاي رعنان في شهادته لإيلان كفير من جريدة «يديعوت أحرونوت» العبرية في 4/4/1972م: «نسفنا المنزل الأول، وبعد كل ربع ساعة كنا ننسف منزلًا آخر، ولم يكن لدينا أي فكرة عمن داخل المنازل، واعتبرنا كل منزل حصنًا قائمًا بحدِّ ذاته، ووصلنا بهذه الطريقة إلى المنزل الذي أصيب فيه (يفتاح) قائد قوة إيتسل الأمامية المهاجمة؛ فتبين لنا أنه توفي، وتمركز أحد المقاتلين الشباب حاملًا مدفعًا رشاشًا، وأنذرنا سكان المنزل بالاستسلام، فخرجوا رافعي الأيدي بعد أن شاهدوا ما حصل للمنازل الأخرى، فضغط الشاب على زناد المدفع فقتلهم جميعًا بصلية واحدة صارخًا: (من أجلك يا يفتاح)، وكانوا تسعة بينهم امرأة وطفل».

في يوم الهجوم انطلقت مجموعة من عصابة شتيرن تتقدمهم سيارة مصفحة تحمل مُكبِّرًا للصوت، وكان هدفهم الوصول إلى قلب القرية، وكان المذياع يقول للعرب: «إنكم مهاجمون بقوى أكبر منكم، إن المخرج الغربي لدير ياسين الذي يؤدي إلى عين كارم مفتوح أمامكم؛ فاهربوا منه سريعًا وأنقذوا أرواحكم»، لكن سكان القرية الذين صدَّقوا النداء وخرجوا من بيوتهم هاربين؛ اصطيدوا برصاص الإرهابيين الصهيونيين، أما الذين بقوا في بيوتهم ومعظمهم من النساء والأطفال والشيوخ؛ فكان لا بد من الإجهاز عليهم، فأخذ اليهود يلقون القنابل داخل البيوت فيدمرونها على من فيها.

انظر تفاصيل المذبحة: في كتاب «المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني» (36 - 43) إعداد الأستاذ ياسر علي.

([6]) وهكذا على جرائمهم في غزة (العزة)، فالشرع حرم أرواح الصبيان والنساء غير المقاتلات؛ لأنهم غير مقاتلين، قال ابن المناصف في كتابه «الإنجاد في أبواب الجهاد» (1/224 - 225، بتحقيقي):

«وأما المحظور -أي: في القتال- باتفاق: فقتل النساء والصبيان، حيث لا يضطرُّ إلى ذلك، إمَّا في البيات أو المدافعة حال القتال، والدليل على هذا: قوله -تعالى-: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190]، وهؤلاء ليسوا ممن يقاتل، فوجب الكفُّ عنهم، وكان القتل اعتداءً فيهم.

وما خرَّجه البخاري [رقم3015] ومسلم [1744] عن ابن عمر قال: وُجِدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان، ولا خلاف -أيضًا- فيه».

وقال النووي في «شرح صحيح مسلم» (11/292): «أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا»، وقال ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/386): «ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم، ما لم يقاتل الصبي والمرأة».

وانظر: «المبسوط» (10/5)، «فتح القدير» (5/202)، «المعونة» (1/624)، «روضة الطالبين» (10/243)، «كشاف القناع» (2/377)، «المحلى» (5/347).

([7]) ليس هذا في جهاد الكفار، وإنما هو في قتال البغاة من المسلمين، وقد ثبت ذلك عن علي -رضي الله عنه- في قتال الخوارج، فإنه قال يوم الجمل: «لا تقتلوا مدبرًا، ولا تذفِّفوا على جريح، ولا تقتلوا أحدًا صبرًا، ولا توطأ أم ولد، ولا النساء على عدتهن، والميراث على كتاب الله».

أخرج نحوه سعيد بن منصور في «سننه» (3/389، 390، 391 رقم 2947، 2948، 2950).

روي -أيضًا- أنه قال في يوم الجمل: «لا يذفَّف على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابه فهو آمن، ولا يتبع مُدْبِر».

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/263، 267، 268، 281) -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/181)- من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: أمر عليٌّ مناديه؛ فنادى يوم البصرة: «لا يتبع مدبر ...».

وأخرج نحوه عبدالرزاق في «المصنف» (10/123 رقم 18590) -ومن طريقه ابن حزم في «المحلَّى» (11/101)-، وسعيد بن منصور في «سننه» (3/390 رقم 2948)، وأبو يوسف في «الخراج» (ص234  ط.المكتبة الأزهرية) من طريق جعفر بن محمد، به.

وانظر: «الأحكام السلطانية» (ص60) للماوردي، «البداية والنهاية» (7/245)، «التلخيص الحبير» (4/89 - 90).

وقوله: «ولا يذفف على جريح» (بالدال والذال لغتان) أي: لا يجهز عليه.

انظر: «تهذيب اللغة» (14/73)، «الفائق» (1/403)، «النهاية» (2/64).

قد روي نحو ذلك عن عمار بن ياسر، أخرجه عبدالرزاق (10/124 رقم 18591)، والبيهقي في «الكبرى» (8/181)، وينظر الهامش الآتي.

([8]) هذا -أيضًا- في أحكام قتال أهل البغي، قال أبو محمد بن حزم في «المحلى» (11/101): «ومن انهزم منهم، فإن كانت هزيمته إلى حصن، أو إلى جماعة منهم، أو ليبتعدوا عن الطلب، ويبقوا على رأيهم؛ أُتْبِعوا ولا بُدَّ، وإن كانت هزيمتهم افتراقًا، وتركًا لما هم عليه؛ لم يجز أن يُتْبَعُوا، ولا يُجْهَز على جريح من أحدِ هذه الطوائف، ولا يقتل منهم أسير، فمن قتله فعليه القود»، فلم يفرق أبو محمد في الجريح والأسير بين أن تكون له فئةٌ أو لا تكون، لا يحل قتلهم بحال.

وروي عن ابن عباس وقد سُئل عن أناس من الخوارج قاتلوا فانهزموا: أنقتلهم؟ قال: «اقتلهم ما كانت لهم فئةٌ يرجعون إليها، فإذا لم تكن لهم فئة؛ فلا تقتلوا مقبلًا ولا مدبرًا».

انظر: «الإشراف» (2/390) لابن المنذر، «المغني» (12/252).

لعله إنما يعني: مقبلًا في غير قتال، لا على أن يكون مقبلًا في القتال، فإن كل مقاتل على باطل؛ فلا ينبغي تركه، ولا يجب الكَفُّ عنه، والله أعلم.

والأظهر ما قاله الشافعي في وجوب الكف عن المدبر والجريح المُثْخَن والأسير؛ وهو ظاهر فعل عليٍّ -رضي الله عنه-، ولم يفرِّق بين أن تكون لهم فئة أو لا، واحتجَّ الشافعي لذلك، قال في «الأم» (4/231): «يقول الله -عز وجل- في الفئة الباغية: {... حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل} [الحجرات: 9]، ولم يستثنِ الله -تعالى-، فسواءٌ كانت للذي فاء فئة، أو لم تكن؛ فمتى فاء -والفيئة: الرجوع- لم يحلَّ دمه».

قال أبو بكر بن المنذر: «وقد رُوينا في هذا الباب حديثًا مرفوعًا، في إسناده مقال، ولو كان صحيحًا؛ كانت فيه حجة لمن قال هذا القول»، وذكر بإسناده عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: «لا يُجْهَز على جريحها، ولا يُطلب هاربها، ولا يُقتل أسيرها».

قلت: أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/155) -وعنه البيهقي في «الكبرى» (8/182)-، والبزار في «مسنده» (2/359 رقم 1849 - «كشف الأستار») -ومن طريقه ابن حزم في «المحلى» (11/101 - 102)-، والطبراني في «الأوسط» -كما في «مجمع البحرين» (5/134 رقم 2809)، و«مجمع الزوائد» (6/243)-، وابن عدي في «الكامل» (6/2096)، من حديث كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبدالله بن مسعود... وذكر الحديث.

وقال البزار: «لا نعلمه يُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من هذا الوجه، ولا رواه عن نافع إلا كوثر».

وسكت عنه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: «كوثر متروك»، وقال في «المهذب في اختصارالسنن الكبير» للبيهقي: «كوثر واهٍ»، وقال أبو زرعة: «ضعيف»، وقال ابن معين: «ليس بشيء»، وقال الإمام أحمد: «أحاديثه بواطيل، ليس بشيء»، وقال الدارقطني وغيره: «مجهول»، وقال البخاري: «منكر الحديث».

انظر: «تاريخ ابن معين» (195)، «علل أحمد» (1/170، 249، 294)، «التاريخ الكبير» (7/245)، «الضعفاء الصغير» (102)، «أحوال الرجال» (200)، «ضعفاء أبي زرعة» (2/652)، «ضعفاء النسائي» (228)، «ضعفاء العقيلي» (4/11)، «الجرح والتعديل» (7/176)، «المجروحين» (2/228)، «الكامل» (6/2096)، «ضعفاء الدارقطني» (145)، «ضعفاء ابن شاهين» (161)، «المغني من الضعفاء» (2/534)، «الميزان» (3/416)، «اللسان» (6/426  ط أبي غدة)، «التلخيص الحبير» (4/83 - 84)، «الدراية» (2/139).

وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة.

انظر في مذهب المالكية: «الذخيرة» (12/7)، «عقد الجواهر الثمينة» (3/294)، «جامع الأمهات» (ص512)، «المنتقى» (7/170 - 171) للباجي، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/300).

وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (12/252)، «المقنع» (3/1106) لابن البنا، «الواضح» (2/214)، «رءوس المسائل» (3/1133) لأبي جعفر الهاشمي، «شرح الزركشي» (6/225 - 227)، «شرح المختصر» (2/442) لأبي يعلى، «المبدع» (9/162 - 163)، «رءوس المسائل الخلافية» (5/571 رقم1819).

([9]) هذا على القول بوجوب قسمة الغنيمة، وألف النووي جزءًا بعنوان «وجوب قسمة الغنيمة» رد فيه على ابن الفركاح في رسالته «الرخصة العميمة في حكم الغنيمة»، وذهب فيه إلى عدم وجوب قسمتها، وأيَّد العلماء رأي النووي لموافقته للأدلة الشرعية؛ منهم: تقي الدين السبكي في آخر «حلبياته» (ص541 - 542)، وولده التاج في «ترشيح التوشيح» (2/576)، والزركشي في «السراج الوهاج» (5/597 - 598)، والسيوطي في «الأشباه والنظائر» (62).

وعرض الشيخ محمد قرقود (حفيد السلطان محمد الفاتح) في كتابه «حلّ إشكال الأفكار في حِل أموال الكفار» أدلة الفريقين، وناقشها مناقشة عميقة، وانتصر فيها للإمام النووي، ومنه نسخة في آياصوفيا، رقم (1142)، ويا ليتها تجمع الجهود في هذه المسألة في مجموع واحد.

وانظر في المسألة: «الاعتصام» (1/184) للشاطبي، «الإنجاد» (2/504 - 517) لابن المناصف، «اللطائف في أمر الوظائف» (2/615 - 618) رقم (561) لعبدالقادر النعيمي وتعليقي عليها؛ ففيه مزيد إيضاح وبيان لها.

([10]) هذه عبارة محمد حسين هيكل في كتابه «حياة محمد -صلى الله عليه وسلم-» (252).

وأخرجه مالك في «الموطأ» (رقم1447  رواية أبي مصعب الزهري، ورقم 262  رواية يحيى الليثي، ورقم2  رواية ابن القاسم، ورقم 621  رواية الحدثاني)، ومن طريقه البخاري في «صحيحه» في (كتاب الحج، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) (رقم1846)، وفي (كتاب الجهاد والسير، باب قتل الأسير وقتل الصبر) (رقم3044)، وفي (كتاب المغازي، باب أين ركز النبي -صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح؟) (رقم4286)، وفي (كتاب اللباس، باب المغفر) (رقم5808)، ومسلم في «صحيحه» في (كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام) (450) (1357) من طرقٍ عن مالك عن ابن شهاب، عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، ابنُ خطَل متعلِّق بأستار الكعبة! فقال: «اقتلوه».

وأخرجه جمعٌ كبير عن مالك -أيضًا-، انظر: تحقيقنا لكتاب «الحنائيات» (رقم1)؛ فقد فصَّلنا في التعليق عليه بيان ذلك، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

.