دراسات وتوثيقات / توثيق
والحق ما شهدت به الأعداء.
والحق ما شهدت به الأعداء
الكاتب / بيني موريس:
في الثاني من شهر تشرين ثاني 1948، زارت دورية من قوات جيش الدفاع الإسرائيلي منازل فخذ قبيلة بدوي صغير، عرب المواصي، الواقعة غربي بحر الجليل [بحيرة طبريا] في شمالي إسرائيل. وكانت المنطقة، مع بقية منطقة الجليل الأوسط الأعلى، قد احتلت من قبل قوات جيش الدفاع الإسرائيلي قبل نحو ثلاثة أيام أو أربعة في هجوم مدرع أطلق عليه اسم "عملية حيرام".
في بحثها عن الأسلحة، فتشت الدورية المنطقة. وفي التلة المجاورة (رقم 13) وجدت القوات بقايا جنديين إسرائيليين قطع رأسيهما وكانا قد فُقدا في مناوشة قبل شهر. وحسب تقرير الدورية التابعة للكتيبة رقم 103، "قام الرجال ]آنذاك] بإشعال النار في منازل [خيم] العرب. وعاد الرجال إلى قاعدتهم مع تسعة عشر ذكر عربي. وفي القاعدة، فُرزوا وتم التعرف على أولئك الذين شاركوا في عمليات معادية ضد جيشنا ثم أخذوا بإمرة حاييم [حايون] إلى مكان محدد وتم هناك تصفية أربعة عشر منهم. أما البقية فنقلوا إلى معسكر لأسرى الحرب" (1)
قليل من مثل وثائق الأرشيف الإسرائيلي هذه كشف النقاب عنه خلال الخمسين عاماً الماضية، جزئياً لأن الجنود والضباط الذين اقترفوا فظائع بالكاد تركوا وراءهم وصفاً لما قاموا به، وجزئياً لأن تلك الوثائق الموجودة فعلاً مودعة في أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي، حيث يضمن رقباء داخليون أن لا ترى النور أية وثائق تتعلق بصراحة بالمجازر أو الطرد. إلا إن بعض التسرب يحدث أحياناً.
ونعرف الآن، بناءً على وثائق الأمم المتحدة، ووثائق أمريكية وبريطانية، وحفنة ظهرت إلى العلن من الأرشيف الإسرائيلي المدني (أرشيف دولة إسرائيل، وهو أرشيف سياسي جزئياً ويضم مجموعات من الأوراق الخاصة ... إلى آخره) خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، أن أكثر من دزينة من المجازر ارتكبتها القوات اليهودية ضد العرب في مجرى الحرب الإسرائيلية العربية الأولى لسنة 1948 وتتدرج هذه المجازر حجماً من إطلاق النار على حفنة من المدنيين أو عدة دزينات منهم اختيروا عشوائياً واصطفوا إلى حائط قرية بعد احتلالها (كما حصل، على سبيل المثال، في قرى مجد الكروم وبعنا ودير الأسد وعيلبون وجش وصالحة وصفصف وسعسع خلال عملية حيرام) إلى ذبح نحو مائتين وخمسين مدنياً ومعتقلاً أثناء إطلاق نار في مدينة اللد الواقعة جنوبي شرق تل أبيب، عصر الثاني عشر من تموز سنة 1948.
وعبر الأعوام، كشف الإفراج عن وثائق جديدة، ومقابلات صحفية جرت مع شهود ومشاركين، مجازر إسرائيلية ارتكبت بحق المدنيين وأسرى الحرب العرب في الحروب اللاحقة في سنوات 1956، 1967، 1973 و 1982. شكل هذا الإفشاء صدمة لمعظم الجمهور الإسرائيلي الذي رُبِّي على الإيمان بتفوقه الأخلاقي وعلى مبدأ "طهارة السلاح". اعتُقد سابقاً أن القوات اليهودية، في إطار الحركة السرية الرئيسية، الهاغاناه، قبل 1948، وجيش الدفاع الإسرائيلي منذ تلك السنة، قد دربت على عدم تلطيخ أسلحتها باقتراف فظائع. ورغم ذلك، وعندما ظهرت فظائع إلى النور، كان يتم دائماً صرف النظر عنها باعتبارها استثناء نادراً وحدثاُ مفرداً.
والحقيقة عكس ذلك، وليست مفاجئة. فخلف سلسلة الحروب الإسرائيلية العربية يكمن كره عميق من كل طرف للآخر، ومخاوف وجودية عميقة بين اليهود الإسرائيليين أنفسهم وبين العرب الفلسطينيين أنفسهم أيضاً. أكثر من ذلك، وقعت الحروب، في الأقل جزئياً، في مناطق مكتظة بالمدنيين (فلسطين كلها سنة 1948، قطاع غزة سنة 1956 وسنة 1967، الضفة الغربية ومرتفعات الجولان سنة 1967، جنوبي لبنان وبيروت سنة 1982). وحتماً تقريباً، أوذي مدنيون وقتلوا، أحياناً عمداً، وفي الأغلب دون قصد.
وكانت أكثر هذه الحروب دموية وفظاعة، من دون شك، حرب الاستقلال لسنة 1948 التي بدأت من شهر تشرين ثاني 1947 إلى شهر أيلول سنة 1948 كحرب عصابات/ أهلية بين عرب فلسطين والجاليات اليهودية المتمازجين سكناً بشكل كامل، ولكنها انتهت، من شهر آيار 1948 إلى شهر كانون ثاني 1949، إلى حرب تقليدية بين جيوش الدول العربية الغازية ودولة إسرائيل المولودة حديثاً. ولأن العرب شنوا الحرب- العرب الفلسطينيون في شهري تشرين ثاني وكانون أول 1947 والدول العربية في شهر أيار1948 ولأن الحرب كانت حرباً طويلة الأمد ومكلفة جداً لليهود (الذين فقدوا ستة آلاف قتيل، أو 1% من مجموع سكان يبلغ 000, 650) تفاقم الغضب ضد العرب وعزز النزوع إلى ارتكاب فظائع. ومما غذى الاستعداد لارتكاب الفظائع من كلا الطرفين التقارير- الدقيقة أحياناً، الوهمية أحياناً أخرى- التي كانت ترد عن فظائع ارتكبها الطرف الآخر؛ كان الاقتصاص دافعاً متكرراً للعرب والإسرائيليين على حد سواء.
اثنتان من المجازر الثلاثة المرتكبة من قبل العرب ضد اليهود أثناء حرب 1948، كان دافعها الفظائع اليهودية ضد العرب. ففي الثلاثين من شهر كانون أول 1947, ألقى إرهابيو منظمة إرغون زفاي لئومي (المنظمة العسكرية القومية) قنبلة على موقف باصات عربي عند مدخل مصفاة بترول حيفا. قُتل من العرب نصف دزينة، وجرح كثيرون. رد العمال العرب الموجودون داخل المصفاة فوراً بالهجوم على زملائهم العمال اليهود بالسكاكين والعتلات والعصي، قاتلين تسعة وثلاثين منهم. (وبدورها، ردت الهاغناه في ليلة الحادي والثلاثين من كانون أول بالإغارة على قرية بلد الشيخ المجاورة, حيث عاش معظم العمال، ناسفة عدة دزينات من المنازل وقاتلة نحو ستين عربياً).
وبالمثل, كان هجوم العرب غير النظاميين على قافلة من الأطباء والممرضات والطلبة ومليشيات الهاغاناه تشق طريقها عبر القدس الشرقية إلى المسكوبية (قافلة المسكوية) في الثالث عشر من شهر نيسان اقتصاصاً أيضاً على الهجوم الذي قامت به القوات اليهودية (المشكلة من منظمات الهاغاناه وإرغون وليهي) على قرية دير ياسين العربية، الواقعة غربي القدس، في التاسع من نيسان سنة 1948 والذي قتل أثناء القتال فيها أو بعده بقليل نحو مائة قروي.
أما ثالثة فظائع الحرب العربية وأكبرها، المجزرة التي قام بها بعض العرب غير النظاميين وكان نتيجتها قتل دزينات من قوات الهاغاناه المستسلمة، بمن فيهم نحو عشرين امرأة، في كفار عصيون في مجمع مستوطنات عصيون الواقع شمالي الخليل، في الثالث عشر من شهر أيار، فلم يستفزها أي هجوم يهودي مباشر أو فظاعة.
ولكن في المجمل، اقترفت القوات اليهودية- الهاغاناه وإرغون وليهي (لوحوماي حيروت يسرائيل، أو مقاتلو إسرائيل من أجل الحرية، أو "عصابة شتيرن"، كما كانت السلطات البريطانية تدعوهم)، وجيش الدفاع الإسرائيلي- فظائع أكثر بكثير سنة 1948 من القوات العربية، لأنهم كانوا، لمجرد ذاك فقط، في موقع يستطيعون معه فعل ذلك
فقد اجتاحت الهاغاناه، ولاحقاً جيش الدفاع الإسرائيلي، مناطق عربية واسعة مأهولة بالسكان- نحو أربعمائة قرية وبلدة- بينما احتلت القوات العربية أو اجتاحت أقل من دزينة من المستوطنات اليهودية في مجرى الحرب. وإلى هذا، يجب أن يضاف أن رحى الحرب الأهلية في فلسطين التي انتهت في منتصف شهر أيار 1948، دارت في بلد أداره البريطانيون اسمياً. فلم يكن بإمكان لا اليهود ولا العرب احتجاز أسرى و، لشهور، لم يكن لدى أي منهم التسهيلات اللازمة لاحتجاز أعداد كبيرة، ولذا إما لم يُأخذ الأسرى أو أطلق الرصاص عليهم.
وإذا وضعنا المجازر جانباً، نستطيع القول إن حرب 1948 اتسمت بقتل عشوائي كبير للمدنيين العرب قامت به القوات اليهودية. فكانت الدوريات والكمائن تقوم عشوائياً بقتل المدنيين الذين ينتشلون الطعام من القمامة أو يحاولون عبور خطوط الجبهة لأسباب أخرى.
ومن الأدلة المتوفرة، سيظهر أن أي جندي إسرائيلي أو ضابط لم يعاقب أبداً لصلته بهذه الفظائع. وبالمثل، وبالقدر الذي تسمح الأدلة به، لم يحاكم أبداً أي جندي عربي نظامي أو غير نظامي لقتل إسرائيليين أو يعاقب.
ولم تقتصر الفظائع على القتل؛ فقد طُرد عديد القرويين وسكان المدن من بيوتهم على يد القوات اليهودية الفاتحة. ووقعت أكبر عملية طرد في مدن اللد والرملة في الثاني عشر من تموز والثالث عشر منه، حين سٌيّر أكثر من خمسين ألف شخص على الطرق شرقاً. وعندما يستعيد المرء الأحداث، يصبح واضحاً أن ما حدث سنة 1948 في فلسطين كان نوعاً من التطهير العرقي للمناطق العربية قام به اليهود. ومن المستحيل القول كيف تم فعلاً طرد العديد من الـ 000، 700 فلسطيني أو نحوهم الذين أصبحوا لاجئين سنة 1948، بحيث يمكن تمييز عملية الطرد هذه من مجرد الفرار من منطقة القتال. وما هو مؤكد أن الجميع تقريباً منعوا من العودة إلى بيوتهم أو مناطقهم بقرار من الحكومة الإسرائيلية اتخذته في شهر حزيران سنة 1948، وبناء على ذلك برصاص جيش الدفاع الإسرائيلي. وبالمثل، فإن جميع الأربعمائة قرية عربية التي اجتاحتها إسرائيل وأفرغتها من سكانها دمرت تماماً على مدى سنة 1948، جزئياً لمنع اللاجئين من العودة. وأبداً لم يحاكم أي جندي أو قائد يهودي أو يعاقب لقيامه بطرد جماعة عربية أو لتدميره قرية عربية (رغم أنه، وحسب ما تسمح به الشواهد، لم يحاكم أو يعاقب أي جندي أو مسؤول يهودي أبداً لعدم طرده العرب أو لعدم تدميره قرية عربية أو حيّاً من الأحياء المدنية).
وفي مجرى الحرب، طرد جنود عرب أو غير نظاميين حفنة من الجماعات اليهودية. صحيح أن العرب طردوا الجماعات اليهودية من كل موقع اجتاحوه، إلا إن مثل تلك المواقع كانت أقل من دزينة. ويشمل ذلك الحي اليهودي في القدس القديمة الذي دمرت فيما بعد مبانيه؛ تجمع مستوطنات عصيون- كفار عصيون، ماسوعوت يتسحاق، رفادي، وعين تسوريم (ومرة أخرى، دمرت المباني على يد ناهبيها- فاتحيها)؛ وكفار داروم، في قطاع غزة. (جميع هذه المواقع أعيد استيطانها من قبل يهود بعد أن استولت إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب 1967. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ظلت مئات المواقع التي أُخرج العرب منها في 1948، والبيوت المدمرة، غير مأهولة بالسكان أو أعاد اليهود استيطانها).
بعد 1948، تحسن الانضباط في جيش الدفاع الإسرائيلي، كما تحسنت آداب سلوكه تدريجياً. وبعد ذلك، وفي كل حرب لاحقة، وفي فترة الانقطاع بين الحروب، وقعت فظائع أقل باستمرار، وتلك ملاحظة ذهب الجنرال رافييل إيتان، رئيس هيئة أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، بعيداً في إبرازها عندما هوجم بعنف لسلوك قواته أثناء غزو لبنان سنة 1982.
وفي شهري تشرين أول- تشرين ثاني 1956، اجتاحت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي قطاع غزة الذي ظلت تسيطر عليه إلى شهر آذار 1957. وأثناء المعركة للسيطرة على هذه المنطقة المكتظة بالسكان، وخلال الأسابيع الأولى من الاحتلال، قتل جيش الدفاع الإسرائيلي نحو خمسمائة مدني ، إما أثناء القتال الفعلي أو في سلسلة المجازر اللاحقة. وفي مكان آخر، أثناء حرب السويس- سيناء، رُوي أن قوات جيش الدفاع الإسرائيلي قتلت قوات مصرية فارة، غير مسلحة في الأغلب، بالمئات و، في بعض الأحيان، أسرى حرب. وعلى سبيل المثال، في نهاية شهر تشرين أول 1956، قتل لواء مظلات جيش الدفاع الإسرائيلي نحو ثلاث دزينات من أسرى الحرب قرب ممر متلى. ودفع كشف النقاب عن هذا الشأن سنة 1995 المصريين إلى تقديم احتجاج إلى القدس والمطالبة بتحقيق (لم تعلن نتائجه مطلقاً).
وأثناء حرب حزيران لسنة 1967 وحرب تشرين أول (أكتوبر) لسنة 1973، وقعت حالات قامت فيها قوات جيش الدفاع الإسرائيلي بقتل قوات عربية فارة، في الأغلب غير مسلحة، كما قتلت عمداً أسرى حرب. ومرة أخرى، توفرت للإسرائيليين المنتصرين فرصة أكبر لاقتراف الفظائع مما توفرت لأعدائهم العرب، إلا إن أدلة موجودة تثبت أيضاً أن القوات العربية، عندما أتيحت الفرصة لها، قتلت إسرائيليين مستسلمين وأسرى حرب. وقعت مثل تلك الحوادث في الأيام الأولى من حرب 1973، حين اجتاح السوريون جزءاً من مرتفعات الجولان، وحين اجتاح المصريون خط بارليف الذي أقامه جيش الدفاع الإسرائيلي على طول الضفة الشرقية لقناة السويس. وقتل المدنيون العرب وقوات الأمن العربية أيضاً طيارين إسرائيليين أُسقطوا في كلا الجبهتين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم تصدر، في أعقاب هاتين الحربين، أية تقارير عن فظائع ارتكبتها قوات جيش الدفاع الإسرائيلي بحق المدنيين العرب. صحيح أن حرب 1967 (عندما اجتاح جيش الدفاع الإسرائيلي مدناً مكتظة بالسكان في الضفة الغربية وقطاع غزة) وحرب 1973 (عندما احتل جيش الدفاع الإسرائيلي ضفة قناة السويس الشرقية المأهولة بالسكان) قد تميزتا بعدم وجود إصابات مدنية تقريباً، إلا إن جيش الدفاع الإسرائيلي دمر، فور اندلاع حرب حزيران 1967، أكثر من نصف دزينة من القرى العربية في الضفة الغربية (عمواس، يالو، بيت نوبا، خربة بيت مرسم، النبي صموئيل، الخ) وطرد سكانها. وفيما بعد، حولت المنطقة التي كانت تقع فيها القرى الثلاث الأولى إلى محمية طبيعية، منتزه كندا، الذي لا يزال إلى هذا اليوم مكان التنزه الإسرائيلي المفضل.
إجمالاً، وأثناء حرب 1967 وعقب انتهائها فوراً، ترك ما بين 000, 200 إلى 000، 300 فلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الأردن، وكان العديد منهم لاجئين للمرة الثانية، إذ انتقلوا إلى الضفة الغربية سنة 1948 من مناطق أصبحت إسرائيلية. إضافة إلى ذلك، فرّ ما بين خمسين ألفاً إلى تسعين ألفاً من المدنيين السوريين (يوجد خلاف حول العدد الحقيقي) من منازلهم أو طردوا من مرتفعات الجولان أثناء الاستيلاء عليها من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي. وكما في 1948، لم تسمح إسرائيل إلا لقلة من هؤلاء اللاجئين، من الضفة الغربية وغزة والجولان، بالعودة، ولا يزال معظمهم يعيشون في مخيمات في الأردن وسوريا.
بالمثل، في سنة 1982، ارتكب جيش الدفاع الإسرائيلي الذي اجتاح جنوب لبنان، بما في ذلك بيروت وطريق دمشق بيروت، فظائع قليلة متعمدة، رغم أن رحى الحرب دارت في منطقة مكتظة جداً بالسكان جداً ووقع فيها أكثر من نصف دزينة من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي قاومت الغزاة بصلابة.
ورغم ذلك، قتل الإسرائيليون، بطائراتهم ومدافعهم ودباباتهم، آلاف المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، بينما كانت القوة الغازية تندفع شمالاً، ناشرة أمامها ستارة من النار لإضعاف المقاومة ولإبقاء إصابات جيش الدفاع الإسرائيلي قليلة. ويوجد خلاف حول العدد الحقيقي للمدنيين العرب الذين قتلوا (يقول الرسميون الإسرائيليون إنهم "مئات"؛ ويقول اللبنانيون والفلسطينيون إنهم "آلاف"، وحتى وصل عددهم، كما ورد في أحد التقارير، إلى ثمانية عشر ألفاً). وما لا يوجد خلاف عليه هو أن شوارع وحارات بأكملها في مدن لبنانية- صور، صيدا، بيروت- قد دمرت، وأن عدداً من مخيمات اللاجئين قد دمر معظم أحيائها (الرشيدية قرب صور، عين الحلوة قرب صيدا، وغيرهما) أثناء القتال.
وطبقا لما يقوله الناطقون الرسميون باسم الحكومة الإسرائيلية، كان سبب غزو إسرائيل للبنان، أو ما دفع إليه، هو "الإرهاب الفلسطيني" الذي انطلق من جنوب لبنان ضد أهداف إسرائيلية. وفي الحقيقة، وخلال الأعوام بين تموز 1981 وحزيران 1982 لم تنطلق، عملياً، أية هجمات إرهابية من لبنان ضد إسرائيل. ولكن بين 1969 و1981 كان جنوب لبنان قاعدة لانطلاق هجمات منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف.) ضد أهداف إسرائيلية، أشهرها عملية الطريق الساحلي في شهر آذار 1978، عندما سيطر إرهابيون فلسطينيون قدموا بحراً من لبنان على باص إسرائيلي في الطريق بين تل أبيب وحيفا وقتلوا أكثر من ثلاثين راكباً.
وفي شهر أيلول 1982، وقعت أكبر فظاعة متعمدة في حرب لبنان، ذَبْحُ عدة مئات من اللاجئين الفلسطينيين (مرة أخرى يوجد خلاف حول الرقم الحقيقي، رغم أنه يبدو أن نحو خمسمائة قد ماتوا) في مخيمي صبرا وشاتيلا، أو في أحياء جنوبي بيروت، على يد رجال المليشيات المدنية اللبنانية التابعة لحزب الكتائب. ورغم أن رجال المليشيا هؤلاء قد ذهبوا إلى المخيمين، أو أرسلوا إليهما من قبل القوات الإسرائيلية المحتلة، لم يتعمد الإسرائيليون القيام بالمجزرة أو يخططوها، رغم أن وزير الدفاع الإسرائيلي، إرئيل شارون، قد تم إقصاؤه لاحقاً من منصبه بناء على توصية لجنة تحقيق. فقد وجدته لجنة كاهان "مهملاً" ومسؤولاً بشكل غير مباشر عما حدث. إن المجزرة، وما سبقها من تدمير لمخيمات اللاجئين في الجنوب، ينسجم مع سياسة شارون القاضية بدفع جماعات اللاجئين شمالاً بعيداً عن حدود إسرائيل بأكثر ما يمكن ذلك، ومع رغبة حزب الكتائب بتخليص لبنان تماماً من سكانه الفلسطينيين (معظمهم مسلمون).
وفي الأعوام التي تلت ذلك، طفا إلى السطح، في الصحف الإسرائيلية، تقريران فقط عن فظاعتين متعمدتين مات فيهما قرويون لبنانيون وفلسطينيون، ومن المشكوك فيه وقوع المزيد منها. إلا إنه من 1982- 1985، عندما ناضلت قوات الأمن الإسرائيلية دون نجاح لقمع حملة المقاومة الشعبية ضد احتلالهم لجنوب لبنان، أعدم رجال الأمن الإسرائيليون، أحياناً، المناضلين كما اعتقلوا آلافاً من المشبوهين دون محاكمة، وعذبوا المشتبه بهم بشكل منتظم، ودمروا أحياناً منازل مقاتلي المقاومة.
وطبعاً، قادت الحروب الإسرائيلية العربية أيضاً إلى سيطرة إسرائيل على أرض أجنبية مأهولة بالسكان (بغض النظر عما إذا اعتبرت تقنياً احتلال أرض عدو في الضفة الغربية أم لا)، الأمر الذي نجم عنه مقاومة لذلك الوجود ومحاولات إسرائيلية لقمعها.
فمن 1967 إلى 1995، احتلت إسرائيل وحكمت الضفة الغربية وقطاع غزة المأهولين بالسكان الفلسطينيين، وازداد عدد السكان باستمرار خلال هذه الفترة من مليون إلى مليونين.
دورياً، تشكل مجموعات من السكان المحليين لتقاوم الاحتلال، فتستخدم أحياناً وسائل سياسية لا عنفية (إضرابات، إغلاق مدارس، تظاهرات)، وفي أحيان أخرى توظف العنف الذي سماه الفلسطينيون "مقاومة مسلحة" والإسرائيليون "إرهاباً". وكثيراً ما تشمل هذه الأعمال التي تقع في الأراضي المحتلة وإسرائيل نفسها، وبالمثل على طول حدود إسرائيل مع الأردن ولبنان، هجمات متعمدة على المدنيين، الأمر الذي يمكن اعتباره إرهاباً بأي تعريف عادي. وعلى سبيل المثال، في فترات إرهاب الأصوليين الإسلاميين القصيرة بين 1994- 1996، دمر الانتحاريون باصات إسرائيلية في مراكز تل أبيب والقدس، قاتلين دزينات من المدنيين الإسرائيليين. ردت إسرائيل على كلا شكلي النشاط، العنيف وغير العنيف، بتدابير متنوعة انتهك عديدها القانون الدولي واتفاقيات حقوق الإنسان. وعلى سبيل المثال، قامت إسرائيل، خلال عقود من الزمن، ودون محاكمة، بطرد مئات من النشطاء السياسيين من الأراضي المحتلة، اشتبه في أن بعضهم على صلات بـ "الإرهاب"؛ واشتبه بآخرين لمجرد قيامهم بـ "الإثارة" و"التحريض" السياسيين.
وعادة ما ادُّخرت عقوبات صارمة للأشخاص المشتبهين بما تسميه إسرائيل إرهاباً أو التحريض على الإرهاب. ففي خلال السنوات بين 1967- 1981، هدمت السلطات الإسرائيلية أو ختمت بالشمع نحو 1300 منزلاً، عادة ما تكون لمن اشتبه بأنهم إرهابيون. ودمرت 700 منزل آخر أو نحوها أو ختمت بالشمع أثناء الانتفاضة، انتفاضة الفلسطينيين شبه العنيفة التي وقعت ما بين 1987- 1993. وبعامة، عادة ما تكون المنازل المدمرة منازل أخوة المشتبه بهم وأخواتهم ووالديهم وأطفالهم، مما يجعل الإجراء شكلاً محدوداً من أشكال العقوبات الجماعية. وعادة لا يسمح للعائلات إعادة بناء منازلها. وعادة ما هدمت المنازل قبل تقديم المشتبه به إلى المحاكمة أو قبل الحكم عليه بأية جريمة.
ومن المؤكد أن أكثر الإجراءات المضادة للمقاومة شيوعاً هو الاعتقال. فخلال الثلاثين عاماً من الاحتلال مرّ أكثر من خمسين ألف فسطيني على نظام السجن الإسرائيلي، معظمهم أثناء أعوام الانتفاضة. واعتقل آلاف آخرون بأوامر إدارية، أي أنهم لم يحاكموا أو يدانوا أبداً من قبل أية محكمة قانونية. فالسلطات العسكرية لديها سلطة اعتقال أشخاص لستة أشهر دون محاكمة، قابلة للتجديد بإذن قاضٍ. ولا تزال السجون الإسرائيلية تحتفط بأكثر من مئة معتقل إداري، قلة منهم أمضت أعواماً في السجن دون أن يقفوا أبداً أمام محاكمة.
غير إن معظم السجناء- تضم السجون الإسرائيلية اليوم نحو خمسة آلاف سجين فلسطيني- حوكموا من قبل محاكم عسكرية. أفرجت المحاكم عن عدد ضئيل جداً من المشتبه بهم، وكثيراً ما انتقدت الأحكام بأنها صارمة بشكل غير عادل. إذ يمكن لصبي يبلغ الخامسة عشرة من عمره أن يمضي عاماً أو عامين في السجن لرميه حجراً على سيارة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى مالت المحاكم العسكرية والمدنية الإسرائيلية إلى أن تكون لينة جداً مع جنود أو مدنيين إسرائيليين قتلوا فلسطينيين، وكثيراً ما تجمد الأحكام أو الأوامر ويكتفي بفرض نوع من الخدمة عليهم بين جماعاتهم. هذا وقد استعمل جهاز الأمن الإسرائيلي (وأقل منه جيش الدفاع الإسرائيلي ووحدات الشرطة) أشكالاً متنوعة من التعذيب بانتظام، مثل الحرمان من النوم، الضرب، الحمامات الباردة، والأوضاع المؤلمة، طوال الأعوام، ضد المشتبه بأنهم إرهابيون (2).
وفي مجرى الانتفاضة، قتلت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، برصاص عادي ورصاص بلاستيكي، نحو ألف فلسطيني، العديد منهم قاصرون. وقتل معظمهم أثناء اشتباكات بين الجنود ورماة الحجارة المتظاهرين.
وأثناء الانتفاضة، قتلت دزينات من المشتبه بأنهم إرهابيون على يد وحدات عسكرية أو وحدات شرطة سرية طالما اتهمت بالتصرف كفرق موت. في مواجهة هذا الاتهام قال المتحدثون الرسميون الإسرائيليون إن الظروف الشاذة لعمليات مثل هذه الوحدات- فرق صغيرة ترتدي ثياباً عربية تعمل في وسط البلدات العربية دون دعم وثيق من قوات نظامية- تجعل سرعة ضغط الإصبع على الزناد أمراً بديهياً للحفاظ على الذات. ولكن خلال الستة أعوام من عمر الانتفاضة، لم يقتل العرب أو يجرحوا أبداً إلا حفنة من مثل هذه القوات السرية، الأمر الذي يطرح تساؤلات عما إذا كانوا حقاً في وضع خطر جسيم نموذجي أثناء عملياتهم.
وبصرف النظر عن أي عمل محدد ضد المشتبه بأنهم إرهابيون، لجأت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي إلى إجراءات جماعية بالجملة لتقمع التمرد بين سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وكثيراً ما فرض حظر تجول من أربع وعشرين ساعة أو حظر تجول من الغسق إلى الفجر على مدن أو قرى بأكملها- منعاً للسكان من الذهاب إلى العمل أو من العيش حياة عادية لأيام متعاقبة.
وقد تعرضت إدارة إسرائيل للأراضي المحتلة للنقد ولا تزال، جزئياً لأن إسرائيل تدعي أنها ليست مجبرة قانونياً على تطبيق شروط اتفاقية جينيف الرابعة المتعلقة باحتلال الأراضي. صحيح أن إسرائيل طرف في جميع اتفاقيات جينيف الأربع، إلا إنها لم توقع البروتوكولين الإضافيين الملحقين بها لسنة 1977. وتقول الحكومة إنها تطبق في الممارسة الفعلية ما تسميه "أحكام" الاتفاقية الرابعة "الإنسانية" على الأراضي المحتلة، دون تحديد أية أحكام هي الأحكام "الإنسانية". هذا وقد هاجم الفلسطينيون والدول العربية هذا الموقف غير المقبول من قبل حليف إسرائيل الأساسي، الولايات المتحدة الأمريكية، أو من قبل أية دولة رئيسية أخرى.
وأحد أسباب رفض إسرائيل تطبيق اتفاقية جينيف الرابعة قانونياً، هو أن حكومة حزب العمل التي كانت في سدة الحكم سنة 1967 خشيت من أنها إن طبقت الاتفاقية التي تشير مادتها الثانية إلى "جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لأراضـي طرف سام متعاقدٍ "، فإنها ستعترف فعلياً بالأردن سيداً سابقاً عليها. فإسرائيل تعتبر الأردن محتلاً في حالة حرب معها احتل الضفة الغربية بشكل غير شرعي وألحقها بشكل غير قانوني.
في الممارسة العامة، تعمل المحاكم الإسرائيلية، مسترشدة بإرشادات المحكمة العليا، في ضوء القانون العرفي الدولي المتعارف عليه وتلك الاتفاقيات الدولية التي تم تبنيها في القانون الإسرائيلي الداخلي. وهكذا، يوجد انفصام بين موقف إسرائيل الرسمي العلني في المنتديات الدولية وبين ممارستها القانونية في الأراضي المحتلة.
وكخلاصة، أدت الحروب الإسرائيلية العربية، مثلها مثل معظم الحروب، إلى فظائع ارتكبها في الأغلب الجانب الكاسب للحرب أو الجانب القادر من موقعه على ارتكاب مثل تلك الفظائع، ضد الجنود والمدنيين على السواء. تقلصت أعداد الفظائع عدداً وتواتراً عبر الأعوام، جزئياً لأن الحروب كانت أقصر (دامت حرب سنة 1948 لسنة كاملة، أما حرب سنة 1967 فبالكاد استمرت لستة أيام) وجزئياً لانضباط أكثر بين القوات الإسرائيلية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى عنت كثافة النيران المتزايدة في الأيدي الإسرائيلية، أن القوات وهي تتقدم في مناطق حضرية، كما في سنة 1982، مالت إلى نشر ستائر نار نجم عنها إصابات مدنية بأعداد كبيرة، الأمر الذي لم يحدث في الحروب السابقة، عندما امتلك جيش الدفاع الإسرائيلي كثافة نيران أقل أو لم يكن يعمل في مناطق حضرية.
وفي الوقت نفسه، نتج عن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان الذي استمر لعقود، استعمالاً منظماً لإجراءات متنوعة تناقض القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك تعذيب المشتبه بأنهم إرهابيون، وتدمير المنازل، والاعتقال الإداري دون إجراءات متبعة، والإبعاد..
ــــــــــــــــــــ
1- "سريّة سي". تقرير الكتيبة 103، التوقيع غير مقروء، 2 تشرين ثاني 1947، إرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي 1096/49/65.
2- "بتسيليم"، "التحقيق مع الفلسطينيين أثناء الانتفاضة"، 1991، القدس؛ أيضاً "بتسيليم"، "تعذيب روتيني: وسائل تحقيق جهاز الأمن العام، القدس، 1998.
بيني موريس: أستاذ تاريخ في جامعة بن غوريون، بئر السبع، إسرائيل. وهو مؤلف "حروب إسرائيل الحدودية 1949-1956: التسلل العربي والرد الإسرائيلي والعد التنازلي لحرب السويس" (منشورات جامعة أكسفورد، 1997) و"الضحايا الصالحون: تاريخ للصراع الصهيوني العربي" (دار نشر نوف، 1999).
.