دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث
شرح الأربعون الوقفية .. الحديث الأول
شرح الأربعون الوقفية .. الحديث الأول
عيسى القدومي
جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية والتي تخص باب علم مستقل،وأحياءا لسنة الوقف– الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعون حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، وأعددت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكام وفوائد جمة عظيمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف والهيئات والمؤسسات برعاية الأصول الوقفية، ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .
وسأبدأ بالحديث الأول، وهو الأصل في الوقف مشروعية كما نص على ذلك أهل العلم :
الحديث الأول :
الوقف حبس للأصل وتسبيل لمنفعته
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي r فقال: أصبت أرضاً، لم أصب قط مالاً أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء والقربى، وفي سبيل الله، والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه[1].
وفي رواية أخرى ، جاء عمر رضي الله عنه إلى النبي r يستشيره في أرض خيبر ما يصنع بها :"أشار عليه بحبس أصلها، وجعل غلتها في الفقراء والمساكين، ففعل"[2].
حديث عمر يعده العلماء أصلاً في مشروعية الوقف[3]؛فبعدما ملك عمر رضي الله عنه أرضاً في خيبر اسمها "ثمغ"، وهي حصته في السهام التي قسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين من شهد خيبر، وأضاف إليها ما اشتراه بمائة رأس من أرض خيبر من أهلها، وضمهما إلى بعض، فكانت أرض من أنفس وأجود ما ملك عمر رضي الله عنه.فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الصدقة بها . فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" أي بغلتها وحاصلها من حبوب وثمار ؛وفي رواية: " احبس أصلها وسبل ثمرتها "، وفي ورواية أخرى " تصدق بثمره وحبسأصله".
قال ابن حجر في الفتح؛ قوله : "فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث" زاد في رواية مسلم منهذا الوجه " ولا تبتاع "، زاد الدار قطني من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع: "حبيس ما دامت السماوات والأرض "[4].
وتلك الشروط رفعها بعض الرواة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من وقفه علىعمرلوقوعه منه امتثالاللأمر الواقع منه صلى الله عليه وسلم ، ورجح ابن حجر بأن هذا الشرط من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كانالشرط من قول عمر فما فعله إلا لما فهمه من النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد خصص عمر رضي الله عنه مصارف ريع تلك الأرض الوقفية في الأصناف التالية : في سبيل الله وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل ، وفي رواية البخاري : في الفقراء، والقربى، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل . على أن يأكل العمال عليها من ريعها، وليس من أصلها، وأن لا يزيد عن ماجرت به العادة بلا إفراط ولا تفريط،فليس له سوى ما ينفقه، بلا مجاوزة للمعتاد.قال القرطبي: "جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف، حتى لو اشترط الواقف أنالعامل لا يأكل منه يستقبح ذلك منه، والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة،وقيل القدر الذي يدفع به الشهوة، وقيل المراد أن يأخذ منه بقدر عمله، والأولىأولى"[5].
واشترط عمر رضي الله عنه لناظر وقفه أن يأكل منه بقدر عمالته، ولذلك منعه أن يتخذ لنفسه منه مالا وجزءاًيدعي بعد ذلك أنه ملك له، قد ملكه من زمن أو ورثه أو قد أوصى له به.
ومن هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي أتت صريحة في الوقف والصدقة الجارية، ذهبجمهور العلماء إلى جواز الوقف ولزومه؛ قالالترمذي ":لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا فيجواز وقف الأرضين"[6]. ووقف جماعة من الصحابة منهمعليوأبوبكروالزبيروسعيدوعمروبن العاصوحكيم بن حزاموأنسوزيدبن ثابت،ووقفعثمانلبئر رومة، روى ذلك كلهالبيهقيومنه أيضا.قال القرطبي: إن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة([7]).
ويعد بعض أهل العلم أن وقف عمر هو أول وقف في الإسلام ، جاء في الفتح قال أحمد – بالسند - عنابن عمرقال : أول صدقة - أي موقوفة - كانت في الإسلام صدقةعمر" وروىعمر بن شبةعنعمرو بن سعد بن معاذقال : " سألنا عن أول حبس فيالإسلام فقال المهاجرون : صدقةعمر ،وقالالأنصار: صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وفي مغازيالواقديأن أول صدقة موقوفة كانت فيالإسلام أراضي مخيريق بالمعجمة مصغر التي أوصى بها إلى النبي - صلىالله عليه وسلم - فوقفها النبي صلىالله عليه وسلم "[8].
وفي الحديث فوائد جمة : فيه فضل الصدقة الجارية وهي الوقف، وأنها من الإحسان المستمر،وأن الوقف من خصائص المسلمين، وأنه مخالف لشوائب الجاهلية. وفيه بيان لمعنى الوقف ( تحبيس للأصل وتسبيل للمنفعة ) .وفيهأنه ينبغيأنيكونالوقف منأطيب المالوأحسنه؛ طمعاً فيثواب اللهتعالى، حيثقالَتعالى: "لَنْتَنَالُواالْبِرَّ حَتَّىتُنْفِقُوا مِمَّاتُحِبُّونَ"[9]، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث امتثل وتصدق بأطيب مال مَلكه في حياته. وفيه أن ليس إلزام على المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، وفيه أن لفظ " حبست" من صيغ الوقف.وفيه صحة شروط الواقف واتباعهفيها. وأنه لا يشترط تعيين المصرف لفظاً.وفيه أن الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به،وتبقى أعيانُها، فأما الذييُذْهَبُ بالانتفاعبه فهوصدقة, وليسوقفاً، فلا يصحوقف ما لا يدوم الانتفاع به كالطعام، وفيه مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير
وفيه جواز الوقف على الغني والفقير.وفيه بأن مصرف الوقف يكونفيوجوهالبر العامأوالخاص؛ كالقرابة،والفقراء، وطُلابالعلم ، والمجاهدين،ونحوذلك.وفيه أنه لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة سواء قال: تصدقت بكذا أوجعلته صدقة حتى يضيف إليها شيئا آخر لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة أو وقفالمنفعة فإذا أضاف إليها ما يميز أحد المحتملين صح، بخلاف ما لو قال وقفت أو حبستفإنه صريح في ذلك على الراجح.
وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءا من ريع الموقوف لأن عمر شرط لمنولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف ولم يستثن إن كان هو الناظر أو غيره فدل عن صحةالشرط. ويستنبط منهصحة الوقف على النفس . وفيه أن الواقف إذا لم يشترط للناظرقدر عمله جاز له أن يأخذ بقدر عمله، وهذا على أرجح قولي العلماء ، وعند البعض أن الواقف إذا شرط للناظر شيئا أخذه وإن لميشترطه له لم يجز إلا إن دخل في صفة أهل الوقف كالفقراء والمساكين.واستدل به على وقف المشاع لأن المائة سهم التي كانت لعمر بخيبر لمتكن منقسمة[10].
لقد اهتم الصحابة الكرام، وامتثلوا توجيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في وقف الأوقاف التي تنوعت أصولها، وتعددت مصارف ريعها، ليعم النفع للمجتمع المسلم، فدعوة النبي r إلى الصدقة الجارية لاقت آذاناً صاغية، من عباد الله المخلصين، لا سيما الصحابة رضوان الله عليهم، الذين عاصروا التنـزيل وفهموا أسراره وعرفوا ما تهدف إليه الشريعة. فبادروا مستجيبين لنداء الرسول rفأقفوا الأراضي والحدائق والأسلحة والدروع ، ثمَّ تتابعت الأوقاف،واستمر القادرون على الوقف على مدى التاريخ الإسلامي يوقفون أموالهم، أوقافاً تتسم بالضخامة والتنوع، حيث صارت هذه الأوقاف من مفاخر المسلمين،لم يدعوا جانباً من الجوانب الخيَّرة إلا أوقفوا فيه من أموالهم، حتى شملت هذه الأوقاف الإنسان والحيوان. وبلغت ما لا يخطر على بال إنسان أن يفعله في شرق ولا غرب.
كان الوقف سنة متبعة في العهود الإسلامية، دعا إليها العلماء، واجتهد في فقهها الفقهاء، وتنافس في إيجادها وتجديدها أهل الهمم والعطاء،فكان لها الدور الأكبر في الحضارة الإسلامية، وفي نماء الخلافة واستمرارها، ووقوفها من بعد كبوة.قد وعى المسلمون منذ القرون الأولى ما للوقف من مقاصد سامية ومصالح ملموسة في الحفاظ على مكانة الأمة وأمنها .
[1]-أخرجه البخاري في الوصايا، باب: الشروط في الوقف، برقم (2737) ومسلم في الوصية، باب الوقف، برقم (1632) واللفظ لمسلم .
[2]- أخرجه البخاري في الوصايا، باب: وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم برقم (2764) ومسلم في الوصية، باب الوقف برقم (1632).
[3]- قال في الفتح : وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف .
[4]- فتح الباري ( 7/16).
[5]- فتح الباري ( 7/16).
[6]- أنظر نيل الأوطار ، كتاب الوقف ( 4/310) .
[8]- فتح الباري، ( 7/18)
[9]- سورة آل عمران ، آية 92.
[10]- أنظر فتح الباري ( 7/19-21 ) . وتوضيح الأحكام للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام . والمنهاج في شرح صحيح مسلم، ص 1038، ونيل الأوطار 4/311-313.