القدس والأقصى / خطب مقدسية
لن ننساك يا غزة
لن ننساك يا غزة
الشيخ: إبراهيم بن صالح العجلان
ملخص الخطبة
1- مأساة حصار غزة. 2- قصة حصار شعب أبي طالب. 3- فوائد حصار الشعب. 4- الفرج بعد الشدة. 5- وفاء النبي
الخطبة الأولى
معاشر المسلمين، ذبلت الأجساد، وجفَّت الأكباد، قرقرت البطون، وظمأت الأجواف، أطفال يصرخون، وشيوخ يئنون، مرضى يتوجَّعون، ورجال حائرون. إنه مشهد من مشاهد الحصار وصورة من أثره وآثاره.
ونحن نشاهد اليوم فصلاً من فصول مآسينا في غزة نسترجع بالذاكرة إلى الوراء، ونقطع حجب الزمان، لنقترب من صفحة من حياة النبي
إخوة الإيمان، ها هي دعوة النبيّ
أجمعت قريش أمرها على قتل النبي
رأت قريش هذه الحمية والمنعة، فعرفت أن دون ذلك دماء وأشلاء ورؤوسًا ونفوسًا، فقررت قريش معاقبة هذه الفئة المسلمة المارقة ومن تعاطف معها، فاجتمع رؤساؤهم في خيف بني كنانة (ويسمّى اليوم بالمعابدة)، اجتمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب اقتصاديّا واجتماعيا، وكتبوا في ذلك كتابا ألاّ يزوّجوا إليهم ولا يتزوّجوا منهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم شيئا ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلّموا إليهم رسول الله
سارع المشركون في تطبيق هذا الحصار عمليا، فلم يتركوا طعاما يدخل مكة ولا بيعا إلا بادروا فاشتروه بأضعاف ثمنه حتى لا يشتريه بنو هاشم ولا يبيعونهم شيئا مما عندهم أبدا. وهكذا قل الطعام ونقص الزاد وجهد المسلمون وأقاربهم وحلفائهم من هذا الحصار والتضييق الاقتصادي.
أما أبو طالب عمّ النبي
مضت الأيام والأشهر وحال المسلمين المحاصرين يزداد من سوء إلى أسوء، وعمّ الجوع بين أهل الشِّعب، وندر الكلام، وقلت الحركة، وكان يُسمع من وراء الشِّعب أصوات النساء والصبيان يتضاعون من الجوع، وبلغ بالناس من الخماصة شيئًا لا يكاد يصدَّق حتى أكلوا كلّ ما يمكن أكله. ولعل موقفا واحدا يصوّر لنا شيئا من حالة الجوع التي عانى منها النبي
ومن المواقف المذكورة أيام الحصار أن بعض المشركين كان يتعاطف مع أرحامه المحصورين هناك، فكانوا يرسلون إليهم حملات إغاثية ليلا, يستخفون بها عن أعين قريش، فكان أحد المشركين وهو هشام بن عمرو العامري يحمل البعير بالطعام والثياب، ويأخذ بخطام البعير حتى يقف على رأس الشِّعب، ثم يخلع خطام البعير ويطلقه في الشعب، وكان حكيم بن حزام يرسل الطعام لعمته خديجة بنت خويلد سرًا، فرآه أبو جهل يومًا، فجعل يمانعه عن إيصال الطعام ويهدد بفضحه والتشهير به، فجاء أبو البختري بن هشام، فوقف مع حكيم بن حزام، وحصلت مشادة بينه وبين أبي جهل انتهت برضّ رأس أبي جهل بحجر حتى أدماه، وانطلق حكيم إلى عمته بالطعام. الشاهد من هذه المواقف أن المعونات الغذائية كانت تدخل إلى الشعِّب سرًا، وكانت قليلة جدًا.
إخوة الإيمان، مع ما أصاب المسلمين من الجهد والبلاء في الشِّعب إلا أن هذا البلاء لم يكن شرًا محضًا، بل كان يحمل في طياته من الخيرية للدعوة المحمدية ما لا يدركه البشر بعقولهم، فمع ما في هذا البلاء من رفعة الدرجات وتكفير السيئات لأهل الإيمان إلا أن هذه المقاطعة والتجويع القهري كانت حدثًا إعلاميا تسامَع له العرب، وتساءلوا عن سبب هذه المحاصرة الاقتصادية والتي أخرجت قريشا عن رشدها ووقارها، فجعل العرب في غير مكة يتلقّطون أخبار هذا النبي ويتلهّفون لمعرفة حقيقة دعوته، فكان ذلك الحصار سببا في أن تخرج الدعوة المحمدية من إقليمية مكة إلى عالمية الجزيرة العربية آنذاك.
عباد الله، ومضت ثلاثة أعوام من عمر ذلك الحصار الآثم والمسلمون يستعينون على مدافعة ذلك القدر الإلهي بالصبر والمصابرة وانتظار الفرج من الله تعالى، انشقت السماء ونزل الوحي من الله تعالى على قلب سيد المرسلين ليخبره بأن تلك الصحيفة قد سلّط الله عليها دويبة ضعيفة فأكلت ورقتها إلا ما كان فيها من ذكر الله عز وجل. أخبر المصطفى
بعد هذا الموقف وطول المقام على بني هاشم في الشَّعب تحركت مروءة رجال من قريش، فاجتمع نفر منهم ليلا، وتلاوموا على هذه الصحيفة الظالمة والرحم المقطَّعة، وتحركت فيهم وشائج النخوة والشهامة، فقرروا نقض الصحيفة وإنهاء حياة الضرّ التي قاساها بنو هاشم طوال أعوام ثلاثة، فلم يصبحوا من ليلتهم تلك إلا ويمّموا شطر تلك الصحيفة ومزقوها؛ ليعلنوا بعدها إنهاء أزمة الحصار وإخراج بني هاشم وبني عبد المطلب من هذا الشِّعب.
في السنة العاشرة من بعثة النبي
إخوة الإيمان، كانت أيام الشِّعب وأحداثها عالقة في ذهن النبي
وبقيت معالم الشّعب في ذكريات النبي
وبقيت أطياف الحصار وأطلال الشِّعب ماثلة للنبي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اجتبى.
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هي السنن الكونية تتكرر، وها هي سياسة تجويع الشعوب وتجفيف البطون يشاهدها العالم رأيَ العين، في عصر المباهاة بالديمقراطية والمفاخرة بالقيم الإنسانية. ها هم اليهود اليوم ومن حالفهم من عبّاد الصليب وطواغيت البيت الأبيض يتحالفون على إبادة جماعيّة على أهل غزة؛ بفرض حصار كامل عليها حتى ضاقت بهم الأرض وأظلمت عليهم الدنيا وأصبحت بطون الأرض خيرًا لكثير منهم من هذا الوضع المأساوي الذي لا يطاق.
لقد صورت عدسات الإعلام حجم المعاناة والشظف المعيشي هناك، انقطعت الكهرباء، وعم الظلام بالليل، وعزّ الطعام، وقلّ الماء النقي، وتقاسم الناس الخبز، وتعطلت المستشفيات، وحرم المرضى من الدواء، بل حتى الأكفان لمواراة الموتى عدمت عندهم. صار الناس يتحركون هنا وهناك بحثًا عما يسكت بطونهم وأجوافهم. أكثر من مليوني مسلم يعيش هذه المعاناة في هذا السجن، بُحَّت أصواتهم وتعالت صيحاتهم، وتتابعت استغاثاتهم بدول الإسلام وأمم الكفر لإنقاذهم من هذه الكارثة والموت الذي ينتظرهم. إنها والله حالة تدمي القلب وتفتّ الفؤاد فتًّا على هذا المصير المأساوي الذي يلاقيه إخواننا في فلسطين.
لقد كشف لنا هذا الحصار الآثم زيف الشعارات البراقة التي تنادي بها دول النصرانية الطاغية الباغية، رأينا هذه الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير المصير رأي العين في فلسطين، رأينا رحمة الغرب المتحضّر بالإنسان حينما يختنق شعب بأكمله لأنه اختار من لا يريد أن يركع لساستهم وسياستهم، وكشف لنا هذا الحصار أيضا ضعف لحمة الأخوة الإسلامية وبرودة النخوة العربية، فإذا لم تتحرك فينا النصرة الإسلامية فأين الشهامة العربية؟! وإذا ماتت منا هذه النخوة فأين هو الضمير الإنساني عن نجدة هؤلاء الذين يلاقون شبح الموت البطيء؟!
نعم، لقد قعدت شعوب المسلمين عن نصرة إخوانهم المنكوبين هناك بسبب اتفاقيات الذلّ ومعاهدات الهوان التي شاركت فيها دول الجوار على محاصرة الشعب الفلسطيني وزيادة معاناته وتحمل تبعاته.
إخوة الإيمان، ويبقى السؤال الأهم: لماذا غزة قدرها الحصار دون بقية مدن فلسطين؟! لأن غزة هي التي تحتضن بين جنبيها أبطال فلسطين الذين رفعوا راية الجهاد أمام الغطرسة اليهودية، لأنَّ أبطال غزة هم الذين قالوا: مرحبا بالمنايا في سبيل كرامة الأمة وعزتها وحفظ مقدساتها، لأن أبطال غزة رفضوا حياة التركيع والذل والهوان، ورفضوا منطق الاستسلام باسم السلام أمام من لا يؤمن بعهد ولا ميثاق، إنهم الأبطال الذين قدموا دماءهم وأموالهم وأولادهم ثمنا لقضية فلسطين، إنهم الرجال الذين علّموا الأمة كفكفة الدموع وقالوا لها بعزة وشموخ: لا تبكوا على الشهيد فعندنا مولود جديد يذكّر بني صهيون بسعد وابن الوليد، فصبرا يا أهل الرباط، صبرا يا شامة الأمة ومجدها، صبرا يا من نفضتم غبار الغفلة والهوان عن جبين الأمة، وبشراكم قول النبي
إخوة الإيمان، إن ما يزيد جراحاتنا جرحا حياة الغفلة واللامبالاة بقضايا المسلمين، وقلّب نظرك في قنوات الإعلام العربي ترَ الرقص والتعرّي في الوقت الذي يتضاغى فيه أطفال غزة ونساؤها من الخصاصة، ويتألمون من قرس البرد ولذعاته. ومما يزيد مآسينا إيلامًا أيضا تلك المفاهيم المنكوسة والأقلام الموبوءة التي تحمّل كارثة الحصار على المظلوم ويصمتون عن الجلاد الغاصب الذي أسّس للظلم وأتى به هناك، ناهيكم عن تلك الأقلام التي لا يعنيها شأن القضية الفلسطينية في شيء ولم تحبِّر لنا يوما مقالا في نصرتهم ورفع معاناتهم، وإنما هي مشغولة بتحرير المرأة وخلع حجاب المرأة وقيادة المرأة ورفض محرم المرأة.
وأخيرا عباد الله، فإن نصرة إخواننا المظلومين المحاصرين واجب شرعي، ولئن حاصر بنو صهيون الماء والغذاء والعلاج والدواء فإنهم لن يحاصروا مدد السماء، فارفعوا ـ أيها المسلمون ـ أكفَّ الضراعة في أوقات الإجابة، وألحّوا وألظّوا إلى الله أن يرفع المعاناة ويكشف الحصار، مع التعاون والتواصي على إيصال الإعانة والإغاثة لهم بأسرع وقت، فالأمر لا يحتمل مزيدا من التأخر والتردد.
ولا ننسَ ـ عباد الله ـ مع هذه الأحداث أن نرتبط بالله، وأن يزيد يقيننا ثقة بموعود الله، فالمصائب مدرسة لصياغة رجال المجد، وجيل التمكين لن يخرج إلا من رحم الفواجع، فأمِّلوا ـ أيها المسلمون ـ وأبشروا خيرا، وأصلحوا أنفسكم ومجتمعاتكم تصلح لكم أوطانكم وبلدانكم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...