فلسطين التاريخ / تهويد وتزوير وإجرام

"ساحل الطنطورة: خراب قرية فلسطينية عام 1948" كتاب إسرائيلي جديد

الناصرة ـ «القدس العربي»: بعد عدة كتب ومقالات وشهادات واعترافات تضمنها فيلم إسرائيلي نادر، صدر كتاب إسرائيلي جديد عن قرية الطنطورة الفلسطينية، لكنه بخلاف الدراسات السابقة فإنه لا يعالج المذبحة الكبرى فيها خلال احتلالها في ليلة الثاني/الثالث والعشرين من مايو/أيار 1948 بل يعود ويرسم ملامح الحياة فيها قبل النكبة ثم يعود ويتابع واقع حياة مهجريها في الوطن والشتات.

والكتاب الجديد الصادر بالعبرية جاء بعنوان «ساحل الطنطورة: خراب قرية فلسطينية ـ 1948» للمحاضر الجامعي الإسرائيلي البروفيسور ألون كونفينو أستاذ التاريخ في جامعة مساتشوسيتس الأمريكية. الأمريكية.

الكتاب الممتد على 244 صفحة يشمل ستة فصول يقوم فيها المؤرخ الإسرائيلي باستعادة تاريخ الطنطورة بشكل دقيق استنادا إلى مصادر جديدة وخاصة مكتوبة وشفوية، ويقوم أيضا بسرد حكاية هذه المصادر التي بحث عنها وتلك التي بحثت عنه.

يتحّرك الكتاب الجديد على محوري المكان والزمان الخاصين بفلسطين وإسرائيل في الماضي وفي الحاضر، مستحضرا قصة الحرب من زوايا نظر مختلفة روايات أهالي الطنطورة: مزاعم واعترافات الجنود وأقوال الفلسطينيين والإسرائيليين، علاوة على معالجات القضية لدى بعض المؤرخين وغيرها. وهكذا تطرح قضية الطنطورة بكل ما فيها قبل وخلال وبعد النكبة الفلسطينية بمختلف طبقاتها وأبعادها المبنية من ذاكرة ونسيان، تاريخ وافتراء، ضحايا وجلادين، حقائق وأكاذيب الى جانب تشكيلة عوامل وظروف أتاحت التدمير والمحو.

وفي جوهره لا يتركّز الكتاب الجديد عن الطنطورة في أعمال القتل التي شهدتها، بل يقدّم قصة متكاملة لقرية فلسطينية خلال حرب 1948، قصة تشمل عملية الاحتلال والتهجير والتدمير، وكل هذه الأحداث تطرح في السياق الواسع لتلك الحرب.

بعد المقدمة يعالج الكتاب في الفصول الثاني والثالث والخامس قصص حياة أهالي الطنطورة رجالا ونساء وعوالمها الاقتصادية والاجتماعية، فيما يعالج الفصل الرابع مصادر الكتاب، ويكرّس الفصل السادس للجنود الصهاينة الذين شاركوا في احتلال الطنطورة، ويتركّز الفصل السابع بـ «شظايا أدلة تضاف للصورة الشاملة» أما الفصل الثامن فيعالج السؤال ما الذي جرى في الطنطورة ؟ ويأتي الفصل التاسع مخصصّا لـ اندلاع حرب 1948، والفصل العاشر يرد بعنوان «مخاوف وأحلام» ويروي الفصل الحادي عشر قصة الاقتلاع، والفصل الثاني عشر عن السلب والنهب في القرية، والفصل الثالث عشر عن إحلال المستوطنين مكان الأهالي في الطنطورة، أما الفصل الرابع عشر فيتابع «النسيان» والخامس عشر يروي قصة الطنطورة بـ الصور، والفصل الأخير بعنوان «أن تروي قصص 1948».

يشدّد على حيوية الرواية الفلسطينية المتكاملة للتاريخ وللمصالحة:

ويوضح الكاتب في كتابه أن مؤّرخين ومخرجين إسرائيليين أمثال ألون شفارتس في فيلمه الأخير «طنطورة» قد قدموا عملا تاريخيا مهما جدا، لكن معظمهم تهرّبوا من سؤال تحمّل المسؤولية عن المذبحة ومنحوا مساحة ضيقة وقليلة لـضحاياها الفلسطينيين، مشدّدا على استحالة كتابة تاريخ دون استحضار أصوات الضحايا وإسماع اليهود والإسرائيليين. ويلفت البروفيسور ألون كونفينو الى أن بعض المؤرّخين الإسرائيليين الذين نفوا حقيقة وقوع المذبحة أمثال يوآف غيلبر أو الذين شكّكوا فيها أمثال بيني موريس، يرفضون كلية وقائع وأدلة المصادر التاريخية الشفوية الخاصة بحرب 1948 رغم أن مثل هذه التوجهّات التاريخية مألوفة اليوم طالما تمت مراعاة قواعد البحث الصارمة. ويعلل كونفينو اعتماده على الرواية الشفوية في الكتابة التاريخية بالقول إنها مهمة لتخليص أصوات الضحايا ليس فقط في حالات عنف جماهيري إنما تخليص أجزاء من الحقيقة التي يعمل الآثمون على إخفائها ونكرانها عمدا.

ويؤكد أن نفي الرواية الشفوية كـمصدر لكتابة التاريخ ليس بريئا: هو يطمس الصوت الفلسطيني من البحث حول 1948 وهو صوت يروي الطرد، الخوف، والمذابح.

ويتابع «ليس صدفة أن كتب مؤرخين إسرائيليين سابقين حول 1948 لا تستحضر الأصوات والتجربة الفلسطينية، وفي المقابل جاء الكتاب المميّز للمؤرخ عادل مناع «نكبة وبقاء» ليكون نموذجا لـكتابة تاريخية تستحضر التجارب والخبرات والعمليات الفلسطينية واليهودية على حد سواء. هذا هو البحث الجديد والخصب عن 1948».

وفي هذا العجالة يوضح لـ «القدس العربي» المؤرخ الفلسطيني الدكتور عادل مناع أن كونفينو واظب على لقاء أهالي الطنطورة سنة وراء سنة فكان يستمع لهم ويروي لهم ما يعرفه حتى تعزّزت الثقة بينهم، لافتا الى كونه كتابا جديرا بالقراءة.

ويشير مناع إلى أن الكتاب العبري الجديد مكتوب بلغة سردية وأسلوب جذّاب. وقال إن الكاتب عاد لما حصل ما بعد 1948 وتابع واقع حياة أهالي الطنطورة في الوطن وفي الشتات.

كما يوضح مناع أن هذا الكتاب وبخلاف كتب إسرائيلية كثيرة وفلسطينية أيضا يؤكد على الحاجة لـسرد رواية البلدات الفلسطينية كاملة دون حصرها بالقتل أو بالمذبحة، ويضيف في هذا المضمار»المتضرّرون من النكبة هم وأولادهم وأحفادهم قضية لا تقل أهمية عن ضحايا الصهيونية من القتلى، خاصة أنهم ما زالوا يكابدون تبعات النكبة حتى اليوم، وينبغي تقديم الرواية الكاملة للمكان قبل وخلال وبعد الحرب بدلا من الاكتفاء بـ «نتاتيف» تاريخية ومن دون تجزئة ما قبل وبعد الحرب. هذا التسلسل المتكامل للبلدة الفلسطينية ينبغي أن يؤخذ بالحسبان لدى المؤرخّين الفلسطينيين أيضا».

ويقول كونفينو في مقدمة كتابه إنه بدلا من إدارة نقاش داخلي بين اليهود حول 1948 هناك حاجة للإصغاء أيضا للصوت التاريخي الفلسطيني، ليس من أجل قبوله كتوراة منّزلة إنما بهدف استيعاب براهين تاريخية يتم رفضها بشكل فوري، موضحا أن التجربة الفلسطينية الخاصة بـ 1948 توفّر مسافة تاريخية للوراء، تنويعا وصوتا آخر للمداولات حول تلك الحرب والمعتمدة فقط على أصوات يهودية.

ويضيف معللا رؤيته:»لا تناقض بين الحياة في الدولة وبين نقد لماضيها.بالعكس، حياة متكاملة أكثر تعني اعترافا بآثام الماضي مثلما تعني فعاليات لتصحيح هذه الآثام».

ويرى الباحث الإسرائيلي في كتابه أن أفضل نقطة لبدء هذه المسيرة هي الشهادات الفلسطينية الخاصة بالطنطورة التي جمعها الباحث اليهودي تيدس كاتس قبل نحو 20 عاما ونيف: تحويل هذه الشهادات الى مواد رقمية، وترجمتها للعبرية والإنكليزية ونشرها في الشبكة ليقرأ كل واحد ويقرر ما يراه هو.

ويقول كونفينو إنه من الممكن الزعم أنه من المفضَل أن يتم تجاهل فيلم «طنطورة» لألون شفارتس من النقاش الثاقب حول سؤال المسؤولية وسؤال الضحايا بدعوى أنه من دون مثل هذا النقاش سيكون سهلا على اليهود هضم رسائله.

وعن ذلك يضيف البروفيسور ألون كونفينو: هذا صحيح على ما يبدو، لكن من الجدير ذكره أيضا أن نكران هذه المواضيع هو بحد ذاته جزء من المشكلة.هذا نكران مصدره في علاقات القوة التي تحدّد لمن مسموح ولمن ممنوع أن يروي قصة 1948 في إسرائيل. هناك مبرّر للتذكير بهذا لأن نقاشا حقيقيا حول 1948 ممكن فقط مع يهود غادروا مواطن راحتهم التي اعتادوها وألفوها في خطابهم حول الحرب.

على غرار منظمة «ذاكرات» الإسرائيلية يرى البروفيسور ألون كونفينو أن اعترافا بالماضي هو مسيرة معقّدة وفيها خطوة للأمام أحيانا تندرج مع خطوة للوراء، ولكن كشف الماضي مهم والحديث عن «قيود الذاكرة اليهودية» في الحاضر أيضا مهم، والأهم كيف نفكّر مستقبلا حول 1948.

.