فلسطين التاريخ / أعلام بيت المقدس

نبذة من سيرة: عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي .

هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الأصل من نواحي نابلس بفلسطين الصالحي الفقيه الإمام الزاهد الخطيب، قاضي القضاة، شيخ الإسلام الملقب بشمس الدين أبي محمد ابن الشيخ أبي عمر، ولد في المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة بالدير بسفح قاسيون وسمع الحديث من أبيه وعمه الشيخ موفق الدين كما سمع الحديث وتلقاه عن اثني عشر عالماً تقريباً وتفقه على عمه شيخ الإسلام موفق الدين، وعرض عليه كتاب (المقنع) وشرحه عليه، وأذن له في إقرائه وإصلاح ما يرى أنه يحتاج إلى إصلاح فيه، ثم شرحه بعده في عشر مجلدات واستمد فيه من (المغني) لعمه.

       وأخذ الأصول عن السيف الأمدي، ودرس وأفتى وأقرأ العلم زماناً طويلاً وأنتفع به الناس وانتهت إليه رياسة المذهب في عصره، بل رياسة العلم في زمانه، وكان معظماً عند الخاص والعامً عظيم الهيبة لدى الملوك وغيرهم، كثير الفضائل والمحاسن متين الديانة والورع قال الذهبي في معجم شيوخه في ترجمة شمس الدين: هو شيخ الحنابلة بل شيخ الإسلام وفقيه الأنام وقدوة العباد وفريد وقته من اجتمعت الألسن على مدحه والثناء عليه حدّث نحواً من ستين سنة، وكتب عنه أبو الفتح بن الحاجب.

وقال الذهبي أيضا: سألت عنه الحافظ محمد بن عبد الواحد-يعني الضياء فقال: إمام خير دين. وقال أيضا: وكان الشيخ محي الدين-يعني النووي- يقول" هذا أجلُّ شيوخي. وروى عنه النووي في كتاب (الرخصة في القيام) فقال رحمه الله: حدثنا الشيخ الإمام العالم المتفق على إمامته وفضله وجلالته: الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد أبي عمر المقدسي رضي الله عنه.

      وقال الذهبي: وروى عنه أيضاً الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم وأطال ترجمته وذكر فضائله وعبادته وأوراده وكرمه ونفعه العام وأنه حج ثلاث، فكان آخرها: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يطلبه فحج ذلك العام. وحضر الفتوحات وأنه كان رقيق القلب، سريع الدمعة، كريم النفس، كثير الذكر لله، والقيام بالليل محافظاً على صلاة الضحى، ويصلي بين العشاءين ماتيسر، ويؤثر بما يأتيه من صلة الملوك وغيرهم وكان متواضعاً عند العامة مترفعاً عند الملوك، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والمحدثين وأهل الدين، وأوقع الله محبته في قلوب الخلق، ولم يكن في زمانه من يصلي أحسن منه ولا أتم خشوعاً، وكان كثير الدعاء والإبتهال، ولا سيما في الأماكن والأوقات المرجو فيها الإجابة، وكان كثير الاهتمام بأمور الناس، لا يكاد يعلم بمريض إلا افتقده، ولا مات أحد من أهل الجبل إلا شيعه.

       وذكر فخر الدين البعلبكي: أنه منذ عرفه ما رآه غضب وعرفه نحو خمسين سنة!!

وقد ولي القضاء مدة تزيد على إثنتي عشرة سنة على كره منه ولم يتناول معلوماً ثم عزل نفسه في آخر عمره.

       ومدحه أبو اسحاق اللوزي شيخ المالكية في زمانه فقال: كان شيخنا شيخ الإسلام شمس الدين قدوة الأنام حسنة الأيام، ممن تفتخر به دمشق على سائر البلدان، بل يزهو به عصره على متقدم العصور والأزمان، لما جمع الله له من المناقب والفضائل التي أوجبت للأواخر الافتخار على الأوائل منها: التواضع مع عظمته في الصدور، وترك التنازع فيما يقضي إلى التشاجر والنفور، والاقتصاد في كل مايتعاطاه من جميع الأمور، لا عجرفة في كلامه ولا تقعر، ولا تعظم في مشيته ولاتبختر، ولا شطط في ملبسه ولا تكثر، ومع هذا فكانت له صدور المجالس والمحافل، وإلى قوله المنتهى في الفصل بين العشائر والقبائل، مع ما أمده الله من سعة العلم وفطره عليه من الرأفة والحلم، وكان لا يوفر جانبه عمن قصده، قريباً كان أو أجنبياً، ولا يدخر شفاعته عمن أعتمده، مسلماً كان أو ذميا، ينتاب بابه الأمراء والملوك، فيساوي في إقباله بين الملوك والمماليك!!!

      وكان الشيخ رحمه الله رحمة على المسلمين حينما كان قاضياً ولولاه - بمشيئة الله - لراحت أملاك الناس، لمّا تعرض إليها السلطان، فقام فيها قيام المؤمنين وأثبتها لهم، وعاداه جماعة الحكام وعملوا في حقه المجهود وتحدثوا فيه بما لا يليق ونصره الله عليهم بحسن نيته، ويكفيه هذا عند الله، وقال البرزالي في تاريخه: كان الشيخ شيخ الوقت وبركة العصر، وقال اليونيني في تاريخه: شيخ الإسلام علماً وزهداً وورعاً وديانة وأمانة، كبير القدر جم الفضائل، انتهت إليه الرياسة في الفقه على مذهب الإمام أحمد وشرح كتاب (المقنع) لعمه الشيخ موفق الدين، وكانت له اليد الطولى في معرفة الحديث والأصول والنحو وغير ذلك من العلوم الشرعية مع العبادة الكثيرة والتواضع واللطف بكرم الأخلاق ولين الجانب، والإحسان إلى القريب والبعيد والاحتمال وولي قضاء القضاة مكرهاً، وباشر ذلك مدة ثم عزل نفسه وامتنع من الحكم وبقي متوفراً على العبادة والتدريس، وأشغال الطلبة والتصنيف وكان أوحد زمانه في تعدد الفضائل والتفرد بالمحامد ولم يكن له نظير في خلقه ورياضته وما هو عليه، وانتفع به خلق كثير، وكان على قدم السلف الصالح في معظم أحواله، ويكفيه فخراًَ وشرفاً أن يكون شيخ الإسلام ابن تيمية أحد تلامذته الذين تلقوا عنه العلم وقال فيه: ما رأيت بعيني مثله!! قال الذهبي: ورأيت وفاة الشيخ شمس الدين بن أبي عمر بخط شيخنا شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية يقول فيه: توفي شيخنا الإمام سيد أهل الإسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، وحيد الزمان حقاً حقاً وفريد العصر صدقاً صدقاً، الجامع لأنواع المحاسن والمعافى البرئ عن جميع النقائص والمساوئ، القارن بين خلتي العلم والحلم، والحسب والنسب والعقل والفضل، والخلق والخلق، ذي الأخلاق الزكية والأعمال المرضية، مع سلامة الصدر والطبع ، واللطف والرفق، وحسن النية وطيب الطوية، حتى إن كان المتعنت ليطلب له عيباً فيعوزه-إلى أن قال وبكت عليه العيون بأسرها وعم مصابه جميع الطوائف وسائر الفرق، فأي دمع ما إنسجم وأي أصل ما جذم وأي ركن ما هدم وأي فضل ما عدم؟! ياله من خطب ما أعظمه، وأجل ما أقدره، ومصاب ما أقحمه وأكبر ذكره!!!

وبالجملة: فقد كان الشيخ أوحد العصر في أنواع الفضائل، بل هذا حكم مسلم به من جميع الطوائف، وكان مصابه أجل من أن تحيط به العبارة، فرحمه الله ورضي عنه وأسكنه بحبوحة جنته ونفعنا بمحبته إنه جواد كريم. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.

ومن تلميذاته النجيبات: فاطمة ابنة عباس أبي الفتح أم زينب الواعظة الزاهدة العابدة الشيخة الفقيهة العالمة المسندة المفتية الخائفة الخاشعة السيدة القانتة المرابطة المتواضعة الدينة العفيفة الخيرة الصالحة المتقنة المحققة الكاملة الفاضلة المتفننة البغدادية الواحدة في عصرها والفريدة في دهرها المقصودة في كل ناحية، كانت جليلة القد وافرة العلم، تسأل عن دقائق المسائل وتتقن الفقه إتقاناً بالغاً، أخذت عن شيخنا هذا، الشيخ شمس الدين بن أبي عمر حتى برعت، كانت إذا أشكل عليها أمر سألت ابن تيمية عنه، فيفتيها ويتعجب منها ومن فهمها ويبالغ في الثناء عليها وكانت مجتهدة صوامة قوامة قوالة بالحق خشنة العيش، قانعة باليسير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، انتفع بها خلق كثير، وعلا صيتها وارتفع محلها. فرحمها الله وشيخها وجميع المسلمين رحمة واسعة. الذيل على طبقات الحنابلة لإبن رجب وحينما توفي شيخنا شمس الدين رثاه نحو ثلاثين شاعراً منهم الشهاب محمود وكان من تلامذته

.