القدس والأقصى / خطب مقدسية

مشاهدات من غزة

مشاهدات من غزة

 

الشيخ: يحيى بن سليمان العقيلي

 

ملخص الخطبة

 

1- الوصول إلى غزة. 2- واجب الإغاثة. 3- حال المحاصَرين. 4- إقبال أهل غزة على الله تعالى. 5- صمود أهل غزة. 6- الحث على النصرة والمؤازرة.

الخطبة الأولى

 

وبعد: فأوصيكم ونفسي ـ عباد الله ـ بتقوى الله تعالى، فالمتقون هم أولياؤه وأحباؤه، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63].

معاشر المؤمنين، أحدثكم اليوم بعد أن منّ الله تعالى علينا وأكرمنا ببلوغ أرض فلسطين المباركة، أرض غزة، أرض الشرف والعزة، أرض الصمود والرباط، وفدٌ من لِجان الخير في كويت الخير ذهبنا إلى غزة المحاصرة، لنعبّر باسم شعب الكويت عن النصرة والتضامن مع إخواننا هناك، ضد هذا الحصار الظالم الذي حجب الغِذاء والدواء، ولو استطاعوا لحجبوا عنهم الهواء.

ذهبنا هناك ـ عباد الله ـ إغاثة ونصرة، وأداءً لواجب شرعي وعملٍ إنساني، فالمسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسلِمه، والنفقة والإعانة والإغاثة في سبيل الله أمر رباني جاءت به الآيات البيّنات في مائة وثلاثة وثلاثين موضعا في كتاب الله، وإن المأساة هناك ـ عباد الله ـ لتُجَسِّد حقًّا قولَ الله عز وجل: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 273]، قال أهل العلم: "إذا هلك فقير واحد والأغنياء يعلمون به أثموا جميعا".

نعم والله يا عباد الله، فلقد أحصر أهل غزة لا بإرادتهم، ولكن بمكر الماكرين وكيد الكائدين، وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46].

معاشر المؤمنين، إن كان لذلك الحصار الظالم آلام وجراح حيث مات العشرات في المستشفيات لانقطاع الكهرباء واستُشهد العشرات وجرِح المئات بنيران العدوّ الصهيوني الجبان، إلا أن ما خفّف عن أهل غزة لوعتهم وضمّد جراحاتهم وصول إخوانهم من بعض الدول العربية، أبَوا إلا أن يكونوا بينهم تضامنًا وأخوّةً ونصرة، كم كان مفرحا منظرُ الشاحنات وهي تشقّ طريقها محمّلة بالدواء والغذاء الذي تبرعتم به أيها الإخوة وسائر الشعوب العربية غنيها وفقيرها؛ لتقول للمحاصَرين: نحن معكم واللهُ ناصركم، كم خفف ذلك من آلامهم بل وأسعدهم أيما سعادة، حتى قالوا لنا: إن ما يحدث من قدومكم ووفد أهل الخليج أمر عجيب، فبدل أن نذهب إليكم نطلب العون وإذا بكم أنتم تأتون إلينا وتبادئونا بالدّعم والعون، وهذا والله أشدّ ما يثبتنا بعد الله تعالى، فشكر الله دعمكم وشكر الله سعيكم وشكر الله نصرتكم يا أهل الكويت.

معاشر المؤمنين، لقد سجّلت في تلك الزيارة المباركة التي أكرمنا الله بها مشاهدات وملاحظات عن ذلك الشعب الصابر المرابط، بعد وصولنا فجرًا هناك ذهبنا للصلاة في المسجد، وإذا بالمسجد ـ عباد الله ـ يكاد يمتلئ بالمسلمين، يقبلون على الله ويقفون بين يديه خاشعين متضرعين، رفع الإمام يديه بعد الركعة الثانية داعيا الله تعالى بالثبات والنصر والفرج، لقد تذكّرت لحظتها ما قالته الهالكة (جولدا مايير): "إذا بلغ عدد المصلين في صلاة الفجر عددَ المصلين في صلاة الجمعة فقد هزمت إسرائيل"، لقد وجدنا إقبالا على الدين وصلةً بالله عز وجل، وتمثل ذلك في إقبال المئات بل الآلاف من الفتيان والفتيات على حفظ كتاب الله، ستّة عشر ألف طالب وطالبة تحتضنهم حلقات تحفيظ القرآن في مساجد غزة، هم بإذن الله تعالى سيكونون جيلَ النصر والتحرير، وتم اختيار الصفوة منهم لإتمام حفظ كتاب الله في مشروع خيري هو "مشروع الشفيع" لحفظ القرآن الكريم وكتُب الحديث، يخرج المئات ممن أتموا حفظ القرآن كاملا، وكم كان مفرحا لقلوبنا ونحن نتجوّل في حلقات ذلك المشروع ونستمع لتلاوة ذلك النشء الذي أقبل على كتاب الله برغبة وجدّ، فقد آمنوا بأن المعطي هو الله وأن الكافي هو الله وأن الناصر هو الله، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 126].

نسأل الله تعالى أن يفرّج الكربة ويثبّت القلوب ويحقق النصر وأن ينصر المؤمنين ويذلّ الكافرين والمتكبرين.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ناصر المؤمنين وولي المتقين ومذل الجبابرة والمتكبرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

وبعد: معاشر المؤمنين، إن مما أثار الإعجاب في نفوسنا والأمل في قلوبنا ذلك الصبر والجلد والثبات الذي رأيناه في أهل غزة، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، شبابا وشيبا، على الرغم من تعدد النكبات والويلات وجَور الأعداء وخيانة الأدعياء وشدة الحصار، إلا أنّ ذلك كله لم يكن ليزعزع الإيمان في قلوبهم ولا الأمل في نفوسهم، يقولون: نجوع ولا نركع، ونتألم ولا نخضع، قلوبهم متعلّقة بالله، ونفوسهم واثقة بنصر الله، وإذا اجتمعت التقوى مع الصبر في الأمة ـ عباد الله ـ فقد استجلبت معية الله وحفظه ونصره، قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 146-148].

فواصلوا ـ أثابكم الله ـ دعمكم، فمن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان مسلما أعانه الله، ومن نصر مسلما نصره الله، ومن آوى مسلما آواه الله، ومن ستر مسلما ستره الله، ومن خلف مجاهدا ومرابطا في أهله بخير فقد شاركه الأجر. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لصدقاتكم ونفقاتكم أثرا وخيرا وبركة وقبولا هي سر الأمن والأمان وباب لرضا الكريم المنان، وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 110].

 

.