القدس والأقصى / خطب مقدسية

أول خطبة في المسجد الأقصى

الخطيب القاضي : محيي الدين بن زنكي

بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي - لبيت المقدس عام 583 هجرية

المرجع: كتاب الروضتين لأبي شامة ص (110-112)

  

ولما فتح السلطان القدس تطاول إلى الخطابة يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون هو الذي يعيَّن لذلك، والسلطان لايعيِّن الخطبة لأحد.

 

فلما دخل يوم الجمعة رابع شعبان واجتمع الناس لصلاة الجمعة حتى امتلأ الجامع، ونصبت الأعلام على المنبر، وتكلم الناس فيمن يخطب والأمر مبهم حتى حان الزوال، وأذن المؤذن للجمعة، فرسم السلطان وهو بقبة الصخرة للقاضي محيي الدين محمد بن زنكي علي القرشي أن يخطب، وهي أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح ، وأعاره العماد الكاتب أهبة سوداء وكانت عنده من تشريف الخلافة لبسها في الحال.

 

فلما رقي على المنبر استفتح بسورة الفاتحة وقرأها إلى آخرها ثم قال: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}(الأنعام/45).

 

ثم قرأ أول سورة الأنعام: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طينٍ ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون}(الأنعام/1-3).

 

ثم قرأ من سورة سبحان: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً}(الإسراء/111).

 

ثم قرأ من سورة الكهف أولها: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}(الكهف/1-6).

 

ثم قرأ من سورة النمل: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آللهُ خير أما يشركون}(آية/59).

 

ثم قرأ من سورة سبأ: {الحمد لله الذي له ما في السموات ومافي الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير}(آية/1).

 

ثم قرأ من سورة فاطر: {الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيءٍ قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}(الآيات/1-2).

 

ثم شرع في الخطبة فقال: الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الكفر بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار بمكره الذي قدر الأيام دولاً بعَدْلِهِ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده لا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظهاره وإظفاره، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره، وتظهيره لبيته المقدس من أدناس الشرك وَأَوْضَارِهِ، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلا {عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى مازاغ البصر وما طغى}(النجم/14-17) صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذو النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

 

أيها الناس ... أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من أسترداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه، واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بنى عليه، وشيد بنيانه بالتمجيد فإنه أسس على التقوى من خلفه، ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم ،ومعراج نبيكم عليه السلام، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام فهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل ينزل به الأمر والنهي، وهو أرض المحشر، وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الأقصى الذي صلى فيه رسول الله، عليه السلام، بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي أكرمه الله برسالته وشرفه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون}(النساء/172)، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}(المؤمنون/91-92)، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيءٍ قدير}(المائدة/17).

 

وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاكم من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، وطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية والعزمات الصدِّيقية، والفتوحات العُمَرِية، والجيوش العثمانية، والفتكات العَلَوِيَّة، جددتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مُهَجِكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله بواجب شكرها، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنوار وجوده الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقربه عيون الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة أن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان والجند الذي تقوم بسيوفهم التهاني بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن يكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}(الإسراء/1) أليس هو البيت الذي عظمته الملل وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله لأجله الشمس على يوشع أن تغرب وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب، أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله، فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان. فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عليه بنو إسرائيل وقد فضلت على العالمين، ووفقكم لما خذلت فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف حتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد، ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن تستغفر لكم أملاك السماوات، وتصلى عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا رحكمكم الله هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سَلِم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعُصِم، واحذروا من اتباع الهَوَى، ومواقعة الرَّدَى، ورجوع القهقرى ، والنكول عن العِدَى، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضا عبادته، إذ جعلكم من خيار عباده، وإياكم أن يستزلكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين، أن تقترفوا كبيراً من مناهيه، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه: {ولا تكونوا كالَّتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً}(النحل/92) و {الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين}(الأعراف/175).

 

والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم. انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الدماء، وقطع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام: يا للثارات الإسلامية، والملة المحمدية، الله أكبر، فَتَحَ اللهُ وَنَصَر، غَلَبَ اللهُ وَقَهَر، أذلّ اللهُ مَنْ كَفَر.

 

واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحوزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم عشرون وقد قال الله تعالى: {وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}(الأنفال/65-66). أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}(آل عمران/160). إذ أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قِسِيّ الكلام، وأمضى قول تحلى به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلام، قال الله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}(الأعراف/204)، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وقرأ أول سورة الحشر: {سبح لله ما في السموات ومافي الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار}(الحشر/1-2).

 

ثم قال: آمركم وإياي عباد الله بما أمر الله به من حسن الطاعة فأطيعوه وأنهاكم وإياي عما نهى الله عنه من قبح المعصية فلا تعصوه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه.

 

ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مقتصرة، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر ثم قال:

 

اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك سيفك القاطع وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذاب عن حُرُمِك الممانع، السيد الأجل، الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان؛ صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر بيت المقدس من أسر المشركين، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين، اللهم عَمِّر بدولته البسيطة، واجعل ملائكته براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووف للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون، وابتلى المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها، وَمَلِّكْهُ صياصي الكفرة ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتبه إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها، اللهم اشكر عن محمد صلى الله عليه وسلم سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وارغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار، اللهم أثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه الغر الميامين، وإخوانه أولي العزم والتمكين، وشد عضده ببقائهم، واقضِ بإعزاز أوليائه وأوليائهم، اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتجدد على ممر الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفذ في دار المتقين، وأجب دعاءه في قوله: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}(النمل/19).

 

ثم دعا بما جرت به العادة ونزل وصلى.

.