فلسطين التاريخ / تاريخ
خطبة لا تُنْسَى
لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان ، ودخله أهل الإيمان ، ونودي بالآذان ، وقرئ القرآن ، ووحد الرحمن ، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان ، بعد يوم الفتح بثمان ، فَنُصِبَ المنبر إلى جانب المحراب ، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع ، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال ، وعُين للخطابة القاضي محي الدين محـمد بن زكي الدين علي.
وشرع في الخطبة فقال فيها : الحمد لله مُعز الإسلام بنصره ، ومُذل الكفر بقهره ، ومصرف الأمور بعدله ، ومديم النعيم بشكره ، ومستدرج الكفار بمكره الذي قدر الأيام دُوَلاً بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأظهر دينه على الدين كله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك ، وداحض الشرك ، ورافض الإفك ، الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى ، وعرج به منه إلى السماوات العلا ( عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى ) النجم 14-17
أيها الناس : أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا ، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذا الضالة من الأمة الضالة ، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام ، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه ، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه ، واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بنى عليه ، وشيد بنيانه بالتمجيد فإنه أسس على التقوى من خلفه ، ومن بين يديه ، فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم ، عليه السلام ، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام فهو مقر الأنبياء ، ومقصد الأولياء ، ومدفن الرسل ، ومهبط الوحي ، وهو أرض المحشر ، وصعيد المنشر ، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين ، وثاني المسجدين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده ، واصطفاكم من سكان بلاده ، لما خَصَّكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار ، ولا يباريكم في شرفها مبار ، وطوبى لكم من جيش ، جددتم للإسلام أيام القادسية ، والملاحم اليرموكية ، والمنازلات الخيبرية ، والهجمات الخالدية ، فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء ، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء ، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء ، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء .
وقال : فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها ، وقوموا لله بواجب شكرها ، أليس هو البيت الذي عظمته الملل وأثنت عليه الرسل ، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل ؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله لأجله الشمس على يوشع أن تغرب ، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب ؟ أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان ، وغضب الله عليهم لأجله ، فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان ؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عليه بنو إسرائيل ، ووفقكم لما خذلت فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده ، وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ، ونشر التقديس والتمجيد ، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث ، والاعتقاد الفاجر الخبيث ، فالآن تستغفر لكم أملاك السماوات ، وتصلي عليكم الصلوات المباركات ، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم ، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم ، واحذروا من أتباع الهوى ، ومواقعة الردى ، ورجوع القهقرى ، والنكول عن العدى.
ثم قال رحمه الله : فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل ، وخصكم بنصره المبين ، وأعلق أيديكم بحبله المتين ، أن تقترفوا كبيراً من مناهيه ، وأن تأتوا عظيماً مـن معاصيه : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعـد قوة أنكاثاً ) النحل 92 ، ( الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ) الأعراف175 ،والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم ، وأشرف عاداتكم ، انصروا الله ينصركم ، احفظوا الله يحفظكم ، اذكروا الله يذكركم ، اشكروا الله يزدكم ويشكركم ، جدوا في حسم الداء ، وقطع شأفة الأعداء ، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله ، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله ، فقد نادت الأيام : يا للثارات الإسلامية ، والملة المحمدية ، الله أكبر فتح الله ونصر ، غلب الله وقهر ، أذل الله من كفر ، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها ، وفريسة فناجزوها ، وغنيمة فحوزوها ، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها ، وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها ، فالأمر بأواخرها ، والمكاسب بذخائرها ، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول ، وهم مثلكم أو يزيدون ، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم عشرون ، وقد قال الله تعالى : ( وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) ، أعاننا الله وإياكم على إتباع أوامره ، والازدجار بزواجره ، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده : ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) .