دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث
اعتقاد الفضل لبقعة بغير دليل افتراء وضلال وقول عليل
اعتقاد الفضل لبقعة بغير دليل افتراء وضلال وقول عليل
زيَّن الشيطان لكثير من الناس تقديس مواضع وأمكنة بغير برهان أو دليل، فانطلت على الجمع الغفير روايات موضوعة ذات خطر كبير، فالتساهل قد دبَّ في مثل هذه المواطن بغير نكير.
قال الشوكاني رحمه الله:
توسَّع المؤرخون في ذكر الأحاديث الباطلة في فضائل البلدان، ولاسيما بلدانهم؛ فإنهم يتساهلون في ذلك غاية التساهل، ويذكرون الموضوع، ولا ينبِّهون عليه، كما فعل الديبع في تاريخه الذي سماه: "قرة العيون بأخبار اليمن الميمون"، وتاريخه الآخر الذي سماه: "بغية المستفيد بأخبار مدينة زبيد" مع كونه من أهل الحديث وممن لا يخفى عليه بطلان ذلك، فليحذر المتدين من اعتقاد شيء منها أو روايته؛ فإن الكذب في هذا قد كثر، وجاوز الحد، وسببه: ما جبلت عليه القلوب من حب الأوطان والشغف بالمنشأ. اﻫ. ([1])
فأمر الفضائل موقوف على ثبوت النص وما لا فلا، فإنها ليست من باب الاجتهاد ولا دخل لها بالعقل والرأي، إنما مردها إلى الله وإلى رسوله r.
فلما غفل الناس عن هذا الأصل تقربوا إلى الله تعالى- زعموا- بالذهاب إلى أماكن ومواضع ظنوا أنها فاضلة فاتخذوها مهاجرًا وعيدًا، قصدوا الخير لكنهم ضلوا السبيل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها، أو قناة جارية، أو جبلًا، أو مغارةً، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوعٍ من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به، لا عينًا ولا نوعًا.
وأقبح من ذلك: أن ينذر لتلك البقعة دهنًا لتنوَّر به، ويقول: إنها تقبل النذر، كما يقول بعض الضالين. فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم، منهم: أحمد في المشهور عنه، وعنه رواية هي قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما: أنه يستغفر الله من هذا النذر، ولا شيء عليه. والمسألة معروفة.
وكذلك إذا نذر طعامًا من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين أو البئر، وكذلك إذا نذر مالًا من النقد أو غيره للسدنة، أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة الذين كانوا للَّاتِ والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم الخليل إبراهيم إمام الحنفاء r :(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) ([2]) (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ(([3]) والذين أتى عليهم موسى عليه السلام وقومه بعد مجاوزتهم البحر كما قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون) ([4]).
فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل في الشريعة للمجاورين فيها: نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو سدنة الأبداد التي بالهند والمجاورين عندها.
ثم هذا المال المنذور: إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع، مثل أن يصرفه في عمارة المساجد، أو للصالحين من فقراء المسلمين الذين يستعينون بالمال على عبادة الله وحده لا شريك له كان حسنًا.
فمن هذه الأمكنة: ما يظن أنه قبر نبي، أو رجل صالح، وليس كذلك، يظن أنه مقام له وليس كذلك.
فأمَّا ما كان قبرًا له أو مقامًا: فهذا من النوع الثاني، وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه.
فمن ذلك: عدَّة أمكنة بدمشق، مثل: مشهد أُبي بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف بين أهل العلم: أن أُبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق. والله أعلم قبر من هو؟ لكنه ليس بقبر أُبي بن كعب صاحب رسول الله r بلا شك.
وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال: إن فيه قبر هود عليه السلام، وما علمت أحدًا من أهل العلم ذكر أن هودًا النبي مات بدمشق، بل قد قيل إنه مات باليمن، وقيل: بمكة، فإن مبعثه كان باليمن، ومهاجره بعد هلاك قومه كان إلى مكة، فأما الشام فلا هي داره ولا مهاجره. فموته بها والحال هذه مع أن أهل العلم لم يذكروه بل ذكروا خلافه في غاية البعد.
وكذلك مشهد خارج الباب الغربي من دمشق يقال: إنه قبر أويس القرني، وما علمت أن أحدًا ذكر أن أويسًا مات بدمشق، ولا هو متوجه أيضًا؛ فإن أويسًا قدم من اليمن إلى أرض العراق. وقد قيل: إنه قتل بصفين، وقيل: إنه مات بنواحي أرض فارس، وقيل: غير ذلك. وأما الشام فما ذكر أحد أنه قدم إليها، فضلًا عن الممات بها.
ومن ذلك أيضًا: قبر يقال له قبر أم سلمة زوج النبي r، ولا خلاف أنها رضي الله عنها ماتت بالمدينة لا بالشام. ولم تَقدم الشام أيضًا؛ فإن أم سلمة زوج النبي r لم تكن تسافر بعد رسول الله r. بل لعلها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية؛ فإن أهل الشام: كشهر بن حوشب ونحوه كانوا إذا حدثوا عنها قالوا: أم سلمة، وهي بنت عم معاذ بن جبل، وهي من أعيان الصحابيات. ومن ذوات الفقه والدين منهن، أو لعلها أم سلمة امرأة يزيد ابن معاوية وهو بعيد، فإن هذه ليست مشهورة بعلم ولا دين، وما أكثر الغلط في هذه الأشياء وأمثالها من جهة الأسماء المشتركة أو المغيَّرة.
ومن ذلك: مشهد بقاهرة مصر، يقال: إنه فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما، وأصله المكذوب: أنه كان بعسقلان مشهد يقال: إن فيه رأس الحسين فحمل- فيما قيل- الرأس من هناك إلى مصر، وهو باطل باتفاق أهل العلم لم يقل أحد من أهل العلم أن رأس الحسين كان بعسقلان، بل فيه أقوال ليس هذا منها، فإنه حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد بالكوفة حتى روى له عن النبي r ما يغيظه، وبعض الناس يذكر أن الرواية كانت أمام يزيد بن معاوية بالشام ولا يثبت ذلك؛ فإن الصحابة المسمين في الحديث إنما كانوا بالعراق، وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين قد علم أنها ليست بمقابرهم.
فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلًا، وإن اعتقد الجاهلون أن لها فضيلة؛ اللهم إلا أن يكون قبرًا لرجل مسلم فيكون كسائر المسلمين ليس لها من الخصيصة ما يحسبه الجهال، وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادًا. ولا أن يفعل فيها ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة، أو تكون قبرًا لرجل صالح غير المسمى فيكون من القسم الثاني.
ومن هذا الباب أيضًا: مواضع يقال: إن فيها أثر النبي r أو غيرها ويضاهي بها مقام إبراهيم الذي بمكة، كما يقول الجهال في الصخرة التي ببيت المقدس من أن فيها أثرًا من وطء قدم النبي r، وبلغني أن بعض الجهال يزعم أنها من وطء الرب سبحانه وتعالى فيزعمون أن ذلك الأثر موضع القدم.
وفي مسجد قبلي دمشق يسمى (مسجد القدم) به أيضًا أثر يقال: إن ذاك أثر قدم موسى عليه السلام، وهذا باطل لا أصل له، ولم يقدم موسى دمشق ولا ما حولها.
وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناءً على أنه رؤي في المنام هناك، ورؤية النبي أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها وتتخذ مصلى بإجماع المسلمين. وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب، وربما صوروا فيها صورة النبي أو الرجل الصالح، أو بعض أعضائه مضاهاةً لأهل الكتاب كما كان في بعض مساجد دمشق مسجد يسمى مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب t حتى هدم الله ذلك الوثن.
وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد.
وفي الحجاز منها مواضع: كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال إنه الغار الذي أوى النبي r إليه هو وأبو بكر، وأنه الغار الذي ذكره الله في قوله: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار) ([5])، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الغار المذكور في القرآن الكريم إنما هو غار بجبل ثور قريب من مكة معروف عند أهل مكة إلى اليوم.
فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت ليس من الإسلام تعظيمها بأي نوع من التعظيم، فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه، فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة فيها وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها، وكما ينهى عن إفراد الجمعة وشهر شعبان بالصوم وإن كان الصائم لا يقصد التخصيص بذلك الصوم.
فإن ما كان مقصودًا بالتخصيص مع النهي عن ذلك ينهى عن تخصيصه أيضًا بالفعل.
وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد الضرار الذي (أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) ([6]). فإن ذلك المسجد لما بني: (ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل) ([7]). نهى الله نبيه r عن الصلاة فيه، وأمر بهدمه.
وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاةً لبيوت الله وتعظيمًا لما لم يعظمه الله وعكوفًا على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصدًّا للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه الله على لسان رسوله r، واتخاذها عيدًا، والاجتماع عندها واعتياد قصدها فإن العيد من المعاودة.
ويلتحق بهذا الضرب- ولكنه ليس منه- مواضع تدعى له خصائص لا تثبت مثل كثير من القبور التي يقال إنها قبر نبي، أو قبر صالح، أو مقام نبي، أو صالح، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك صدقًا وقد يكون كذبًا.
وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب، فإن القبور الصحيحة والمقامات الصحيحة قليلة جدًّا.
وكان غير واحد من أهل العلم يقول: لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا محمد r وغيره قد يثبت غير هذا أيضًا، مثل قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وقد يكون علم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق، فإن الأرض غيرت مرات فتعيين قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت إلا من طريق خاصة، وإن كان لو ثبت به حكم شرعي مما قد أحدث عندها.
ولكن الغرض أن نُبين هذا القسم الأول من تعظيم الأمكنة التي لا خصيصة لها: إما مع العلم بأنه لا خصيصة لها، أو مع عدم العلم بأن لها خصيصة؛ إذ العبادة والعمل بغير علم منهي عنه، كما أن العبادة والعمل بما يخالف العلم منهي عنه ولو كان ضبط هذه الأمور من الدين لما أُهمل، ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ.
وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عن السدنة والمجاورين لها، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله.
وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلًا دعا عندها فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك، وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام.
فإن القوم كانوا أحيانًا يخاطبون من الأوثان، وربما تقضى حوائجهم إذا قصدوها؛ ولذلك يجري لهم مثل ما يجري لأهل الأبداد من أهل الهند وغيرهم، وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج، والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله، كأنه يمينه، والمساجد التي هي بيوته.
وإنما عُبدَت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض.
وقد صحَّ عن النبي r أنه نهى عن النذر وقال:« إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ». فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه ولا يأتي بخير، فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع.
وأمَّا إجابة الدعاء: فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرًا قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي.
فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون وينصرون، ويعافون ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها.
وقد قال الله تعالى:(كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) ([8]).
وقال تعالى:(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)([9]).
وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها ليس هذا موضع تفصيلها.
وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة، ولعلِّي إن شاء الله أبيِّن بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر([10]).
موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثية، ص12-19.
من إصدارات: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية
.