القدس والأقصى / خطب مقدسية

فضـــــــائل الشــــــام

هشام بن فهمي بن موسى العارف - حفظه الله

 نائب رئيس جمعية القرآن والسنة، ومدرس في المسجد الأقصى - القدس – فلسطين

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

الله عز وجل جعل في الناس من هُمْ من خيرته، وجعل أيضاً في بعض مخلوقاته أفضل من البعض فجعل بقاعاً أفضل من بقاع ، وجعل الأنبياء أفضل الناس وذلك لمراتب، وفيها ابتلاءات، والنبي محمد [ جمع صفات طيبة، وسمات عظيمة، وعيّن هذه الأشياء إلى قيام الساعة، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم من نسل إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء الذي كان من نسله، إسحاق الذي كان من سارة، وإسماعيل الذي كان من هاجر، ومن نسل إسحاق كان يعقوب وهو إسرائيل، ومن نسل يعقوب كان يوسف، ثم كان موسى ثم كان داوود وسليمان ثم كان آل عمران ومنهم مريم، ثم ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى عليه السلام ثم لما تآمر كفار بني إسرائيل على عيسى رفع الله عيسى، ورفع معه النبوة من بني إسرائيل، وجعلها في العرب، وجعلها عند محمد صلى الله عليه وسلم.

 

وإبراهيم دعا قومه إلى التوحيد في بلاد الرافدين، وصبر على آذاهم وجعلوا له النار، ثم بعد ذلك هجرهم وقال {إني ذاهب إلى ربي سيهدين}(سورة الصافات/99)، فكان أن أبدله الله عز وجل ببلاد خيراً من بلاده الأولى، وأعطاه النسل الصادق الصحيح الذي كان منه كل الأنبياء إلى عيسى عليه السلام، وإبراهيم نشط في الدعوة إلى التوحيد ،كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم نشط في (دعوة الناس إلى عبادة الله عز وجل) ولذلك أقام إبراهيم في بيت المقدس يدعو إلى توحيد الله عز وجل ،وانتقل بأمر الله عز وجل إلى مكة إلى المسجد الحرام حيث كانت دعوته أيضاً إلى التوحيد، وكان هذا الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى منذ إبراهيم عليه السلام، وكان ينتقل إبراهيم بين المسجدين على البراق(رواه الحافظ ابن حجر في الفتح وحسنه) الذي هو نفسه حمل محمداً صلى الله عليه وسلم وأسري به إلى المسجد الأقصى، وهذا التشابه في دعوة إبراهيم أبي الأنبياء أولاً ، ثم محمد خاتم النبيين صلى الله عليهما وسلم، تشابه له معناه وله مغزاه، وهو أن الله عز وجل يعلم أن هناك أناساً يخرجون عن دين الله عز وجل، ويحيدون ويُحرِّفون ويُعطِّلون ويزيِّفون ويتلاعبون بالتأريخ والسير وما أنزل الله عز وجل، لذلك بدأ إبراهيم الدعوة إلى التوحيد كما أمر الله عز وجل، وبَينَّه ناصعاً واضحاً، ثم تسلسل الناس بهذا التأريخ إلى عهد عيسى حتى كفر بنو إسرائيل فبقيت اليهود والنصارى، ثم بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم في العرب فأعاد ما نادى به إبراهيم عليه وسلم، وأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكان المسجد الأقصى قبلة الأنبياء كلهم، والمسجد الحرام كان قبلة النبي صلى الله عليه وسلم ثم من بعده أمته، هذا الربط وهذا الأمر، يجعل هناك تشابهاً قوياً بين إبراهيم ومحمد عليهما السلام ولقد قرن الله عز وجل ذكرهما في كثير من المواضع في الصلاة قبل أن نسلم، فنصلي على إبراهيم ونصلى على محمد ونبارك على إبراهيم ونبارك على محمد صلى الله عليهما وسلم.

 

وعن أبي ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم «أيُ مسجدٍ وُضعَ في الأرض أولاً؟ قال: المسجدُ الحرام ، قال: ثُمَ أي؟ قال: المسجدُ الأقصى، قال: كم بينهما؟ قال: أربعين سنة »(متفق عليه)، في هذه الدائرة أن بلاد الشام مهجر إبراهيم، وبلاد الشام موطن دعوة التوحيد لكافة الأنبياء من ذرية إبراهيم من نسل إسحاق، ولذلك كان لبلاد الشام خاصية مهمة أسري من أجلها بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، لتتضح هذه الأهمية وتزداد بيانها للناس، والقاسم في هذه المسألة هو الدعوة إلى التوحيد، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما علَّم صحابته ونظَّف الجزيرة من الشرك والكفر، عقد لواء الفتح لبلاد الشام، وهذا الذي استنه كثير من الفاتحين، أن أول فتح على المسلمين أن يتوجهوا فيه إلى فتح بلاد الشام، لأن المسجد الأقصى فيه منارة لدعوة التوحيد، ولعل الله عز وجل كتب أن في بلاد الشام حلبة صراع قوية بين أهل التوحيد، أهل الحق من جهة، وأهل الشرك والباطل من جهة أخرى، إذن كان المسجد الأقصى منارة لدعوة التوحيد فدعا فيه إبراهيم عليه السلام إلى التوحيد وبهذه الدعوة ،وعلى هذا المنهج الحق كان ولده إسحاق عليه السلام ومن ورائه يعقوب عليه السلام وهي أي : أرض فلسطين من بلاد الشام محل عظام يوسف عليه السلام، وسار إليها موسى عليه السلام فاتحاً لولا خذلان قومه، فسأل الله عز وجل: «أن يدنيه منها رَمْيَة ًبِحَجَرٍ»(متفق عليه)، أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، وأنه من قارب الشيء يُعطى حكمه، ثم لما رجع بنو اسرائيل إلى دينهم والتفوا حول يوشع، وهو فتى موسى، قادهم إلى فتح الأرض المقدسة، فخرج فيهم من التيه فاتحاً بيت المقدس، فكانت نواميس الكون مسخرة لهذا النبي الفاتح بإذن الله تعالى، إذ لم تُحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس(رواه أحمد)، لذلك فبلاد الشام وعاصمتها بيت المقدس حلبة صراع بين طائفتين من الناس طائفة الحق وطائفة الباطل وكان النصر باستمرار حليف طائفة الحق، نصراً بحجة اللسان ونصراً بالسنان.

 

فأقام بنو اسرائيل شرع الله فيها، لكنهم في الوقت الذي كانوا يخالفون فيه أوامر الله تعالى ويشركون في عبادة الله كان الله عز وجل يعاملهم بذنوبهم معاملة قاسية ،يسلط عليهم الأعداء، لعلهم يرجعون، ومن رحمته لهم، أنه كان يبعث فيهم الأنبياء يهدونهم إلى الحق ويصرفون عنهم المقت، وأيضاً في بيت المقدس -عاصمة الشام- كان داوود عليه السلام وابنه سليمان عليه السلام الذي لما بنى المسجد الأقصى -أي أعاد تجديده - «سأل الله أن لا يأتيه أحد لا يَنْهَزُهُ إلا الصلاة فيه أن يخرجه كما ولدته أمه»(أخرجه النسائي والحاكم)، أن يخرجه من خطيئته، من ذنوبه كما ولدته أمه.

 

وهكذا كان بنو إسرائيل يترددون بين الحق تارة وبين الباطل تارة أخرى، والله يسعهم في رحمته، ويبعث فيهم النبي تلو النبي. فكان فيهم زكريا، ويحيى صلى الله عليهما وسلم، ثم كانت الصدّيقة مريم ومنها كان نبي الله عيسى عليه السلام الذين من أسباب رفعه إلى السماء قيام الحجة على قومه، وبرفعه إلى السماء رفعت النبوة من بني إسرائيل ،فأصبحت في العرب حيث بُعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ولما بعث النبي ودعا إلى التوحيد في الجزيرة، أُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى، وصلى فيه بالنبيين والمرسلين إماماً، وكذب كفار قريش كما كذب كفار بني إسرائيل رسلهم، فكذبوا محمداً أنه أَسْرى به الله إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماء.

 

إذن كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وابتداء النبوة له بها، ونزل الكتاب عليه بمكة، ثم أُسْرِيَ به إلى الشام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم رجع إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة، ثم في آخر عمره كتب إلى الشام وإلى هرقل وإلى كثير من أتباعه ثم غزا بنفسه غزوة تبوك، ثم رجع ثم بعث سرية إلى مؤتة، ثم بعث جيش أسامة فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجهم ثم ابتدأ أبو بكر الصديق بفتح الشام واستكمل في زمن عمر رضي الله عنهما.

 

فالدارس لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الأنبياء كلهم يفهم أن الدعوة إلى التوحيد تلقى في بلاد الشام أهمية ولعل النبي صلى الله عليه وسلم عين بوحي الله له عين الخيرية في بلاد الشام والبركة في بلاد الشام، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة كتاب-مناقب الشام وأهله: «ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي للمسلمين على غزو التتار، وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي للعسكر المصري إلى الشام، وتثبيت العسكر الشامي فيه، وقد جرت في ذلك فصول متعددة فيه»ا.هـ

 

فالمسلمون الموحدون أحق الناس بعمارة الأرض المباركة، والشام أشبه ما تكون بلد جهاد إلى قيام الساعة، لأن أعداء الله لن يكفوا عنها، فكان الترغيب للسكنى فيها، والرباط والدعوة إلى التوحيد، ومؤازرة من فيها من أهل الحق عنواناً مهماً في حياة المسلم، ولأنها كما ذكرنا حلبة الصراع بين الحق والكفر فهي مركز قيادة الناس إلى الخير الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة»(أخرجه الترمذي والطيالسي). وهذه الطائفة هي أهل العلم بالآثار، ومن تبعهم واقتدى بالسلف الصالح رضوان الله عنهم عقيدة ومنهجاً.

 

والربط الذي بَيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم على أرض الشام حديث، لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال : قلت: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم -أبو الأنبياء - وبشرى عيسى آخر أنبياء بني اسرائيل- ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام»( رواه أحمد). دعوة محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم قول الله عز وجل يذكر دعاء إبراهيم عليه السلام {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحيكم}(سورة البقرة/129)، وقوله صلى الله عليه وسلم «وبشرى عيسى» هو قوله تعالى في سورة الصف يذكر عيسى بن مريم عليه السلام حيث قام في بني اسرائيل خطيباً وقال: {إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد}(سورة الصف/6). قال ابن كثير في تفسيره: «وتخصيص الشام بظهور نوره، إشارة إلى استقرار دينه، ونبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله ،وبها ينزل عيسى بن مريم».

 

ومن أحاديث فضائل الشام حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله استقبل بي الشام، وولى ظهري اليمن ثم قال لي: يا محمد إني قد جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقاً، وما خلف ظهرك مدداً، ولا يزال الله يزيد -أو قال- يعز الإسلام وأهله وينقص الشرك وأهله حتى يسير الراكب بين كذا -يعني البحرين- لا يخشى إلا جوراً وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل»(أخرجه الطبراني في الكبير).

 

قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: «والنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير أهل الشام من أرض الإسلام ، فإن الحجاز التي هي أصل الإيمان، نقص في آخر الزمان منها العلم والإيمان ، والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق، وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومن يقاتل عليه، منصور مؤيد في كل وقت»(الفتاوى 4/449)ا.هـ، ولذلك يحدث عمير بن هانئ أنه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم ظاهرون على الناس، فقام مالك بن يخامر السكسكي فقال: يا أمير المؤمنين سمعت معاذ بن جبل يقول: وهم أهل الشام، فقال معاوية ورفع صوته هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم أهل الشام»(رواه البخاري).

 

ومن الأحاديث في فضل الشام وأهله أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، يا طوبى للشام ،قالوا: يا رسول الله ولم ذلك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطوا أجنحتها على الشام»(أخرجه الترمذي والحاكم).

 

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا، قال: «اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ -المقصود بنجد هنا، بلاد العراق وجهات إيران- قال : هناك الزلازل والفتن وبها، أو قال: منها يخرج قرن الشيطان»(أخرجه البخاري).

 

وعن عبدالله بن حوالة الأسدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستُجنَّدون أجناداً ، جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن ،قال عبدالله: فقمت فقلت: خر لي يا رسول الله، فقال: عليكم بالشام، وفي رواية: عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها حزبه من عباده، فمن أبى فليلحق بِيَمَنِهِ وليستق من غُدُرِهِ فإن الله عز وجل قد تكفل، وفي رواية: توكل لي بالشام وأهله»(رواه أبو داود وأحمد والحاكم).

 

وفي حديث أخر يحدث به أبو أمامة الباهلي قال: «لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام ، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالشام»(رواه أحمد).

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا وقعت الملاحم بعث الله من دمشق بعثاً من الموالي أكرم العرب فرساً وأجودهم سلاحاً يؤيد الله بهم الدين»(رواه ابن ماجه والحاكم).

 

ويحدث النواس بن سمعان الكلابي مرفوعاً: «ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق»(رواه مسلم).

 

وفي حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ستخرج نارٌ قبل يوم القيامة من بحر حضرموت، أو من حضرموت تحشر الناس، قالوا: فبم تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام»(رواه أحمد والترمذي).

 

ومن مناقب، أهل الشام حديث جابر بن عبدالله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم : تعال صلى بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله عز وجل هذه الأمة. وفي رواية صحيحة : أن أميرهم المهدي»(رواه مسلم).

 

وفي رواية عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل أخرهم المسيح الدجال»(رواه أحمد وأبو داود). لذلك جاءت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالشام إذا وقعت الفتن، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني رأيت عَمودَ الكتاب انْتُزِعَ من تحت وسادتي، فنظرتُ فإذا هو نورساطعٌ عُمِدَ به إلى الشام، ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام»(رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية). قال الشيخ العز بن عبدالسلام: أخبر صلى الله عليه وسلم أن عمود الإسلام الذي هو الإيمان يكون عند وقوع الفتن بالشام، بمعنى أن الفتن إذا وقعت في الدين كان أهل الشام برآء من ذلك ثابتين على الإيمان، وإن وقعت في غير الدين كان أهل الشام عاملين بموجب الإيمان، وأي مدح أتم من ذلك.

 

إذن: النبي صلى الله عليه وسلم وصل أرض الشام حين أسري به، وصلى في المسجد الأقصى، وصلى بالنبيين والمرسلين إماماً فيه، وبشر بفتح بيت المقدس، وكتب بنفسه إلى الشام وإلى هرقل وإلى كثير من أتباعه ، ثم غزا بنفسه غزوة تبوك ثم رجع ثم بعث سرية إلى مؤتة ثم بعث جيش أسامة ثم ابتدأ أبو بكر بفتح الشام واستكمل في زمن عمر رضي الله عنهما.

 

وهنا سؤال: كيف فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد الشام ؟ أخرج الحاكم في المستدرك عن طارق بن شهاب قال خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة ،وهذا الحديث قال الحاكم(السلسلة الصحيحة/51) صحيح على شرط الشيخين ووافقاه الذهبي والألباني فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه ،وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا تخلع خفيك وتضعهما على عاتقيك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك. فقال عمر : «أوه، لو يقول ذا غيرك يا أبا عبيدة جَعَلتُهُ نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إنَّا كُناَّ أَذَّلَ قومٍ فأعزنا الله بالإسلام ،فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله».

 

واليوم تعيش الشام وقد عطل فيها شرع الله، وانتشر الفساد بشتى صوره، وتسلط عليها الأعداء، إننا اليوم بحاجة إلى بعث جديد، يعيد المجد والعز، ولا يبقي الذلة والهوان، بعث يعيد لهذه الأمة الإمامة في الأرض، ولن يتأتى ذلك إلا إذا عُبِدَ اللهُ عز وجل حق العبادة، وحمد حمداً كثيراً، وتخلق أهل هذا الدين بالوفاء الذي تخلق به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وتمسكوا بأوامر الله الواردة في كتابه وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فجاهدوا في الله من أجل ذلك، حق الجهاد، وأعدوا لذلك كله العدة.

 

فاهتموا بتربية أبنائكم على هذا الدين، واجلسوهم مجالس العلم الصحيح النافع، وشمروا في سبيل الله داعين، واضعين نُصب أعينكم دائماً فهم السلف الصالح لهذا الدين، طاردين من أذهانكم فكر كل ضال وطالح غير أمين، رادين كل خلاف بينكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ملتفتين إلى خصوم الدين بردعهم وردع الحانقين الناقمين والمبتدعين، ظاهرين على الحق لا يضركم من خذلكم ولا من ناوأكم، تُبيّنون للناس الحق كما فهمه الأوائل الأقدمون، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا تخشون في الله لومة لائم، قال ابن رجب: وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعاً وكفّر بعضهم بعضاً ، وأصبحوا أعداء وفرقاً وأحزاباً بعد أن كانوا إخواناً قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينجو من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم :«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك »(رواه مسلم).

 

قال الإمام الصابوني في كتابه عقيدة السلف: «وأصحاب الحديث عصامة من هذه المعايب بريئة زكية نقية، وليسوا إلا أهل السنة المضية، والسيرة المرضية، والسبل السوية، والحجج البالغة القوية، قد وفقهم الله جل جلاله لاتباع كتابه ووحيه وخطابه، واتباع أقرب أوليائه، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم في أخباره التي أمر بها فيها أمته بالمعروف، من القول والعمل، وزجرهم فيها عن المنكر منهما، وأعانهم على التمسك بسيرته، والاهتداء بملازمة سنته».

 

وأختم قولي إلى التنبيه، إلى أهمية وفضيلة بلاد الشام، وفضيلة وخيرية من كان على منهج السلف الصالح من أهلها، ولعل أعداء الله عز وجل فهموا قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم»، فهم يسهرون على إفساد أهل الشام وتحزيب الناس، ولعلهم يربون فيهم المعاصي والإفساد، وجعلوا شوكة أرذل الناس فيها، وهم المغضوب عليهم اليهود، ولذلك فعلى المسلم حين يدعو إلى التوحيد في أي بلد كان أن يراعي أهمية بلاد الشام ، لأنها منطقة فيها صراع واضح بين الحق والباطل، ولعل أهل الباطل يتحدون على أرض الشام ضد أهل الحق، وعلى أهل الحق أن يتفطنوا لهذا فيعدوا العدة، بفهم الدين والعمل الصالح. وقد يقول قائل: ما هي الخيرية، بوجود الأرض، أو بوجوده على هذه الأرض في فهمهم للكتاب والسنة والعمل الصالح؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقاً، بل يُعطي كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان، في إيمانه، وعمله الصالح، والكلم الطيب»، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

.