القدس والأقصى / عين على الاقصى
صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل قيام دولة فلسطين (2)
الحركة الصهيونية الحديثة
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالصهيونية حركة سياسية عنصرية ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين، واسم الصهيونية مشتق من اسم "جبل صهيون"، وهو جبل في القدس حيث بنى داود -عليه السلام- قصره بعد انتقاله من حيرون (الخليل) إلى بيت المقدس في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، فالاسم يرمز إلى مملكة داود -عليه السلام-، وإعادة تشكيل هيكل سليمان -عليه السلام- من جديد، بحيث تكون القدس عاصمة لها.
أما مصطلح "الصهيونية": فقد ظهر لأول مرة على يد الكاتب الألماني "ناثان برنباوم" عام 1893م.
كان أغلب اليهود ينظرون إلى أنفسهم كأبناء دين واحد موزعين مثل أبناء العديد من الأديان هنا وهناك في أنحاء العالم، لكنهم ينتظرون ملكًا يوحدهم ويقيم لهم مملكة يحكمون العالم من خلالها، وقد ظهرت عبر التاريخ دعوات لإقامة دولة لليهود في فلسطين وإعادة بناء هيكل سليمان -عليه السلام-؛ فلم يُكتب لها النجاح، وجاء تأثيرها محدودًا.
أما الحركة "الصهيونية الحديثة" في القرن التاسع عشر فلم تظهر عبثًا، بل تبلورت تأثرًا بنزعتين كبيرتين سادتا أوروبا في ذلك الوقت:
1- النزعة القومية: حيث كانت أوروبا تموج بالدعوة إلى القوميات، وتمجيد الأعراق، فكان الألمان أو الإنجليز أو الروس يعتبرون أنفسهم أعظم أمة وأرفع عرق.
2- النزعة الاستعمارية: حيث رأت أوروبا في تطورها العلمي والصناعي والعسكري ما يجعلها الحضارة المثالية القدوة التي من حقها السيطرة على سائر العالم الغارق في الضعف والتشتت، واتجه الاستعمار الأوروبي فيما اتجه إليه إلى الشرق حيث دب الضعف في الدولة العثمانية التي تحكمه.
وقد أقحمت الحركة الصهيونية نفسها في هذا الإطار بتبني هاتين النزعتين، وتطبيقهما على اليهود، فلم يأتِ هذا التحرك اليهودي القومي الاستعماري من فراغ، فهذا "هرتزل" -أبو الحركة الصهيونية الحديثة- يبني نظرته للمسألة اليهودية على أن:
- اليهود يشكلون أمة واحدة أيًّا كان البلد الذي يعيشون فيه.
- اليهود هدفًا للاضطهاد في كل زمان ومكان.
- لا يمكن لليهود أن يندمجوا في نسيج أي أمة يعيشون فيها.
وعلى ذلك فينبغي إنشاء دولة يهودية يتجمع فيها كل يهود العالم لتكوين دولة قومية لليهود على نمط القوميات التي انتشرت في أوروبا وقتها، وينبغي إنشاء هذه الدولة في مكان شاغر، كما هو الفكر الاستعماري السائد في أوروبا وقتها، أي عدم إقامة أي اعتبار للسكان الأصليين في هذا المكان على أن يكون المنطلق منطلقًا عرقيًّا مستمدًا من فكرة أن اليهود شعب مختار، وإعطاء هذه الفكرة مضمونًا أيدلوجيًّا سياسيًّا يخدم مشروعهم القومي الاستعماري.
ويدل على هذه النزعة الاستعمارية للحركة الصهيونية الحديثة قول "هرتزل" في كتابه "الدولة اليهودية": "بالنسبة لأوروبا سنقيم هناك -أي في فلسطين- جزءًا من السور المضاد لآسيا، وسنكون حراس الحضارة المتقدمة الموقع ضد البربرية".
والبربرية: هي الوصف الذي يطلقه المستعمرون الأوروبيون على الشعوب المستضعفة التي يستعمرونها، وكتب -"هرتزل"- في رسالة موجهة إلى رائد الاستعمار البريطاني قي إفريقية "سيسل رودس" الذي حملت "روديسيا" اسمه، يقول له: "أرجوك أن ترسل لي نصًّا جوابيًّا تعلمني فيه أنك درست برنامجي، وأنه يحظى بموافقتك، تتساءل ربما لماذا أتوجه إليك يا سيد "رودس"؟ أتوجه إليك؛ لأن برنامجي هو برنامج استعماري!".
فلسطين أو غيرها:
رغم الحلم التاريخي لليهود بمملكة يحكمون منها العالم من "القدس" كما كان عليه أتباع هذا الدين الأوائل في عهد داود وسليمان -عليهما السلام-؛ فإن رواد الحركة الصهيونية الحديثة لم يقصروا خيارهم في إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، بل كانوا متقبلين لإقامة هذه الدولة في أي مكان مناسب يسمح لهم بإقامة دولة لليهود فيه.
فهذا "ليو بنسكر" المؤسس الفكري الأول للحركة الصهيونية، وهو مؤسس جمعية "أصدقاء صهيون" التي مدت فروعها من روسيا إلى سائر أوروبا الشرقية، وأرسلت دفعة من اليهود إلى "فلسطين" يوصي مبينًا صفات الأرض المناسبة لإقامة الدولة اليهودية: "إن الأرض التي يجب أن نحصل عليها يجب أن تكون خصبة ذات موقع ملائم، وواسعة بما فيه الكفاية؛ لتستطيع استيعاب بضعة ملايين من الناس"، أي أن فلسطين ليست الخيار الوحيد.
و"بنسكر" كان طبيبًا في مدينة "أوديسا" الأوكرانية الروسية، وهو أول مَن طرح فكرة "الوطن اليهودي" في كتابه "التحرر الذاتي" الذي نُشر في برلين عام 1882م، أي قبل كتاب هرتزل "الدولة اليهودية" بأربعة عشر سنة، ويعتبر "بنسكر" و"هرتزل" و"وايزمان" و"بن جوريون" الآباء الأربعة للدولة الصهيونية، لكن كتاب بنسكر "التحرر الذاتي" لم يلقَ شهرة كتاب هرتزل "الدولة اليهودية".
ولم يختلف الأمر عن ذلك عند "هرتزل" حيث قال في كتابه "الدولة اليهودية": "هناك أرضان مأخوذتان بالاعتبار: فلسطين والأرجنتين، وقد تمت تجارب ملفتة لإقامة مستعمرات يهودية في هاتين النقطتين"، ويقول متسائلاً: "هل يجب اختيار فلسطين أم الأرجنتين؟" وجوابه هو: "ستأخذ الهيئة -أي اليهودية- ما سوف يعطى لها".
وقد بدأ البارون الصهيوني "دو هيرش" تنفيذ الاختيار الأرجنتيني عمليًّا عندما أنشأ الجمعية الاستعمارية اليهودية الهادفة إلى توطين اليهود الروس في الأرجنتين.
وقد عرض "جوزيف تشامبرلين" وزير المستعمرات البريطاني موزمبيق على "هرتزل" فوافق عليها، و"تشامبرلين" الذي كان معروفًا بعدائه للسامية كان يريد التوصل إلى حل مع اليهود يؤدي إلى إبعادهم عن أوروبا، وقد بدا لـ"هرتزل" في نهاية المطاف أن أكثر الاحتمالات إمكانًا هو إقامة الدولة اليهودية في أوغندا، فركز على ذلك جهوده.
وقد وافق "تشامبرلين" على إعطاء الحركة الصهيونية منطقة "غواز نغيشو" في أوغندا، وهي منطقة كانت شبه خالية من السكان، تبلغ مساحتها 6300 ميل مربع تقريبًا، وقد تم إلحاقها فيما بعد بكينيا، ولكن المؤتمر الصهيوني السادس المنعقد عام 1903م انقسم على نفسه بشأن الحل الإفريقي بين مؤيد ومعارض خاصة من ممثلي اليهود الروس الذين رفضوه، وكان غالبية المؤسسين للحركة الصهيونية من روسيا وأوروبا الشرقية، فلم يستطع "هرتزل" الاستمرار في المشروع الأوغندي إلى النهاية.
وقد تركزت الجهود الصهيونية على فلسطين دون غيرها بعد وفاة "هرتزل" عام 1904م, واستقرت عليها بعد بروز "حاييم وايزمان" وانتقاله إلى بريطانيا، حيث لعب دورًا رئيسيًّا في حصول اليهود على وعد "بلفور" عام 1917م بقيام الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين.
.