القدس والأقصى / خطب مقدسية
مكانة القدس في الإسلام
الشيخ : ناظم المسباح - حفظه الله
إمام وخطيب، ومستشار في وزارة العدل، ومأذون شرعي، ووكيل مدرسة، وعضو لجنة البحث العلمي في جمعية إحياء التراث الإسلامي -دولة الكويت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد..، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..
أما بعد..، موضوع خطبتنا في يومنا هذا إن شاء الله تعالى: «مكانة القدس في الإسلام» ماهي مكانة القدس عند المسلم السوي الملتزم بدينه بحق، عباد الله، مكانة القدس في قلب المسلم عظيمة، فهي تحتل المرتبة الثالثة بعد مكة والمدينة، يا مسلمون، هل يحق للمسلمين أن يرضوا بتدنيس مكة؟! لا... هل يحق للمسلمين أن يرضوا بتدنيس المدينة؟! لا... لماذا؟! وذلك لما لهما من مكانة عظيمة في الدين، فكيف يسكت أو يرضى المسلمون بتنديس القدس من قبل الصهاينة المعتدين؟!؟ هل نسي المسلمون منزلة القدس في دين الله تعالى؟!؟ عباد الله، من المسلمين من يجهل ذلك، ومنهم من غفل عنها ونسيها، وذلك بانشغاله بحظوظ نفسه وتعمير دنياه، ومنهم من تناسى ذلك، فأقول للذين يجهلون مكانة القدس، وللذين غفلوا عنها، وانصرفوا عن المطالبة بها، تعالوا أيها الأحباب، نذكر أنفسنا جميعاً بمنزلة القدس في الإسلام، وذلك بما ورد في القرآن العظيم، وفي السنة المطهرة، على صاحبها أفضل الصلاة، وأتم التسليم، لعل هذه النصوص تثير فينا النخوة، وتنفخ فينا الروح، لنعمل شيئاً لنجدة ونصرة القدس، وفق قدرتنا ووسعنا وطاقتنا، {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}(البقرة/256) ولعل الله يبارك في هذه الجهود القليلة.
أيها المسلمون، الأحاديث النبوية في فضائل المسجد الأقصى، وأرض بيت المقدس متعددة الجوانب، إلا أن حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال شيخنا الألباني وهو كما قالا يقف عنده المتمعن وقفات، ففيه من دلائل النبوة الشيء العظيم لما أخبر الصادق المصدوق عن حال ما سيئول إليه المسجد الأقصى، وتعلق قلوب المسلمين به، وأن مؤامرات الأعداء على المسجد الأقصى وبيت المقدس ستزداد لردجة أن يتمنى المسلم أن يكون له موضع صغير يطل منه على المسجد الأقصى أو يراه منه، ويكون ذلك عنده أحب إليه من الدنيا وما فيها.
حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه -أي المسجد الأقصى- ولنعم المصلى هو»، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شَطَنِ فرسه من الأرض -الشطن: الحبل- حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً، أو قال خير له من الدنيا، وما فيها»(السلسلة الصحيحة/2902).
أولاًَ : هذا الحديث من أعلام النبوة، لأن فيه بشارةً بفتح بيت المقدس قبل أن يفتح بيت المقدس مع أنه لم يفتح في زمنه عليه الصلاة والسلام، ولكن بشر في ذلك، وُفتح في عهد الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه.
فائدة ثانية: في هذا الحديث: اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم في السؤال عن المسجد الأقصى وأجر الصلاة فيه.
ثالثاً: الحديث فيه دلالة بالغة على مكانة المسجد في نفوس المسلمين، بل على مكانة المسجد الأقصى في الشرع الإسلامي.
رابعاً: فيه ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد الأقصى المبارك.
خامساً: وفيه أجر الصلاة في المسجد الأقصى بمئتين وخمسين صلاة إذا صليت فرضاً في المسجد الأقصى، هذا الفرض عن مئتين وخمسون صلاة.
سادساً: فيه دلالة واضحة على أن قضية الأقصى ستبقى حيةً في نفوس أبناء هذا الدين، لا يزعزع اعتقادنا بذلك أنكار الأعداء وافتراءات المعتدين.
سابعاً: فيه إشارة إلى عظم المسئولية الموكولة لأهل أرض الأقصى.
ثامناً: وهناك لفتة مهمة قد يأتي زمان لا يستطيع أحد من المسلمين الإقامة حول الأقصى.
تاسعاً: إن نسخ القبلة الأولى، المسجد الأقصى، لم يلغ منزلتها الشرعية في الإسلام ولم يجعل -أي المسجد الأقصى- كغيره من مساجد المسلمين، بل بقيت منزلته محفوظة.
أخيراً: إن قضية بيت المقدس، والمسجد الأقصى، لا تنفصل أبداً عن قضية الإسلام الكبرى، وها نحن نعيش في زمن نلمس فيه صدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما سيكون عليه المسجد الأقصى، والمتتبع لأحواله في ظل الإحتلال اليهودي الحاقد والأحداث اليومية والممارسات الصهيونية يوقن بصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يسعون بكل الطرق لتفريغ المسلمين منه، وتهجيرهم والتضييق عليهم وذلك بالإجراءات الآتية:
أولاً: الأطواق حول الأقصى المتمثلة بالمستعمرات التي ينشئها اليهود حول بيت المقدس وتزداد يوماً بعد يوم.
- غلاء الأرض حوله غلاء فاحشاً.
- الحصار الاقتصادي على مدينة القدس.
- طرد أهله منه.
- خطورة السكن حول بيت مقدس، فالمصلون في زماننا هذا لا يأمنون على حياتهم من الذهاب للصلاة فيه والإياب منه لبيوتهم، لذلك تجد صف، أو صفين فيه الآن. وكل هذا من مخططات أعداء الله اليهود قاتلهم الله.
هناك خصائص عامة لبيت المقدس:
أولاً: البركة، هذه البقعة بقعة مباركة، الذي قال ذلك ليس الفلسطينيون، وليس هو تأليف من عندنا، الذي قال ذلك ربكم الذي تؤمنون به، وصف هذه البقعة بالبركة. لقد مَنَّ الله على أرض بيت المقدس وما حوله من بلاد الشام بالبركة، ولقد نص على ذلك في كتاب الله: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} هذا في سورة الإسراء، وفي سورة الأنبياء يقول سبحانه : {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها،-أرض الشام، أرض فلسطين،- وكنا بكل شيء عالمين}، قال أهل العلم في تفسيرها، أي لسليمان عليه السلام تسخير الريح تهب بشدة وتجري بسرعة إلى الأرض التي باركنا فيها وهي أرض الشام عموماً وفلسطين على وجه الخصوص.
ما معنى البركة التي أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه عن هذه الأرض؟ البركة في اللغة النمو والزيادة والخير. إن البركة الحسية لهذه الأرض الطيبة منشؤها من الله تعالى، فلقد بارك الله في أرضها بالخصب، أرض خصبة، وبالثمار والأشجار والأنهار وعذوبة المياه والسهول كذلك وفي الجبال. وصدق الله تبارك وتعالى {ومن أصدق من الله قيلاً}(النساء/122)، ومن البركة كذلك الموقع الإستراتيجي، بموقعها الإستراتيجي بيت المقدس بين قارتين عظيمتين، آسيا وأفريقيا، فالبوابة ما بين هاتين القارتين هي فلسطين فلهذه الأرض. موقع استراتيجي. وهذا كذلك من البركة. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله المفسر المشهور في تفسيره قوله تعالى {باركنا حوله} سورة الإسراء آية (1) : أي بالزروع والثمار. والذي يريد الإستزادة كما قال بعض أهل العلم عن مظاهر البركة الحسية قديماً وحديثاً فليراجع ما كتب عن جغرافية أرض فلسطين، والتي يعتبرها اليهود أنها الأرض التي تدر الحليب والعسل، هذه البركة الحسية.
هناك بركة معنوية في هذه الأرض:
أولاً : القدسية.
ثانياً: كونها ملجأ أنبياء الله عندما اضطهدوا وفرّوا مهاجرين إلى بيت المقدس.
1- إبراهيم فر من العراق عندما اضطهد إلى أرض فلسطين.
2- لوط عليه السلام فر كذلك إلى أرض بيت المقدس.
3- موسى عليه الصلاة والسلام فر كذلك إلى أرض بيت المقدس لكنه مات قبل أن يدخلها، فهي ملجأ أنبياء الله عند اضطهادهم.
ثالثاً: بسط الملائكة أجنحتها للشام، وهي جزء من الشام، وهذا ورد في أحاديث صحيحة.
رابعاً: في فلسطين مرقد الأنبياء بأدلة صحيحة، إبراهيم أبو الأنبياء، أبينا، الذي أمرنا الله تبارك وتعالى باتباع ملته في أرض فلسطين كما ذكر ذلك ابن تيمية ونحن وأنتم أَولى بإبراهيم من اليهود كما قال سبحانه: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حينفاً مسلماً وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، -أنتم أتباعه-، وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}(أل عمران/67-68) فنحن أَولى بإبراهيم من اليهود وغيرهم.
موسى، ثبت في حديث مسلم الصحيح ،أنه دعا ربه أن يقربه من بيت المقدس عندما جاءه ملك الموت،فقال «... فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية حجر» رواه مسلم، فهذه أرض الأنبياء كما قال ابن كثير: هي معدن الأنبياء والمرسلين. (هي أرض المحشر والمنشر) كذلك في حديث صحيح يأتي ذكره بعد قليل. كذلك موسى عليه الصلاة والسلام وصف بيت المقدس بالأرض المقدسة المطهرة {ياقوم، ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}(المائدة/21) قال أهل العلم: فإطلاق موسى عليه السلام لفظ الأرض المقدسة إنما أطلقه على فلسطين، وفي الإسلام فإن المقدس يكون له بركة كذلك هذه البقعة مما ورد فيها كما قلنا بسط الملائكة أجنحتها الدائم على هذه البلاد.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا طوبى للشام قالوا يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطة أجنحتها على الشام» وهذا الحديث رواه الترمذي وصححه الألباني فهو حديث صحيح.
خامساً: مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكة موجودة، والمدينة موجودة لِمَ عندما أراد الله تبارك وتعالى أن يسري برسوله عليه الصلاة والسلام أسرى به من مكة إلى هذه البقعة إلى بيت المقدس. وعندما أراد أن يصعد به إلى السموات العلى لم يختر بوابة إلا بيت المقدس، فهو البوابة التي صعد منها رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلى، وذلك لتشريف هذه البقعة ولمكانتها.
عباد الله، بعد أن رجع عليه الصلاة والسلام من المعراج، جمع الله تبارك وتعالى له جميع الأنبياء وصلى بهم إماماً في هذه البقعة الطيبة المباركة. ماذا يعني هذا في نفوس المسلمين؟
أيها الأخوة وأيها الأحبة؛ هذه البقعة تشد لها الرحال، فشد الرحال للمسجد المسجد الأقصى نصلي فيه تقرباً إلى الله تبارك وتعالى. فالنبي يقول: «لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا- يقول عليه الصلاة والسلام- «والمسجد الأقصى»(متفق عليه) هذه البقعة، المسجد الأقصى من أقدم البقاع التي بنيت لطاعة الله ولعبادة الله، «سئل الرسول أي مسجدٍ وضع أول؟ قال المسجد الحرام، قيل ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قال كم بينهما؟ قال أربعون سنة»(متفق عليه) فهذه البقعة من أقدم البقاع التي بنيت ووضعت لعبادة الله تبارك وتعالى.
بيت المقدس القبلة الأولى، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمره الله بالصلاة في بداية الأمر أن يتوجه إلى بيت المقدس. وعندما كان في مكة يصلي ما بين الحجر ومقام الركن اليماني يصلي في هذه الجهة حتى يصيب أمرين، قبلة أبيه إبراهيم، والقبلة التي أمر بها، ثم بعد ذلك تحولت القبلة إلى بيت الله الحرام، وهذا التحويل لايقلل يا عباد الله من منزلة المسجد الأقصى.
أيها الأخوة: وأيها الأحبة: لا ينفك مسلم سويّ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله عن هذه البقعة الطيبة إلا إذا انسلخ عن الدين، أو انسلخ عن إسلامه.
أيها الأخوة وأيها الأحبة.. اليهود قاتلهم الله وأخزاهم الله، يدَّعون أن لهم الرابطة في هذه البقعة، ويبذلون المال، يضحون بالدماء وبالأموال، وبالوقت من أجلها، ويخططون الليل والنهار، هذه الدعوة في هذه الرابطة التي يدعون بها مبنية على أسس واهية الأدلة، أوهن من بيت العنكبوت، من حيث الضعف، أيها الأخوة. رابطتنا في هذه البقعة عظيمة. ولكن انظروا لواقعنا وحالنا، نسينا هذه البقعة، لانسمع من يكتب!! لا نسمع من يتحدث!! لا نسمع من يطالب!! كنا نسمع بلجنة القدس، دفنت لجنة القدس. ما الذي أصاب المسلمين، ما الذي أصابنا يا مسلمون ؟! ما هذا البلاء وما هذا الداء؟! نشكوا إلى الله تبارك وتعالى ما أصاب أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنى وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحيكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.